اللوحة الخالدة

كان يوما ربيعيا عندما هبطت بغتة تطرق باب الوجوم . على جبل أخضر مقابل البحر الفضي ، حيث الشمس تعكس أشعتها العمودية بصمت لحوح.
بدت ثنايا الأمواج صافية كلما حطت على الشاطىء اكتست بالزبد الأبيض المتلاقح بالرمل الذهبي الساخن .
حافية القدمين تتوسد الطريق الى ذلكَ البيت الفريد... رحلت ! من أينَ !؟ لا تدري . تركت خلفها الماضي بأعبائهِ والذكريات انزوت في محافل الأعوام. لم تأبه لمناداة أحدهم ، تغاضت عنهُ حتى احتجبت عنها الأضواء، تسير بثوبها الأبيض نحو المستقبل، ثوب واسع ينساب على جسدها الرقيق بدون قيود يحميها من الشمس الحارقة في صيف قائظ .
اقتربت من ذلكَ الكوخ الذي اكتست جدرانه بلوحات غريبة صُفّت بعناية، تملأ الفراغ بهيبتها، تتلألأ ألوانها بضوء النهار ويغتالها القنوط ليلا، تصمتُ حبيسة الأنفاس. استوقفها حتى الباب المتصدع الذي اتخذ شكلا ما. استدارت حوله ترسل نظراتها الى الشّخوص المعتمة ذوات العيون الحادة.
حدّقت في الوجوه حائرة، استقرت عيناها على فراشة فاقدة الحياة داخل ورود صفراء سجينة.
- هل أعجبتكِ هذه اللوحة يا هذه ؟
سكنت مكانها تستجمع قواها بعد أن فوجئت بذلكَ الشاب الأسمر واسع الجبين يكسوه الشيب على الجانبين ذي أنف جميل وعيون ثاقبة .
- لم أعهد تمثالا صامتا مثلكِ من قبل، اذهبي من هنا ارجعي من حيث أتيتِ... 
قال كلمتهُ واختفى .
- ليس لي من رجعة ...
غاصت بين الجموع، كائنات غريبة الأشكال والأطوار اتخذت لها شكل المستطيلات، مشغولة بتصوير مناظر جميلة بأثوابها البرتقالية، قابعون، يعتمرون قبعات ممتلئة الشكل منهمكين في أعمالهم، مستغرقين في التفكير وهم يضعون بصماتهم على اعمال لا بد أن تصبح يوما خالدة، لوحات أغرقتها الألوان، يبعث بريقها للوجود فتمنحهُ القوة والكمال. اقتربت بقدميها تاركة ظلها الطويل خلفها تمسكُ ثوبها بطرف ثوبها كالأطفال برأس مكلل بالفل الأبيض تتقدم بغرور وكبرياء، ترمي دلالها، تراقص العباب باغراء فطري، تستدير بخفة تحاول اخضاعهم باسلوبها البدائي معتمدة علىالجانب الظاهري، تدور على أخمص قدميها محلقة في الهواء على أمل ان تحظى بلوحة خالدة.
- ألم أقل لكِ اذهبي من هنا ؟
رمقتهُ بسحرها، كاد يبحر في أعماق عينيها البراقتين، لم يعهد جمالا كهذا في حياته.
- لمَ أنتِ صامتة؟ ألا تتكلمين؟ هل أنتِ بكماء ؟

عبر سرب من الطيور في السماء الصاخبة ، أشارت اليه بهدؤ.
- ها هي أرأيتها ! انها روحي الحائمة فوقي، لقد تعبتُ من الكلام آنَ لي التمتع بالصمتِ أنظر اليها لقد مضت الى جوهرة الحياة عبر تلكَ الأعالي، أخيرا وجدت لها أفقا يبهجها وغيوما تحميها في القمة حيثُ ما من أحد يشاركها، انها سعيدة بوحدتها .
رفعت عن رأسها تاجها الثمين، وضعتهُ أرضا وعادت أدراجها نحو كوخ اللوحات دخلتهُ محتلة كي تستوطن فيهِ وكأنهُ أقيمَ لأجلها.. هو ملكها..
- ماذا تفعلين هنا اننا لا نستقبل الجميلات أمثالكِ، ليس لديكِ ما تقدمينهُ للبشر، الجمال الظاهري لم يعد لهُ تأثير انتزعي جمالكِ اذا أردتِ الانضمام.
- لا تتهمني بالخمول لقد أعطيتُ بما فيه الكفاية...لا عليكَ سأغادر الى مكان بعيد .
ذهل بصوتها الرخيم، قبع مكانهُ ينتظر مواصلة الكلام. حلقت بعينيها بعيدا حيثُ تلكَ الباخرة المغادرة التي تتوسط البحر، كم تمنت الرحيل بروحها الهائمة في تلكَ الباخرة العملاقةِ لكنها تكرهُ الزحام خاصة في مكان لم تجد فيهِ الانتماء.

أرهقتها لوحة المخلوق ذي الشكل المستطيل، رأت ذاتها داخلها وحيدة بجانب بحيرة منخفضة محاطة بالجبال العارية الجرداء.. انها هي تلكَ الشجرة العالية ذات الأغصان العارية تصارع تشققات الأرض اليباب.
بدت قدماها تنزلقان وتغوصان في ذلكَ المكان المريب، لا ريب سوف تبتلعها المياه الهادئة تخفي خلف بشاشتها تلكَ الأعماق الدفينة. اهتزّت أساريرها وتشنجت أطرافها، أصيبت بهلع ينتابه الصراخ... فرّت بسرعة الطلق تعتكف بين اللوحات بحماس، رسمها أحدهم بشعرهاالملفوف تداعبهُ الريح الهوجاء حالكا كالليلِ وعيون كئيبة مسكونة ببياض ضوء البرق، وجه قبيح يحيطهُ الأعياء فيسجن داخل دائرة مغلقة، ذلكَ الوجه ