سفر

عندما هبطت الطائرة على مدرج المطار قال لنفسه : الآن فقط ابتدأت رحلة الأوراق والأختام والدمغات وتصاريح السفر وتصاريح العمل وتجديد الإجازة من الكلية ، والموظفين الكسالى والموظفات الحوامل اللاتي لا يحلو لهن وضع حملهن إلا ساعة وصوله إلى مكاتبهن نازلا من قطار الصعيد . كان يستقله في الثالثة صباحاً من محطة " المنيا " ، تلك التي بهت رونقها بعد تجديدها وتحولها إلي كتل من الأسمنت لا لون لها . كانت تحفة ببنائها القديم و سلالمها المعدنية الرشيقة ، التي تهبط بك في حنو بالغ إلي أرصفة السفر كأنها تودعك . الآن فقط ينظر إليها ويدرك أن السفر قد طال بالفعل – ثلاث سنوات لم يرجع فيها - وأن العودة تبدو مستحيلة فكل شيء قد تبدل ، و الأهداف التي جاء من أجلها تبدو بعيدة متغيرة ، مراوغة كأنها السراب ، فإنك لا تنزل النهر مرتين فلا أنت أنت ولا النهر هو النهر ، كما قال أحد الفلاسفة الذين لم يعد يذكر أحداً منهم ، هو دارس الفلسفة ومدرسها ، بعد أن دفع في التأشيرة أربعة آلاف جنيه استلفها من هنا وهناك ثم سافر بدون عقد عمل ، وظل في البيت عند معارفه لمدة سبعة أشهر بدون عمل ، يستيقظ متأخرا في الصباح فلا يجد ما يفعله خلال الوقت الطويل الذي لا يريد أن يمضي ، حتى ميعاد عودتهم من أعمالهم ، يصنع لنفسه كوباً من الشاي وساندوتش من الجبن الأبيض المعبأ في علب الكرتون .. يرشف الشاي ببطء شديد وهو ساخن للغاية . يفتح التليفزيون ..فلا يجد ما يستحق المشاهدة في كل الفضائيات التي يجلبها " الدش " ، وسرعان ما يمل منه فيقوم ليتصل بالتليفون بدكان البقالة الصغير المجاور الذي يديره بمهارة ماكرة "حمزة " الهندي ليحضر له الجريدة التي لا جديد فيها ، ينظف لهم البيت .. ويعيد ترتيب ما بعثرته فوضى العزوبية القسرية.. تمضغه الأيام وتناوشه الهموم . حتى لاحت أخيراً فرصة العمل ككاتب بالأجر اليومي بإحدى الشركات المتناثرة في كل مكان . يومها قالوا له : أي شيء أحسن من لا شيء .. فأجابهم : صحيح .. أي عمل أفضل من المكوث هكذا في المنزل كأرملة تثقلها الديون يوماً بعد يوم .
لم يغمض له جفن في القطار ، وشرب شاياً بارداً بلا طعم من عامل البوفيه الذي كان يرتدى زياً قديماً باهتاً تملأه الأقذار ، وكاد أن يخطف النقود من يده خطفاً . قال لنفسه لست أدري ماذا كنت أصنع لو لم يكن " سيد " معي في مهمة الأوراق ، تلك التي يحمل همها منذ بداية تفكيره في النزول إلي بلده و قبل أن يقطع تذكرة السفر- ذهاباً وعودة - من مكتب شركة الطيران و السياحة في دوار " البيتسا هت " بنافورته الجميلة وزهوره الرائعة الملونة .
حين نزل من أتوبيس المطار - حاملا " الهاندباج " المحشوة بالمكسرات والشامبو والتفاح الأمريكي الأحمر الذي اشتراه في آخر لحظة من السوق الحرة – قابلته موجة من وجوه ريفية ممصوصة لجنود يرتدون ملابس مدنية ، يحملون لافتات مكتوب عليها أسماء لأشخاص ينتظرونهم ، والبعض منهم كان يحمل أوراقاً صغيرة مكتوب عليها تلك الأسماء وينادون عليها بأصوات متداخلة . كانوا يأخذون منهم جوازات السفر ويختمونها بدلا من أن ينتظر أصحابها في الطابور . قال لنفسه ودوار الرحلة لا يزال بداخله : ابتدأنا الوساطات .. عمار يا بلد ، وإن كان في أعماقه يتمنى لو كان له مثلهم واسطة تريحه ولو قليلاً .
صف من الأكشاك الألمنيوم الكالح والزجاج المغبش بالتراب .. كلها مغلقة ماعدا اثنين فقط .. بكل واحد منهما ضابط و خلفه موظفة مدنية مجهدة يفصلهما حاجز زجاجي قصير . الضابط أمامه مجموعة من الأختام ومحبرة زرقاء داكنة، والموظفة تعمل أمام شاشة كمبيوتر لفحص أسماء الداخلين ، وعلى الأرض خط أصفر باهت مرسوم على البلاط القديم .. لا يجب علي الواقفين في الطابور أن يتخطوه . واحد فقط أمام الضابط والباقون خلف الخط . إذا تجاوزت هذا الخط في غير دورك ربما تسمع ما لا يرضيك . الناس كثيرة والحر كابس والعرق بدأ في الانبثاق على وجوه تعودت على مكيفات الهواء ، ليس لأنها رفاهية ولكن لأنه لا يمكن العيش بدونها .. بدونها تموت .. هكذا ببساطة .. في علب من أسمنت لا منافذ لها … تمتص الحرارة طوال النهار وتبخها عليك طوال الليل .
جاء دوره فوضع جواز السفر وبطاقة الوصول - التي كان قد كتبها في الطائرة عندما وزعتها عليهم مضيفة نافدة الصبر - أمام الضابط من خلال فتحة صغيرة في الزجاج المتسخ ، تناول الضابط الأوراق برخاوة وتأمل الصورة في الجواز ثم نظر إليه بتمعن ، فأحس بالخوف من أن يكون هناك خطأ ما أو تشابه في اسمه مع اسم أحد المدرجين في قوائم توقع الوصول . في النهاية ختم الضابط الجواز ورده إليه فأخذه بفرح مكتوم وسار نحو مكان الأمتعة التي كانت قد بدأت في النزول علي السير المطاطي الذي يتلوى كثعبان أسود عريض . دلوه علي حاجز صغير دفع للرجل الواقف خلفه اثنين من الجنيهات وأخذ عربة لنقل الحقائب . انتظر حقائبه حتى تجئ ، كان معه ثلاث حقائب غير " الهاندباج " . جاءت الحقيبة الكبيرة الضخمة أولاً ، كانت ثقيلة للغاية ، كيف التقطها .. لا يعرف ؟ ثم جاءت الحقيبتان الأخريان فأخذهما .. ووضعهم جميعا علي العربة وأخذ يدفعها بصعوبة وعجلاتها تتعثر علي البلاط الملئ بالنقر الصغيرة وسط تزاحم الناس من كل الاتجاهات . في الصالة الخضراء أعطى جواز سفره مرة أخرى لمأمور الجمرك الذي سأله : هل معك أجهزة كهربائية ، هل معك فيديو ؟ .. فأجابه : لا .. ليس معي شيء سوى بعض الهدايا البسيطة . جس المأمور الحقائب الثلاثة من الخارج ، أشار للحقيبة الكبيرة : افتح هذه الحقيبة .. وتركه يحاول رفعها ووضعها على الطاولة الخشبية القصيرة ومضى نحو مسافر آخر . بالكاد استطاع أن يرفع الحقيبة .. كانت ثقيلة فعلاً بصورة لا تصدق . هو نفسه لا يتذكر ماذا بها .. فقد تراكمت بها الأشياء طوال السنوات الثلاثة . كلما ظن أن شيئاً ما يصلح للسفر كان يلقيه كيفما اتفق في الحقيبة ، وعندما حان موعد السفر أغلقها بدون أن يراجع ما بها . رأى أنها مسألة صعبة وتحتاج إلى وقت ، وهو لا يجيد ترتيب الحقائب بل ويكره ذلك . كان العاملون معه في المكتب يتفاخرون بأنهم أغلقوا الحقائب قبل السفر بأسبوع ، في حين كان هو مازال مشغول البال بشراء الهدايا للأهل والأصدقاء . كلما ظن أنه انتهي ، كان يتذكر أسماء جديدة لا بد من أن يشتري لهم هدايا .. لابد .. قطع قماش رجالي وحريمي .. وملابس ولعب أطفال .. وعطور رخيصة من محلات "شبابنا" "وأهلاً ". لم يجد مأمور الجمرك ما كان يأمل في أن يعثر عليه داخل الحقيبة . رد إليه جواز سفره وأذن له بالمرور ، تاركاً له الحقيبة المبعثرة محتوياتها .عاني كثيراً في محاولاته لإغلاقها . نجح أخيراً .. وأنقذه عامل في المطار بأن ساعده في وضعها علي عربة نقل الحقائب .. ووقف ينظر إليه .. فأعطاه جنيهاً ، فرده العامل محتجاً : جنيه فقط .. لا هذا غير كاف .. حقيبتك مثل الجبل .. فزاد المبلغ إلي خمسة تقبلها العامل بامتعاض . دفع صاحبنا العربة بحمولتها أمامه حتى خرج من المطار .
كان قد هاتف " ممدوح " وأخبره برقم رحلته وميعادها ، وأكد عليه ألا يخبر أحداً من أسرته لأنه يريد أن يجعلها مفاجأة لهم . وجده بانتظاره في الساحة الخارجية وهو في غاية الضيق والتوتر . كان قد وصل من " المنيا " منذ ساعتين في عربته " البيجو " الأجرة خضراء اللون 7 راكب التي اشتراها له أبوه " فوزي " الساعاتي عندما أيقن أن ابنه لن يفلح في مدارس أو تعليم ، كان صديقه منذ أيام مدرسة " البارودي " الابتدائية ، التي كانت تشغل قصر شاهين بك الذي تحول بعد الثورة إلي مدرسة .. الآن قسموها إلي مدرستين يفصل بينهما سور رمادي قبيح وكل مدرسة منهما تعمل علي فترتين صباحاً وبعد الظهر بأعداد لا نهاية لها من التلاميذ .. قال ممدوح بغضب مكتوم : حمداً لله علي السلامة ، تأخرت كثيراً في الداخل ، كنت علي وشك الذهاب .. ظننت أنك لم تصل على هذه الطائرة .. قال : تمشي .. كيف ؟ المطار مزدحم للغاية ، خمس طائرات وصلوا في وقت واحد .. احمل معي الحقائب لأن فيهم واحدة ثقيلة جداً . حملا الثلاثة حقائب معا .. وقال ممدوح : ياه .. الحقيبة الكبيرة ثقيلة فعلاً .. ماذا وضعت فيها ..حجارة . 
في الطريق إلي " المنيا " الذي يستغرق أربع ساعات أخرج من " الهاندباج " الهدية التي طلبها منه خلال الهاتف .. " خرطوشة " سجائر " مارلبورو " الأحمر ، أعطاها له فقال " ممدوح " : شكراً .. ألف حمداً لله على السلامة . تبادلا أحاديث كثيرة عن الدنيا وأحوالها .. السفر والبلاد .. عن الناس والأصدقاء .. من تزوج ومن مات ومن ولد .. من غاب مثله ولم يرجع حتى الآن . 
عندما وصل إلي " المنيا " كان الوقت قد تجاوز منتصف الليل ، تحت أضواء أعمدة الإنارة لاحت له شوارعها وبيوتها التي يحبها ويحفظها بيتاً بيتاً . كانت المدينة غارقة في سكينة النوم . قال لنفسه الآن قد عدت فعلاً . وقفت السيارة عند المنزل ، وقال ممدوح : سامحني أنا مستعجل .. أعطني أجرتي .. أريد أن أنام ساعتين قبل طلوع النهار .. عندي مشاغل كثيرة غداً . 
أخذ نقوده وعدها بعناية قبل أن ينزل معه الحقائب وتركها وتركه علي باب العمارة . كانت شقتهم في الدور السادس ، وأمه على سريرها تتقلب وعيناها ترفض أن تنام .. وإخوته ساهرين أمام التليفزيون .. العمارة بدون مصعد ، والإرهاق قد حل به . قال لنفسه : هانت .. وأختار أخف حقيبة وحملها . صعد السلم محاذراً أن يصدر صوتأ عالياً حتى لا يستيقظ أحد من السكان فيراه ويرى حقائبه . وضع الحقيبة أمام باب الشقة ولم يدق علي الباب . قال انتظر حتى انتهي من الحقائب كلها .. ثم هبط وأخذ الحقيبة الثانية وصعد بها ووضعها بجوار الأولي . أحس بالإنهاك ولكنه تماسك وضغط علي نفسه وهبط مرة أخرى ليأخذ الحقيبة الأخيرة والثقيلة . حملها بصعوبة كبيرة وفي الدور الأول زاد التعب . وضع الحقيبة علي الأرض وأخذ يجرها وهي ترتطم بدرجات السلم وتصدر أصواتاً مكتومة . وصل إلى الدور الثاني .. تهدجت أنفاسه وبدأ العرق ينشع بطيئاً فوق جبينه وفي زوايا جسمه . ألتقط أنفاسه للحظة ثم واصل الصعود وواصل العرق في الانبثاق . تصاعدت الأصوات ؛ صوت الحقيبة وأنفاسه التي تعلو كلما خطا خطوة لأعلى . قال بداخله : لو يشعر به اخوته .. لو يحسون بأنفاسه .. لو يصحو واحد من الجيران ويساعده .. ربما كان منهم من ينظر من عين بابه السحرية الآن ويراه .. لماذا لا يساعده أحد ؟ . وصل إلى الدور الثالث والعرق قد تفجر شلالاّ من كل زوايا الجسد . جلس علي الأرض وأسند رأسه إلى جدار السلم ممسكاً مقبض الحقيبة في يد واليد الأخرى ترتعش باحثة عن منديل في جيب قميصه … 
قال الجار عندما سألوه إنه كان نازلا لصلاة الفجر في المسجد القريب فوجده على عتبة السلم غارقاً في عرقه ، وعندما جسه كان بارداً كالثلج .. كان ميتاً .


العين : محمد أحمد عبد العال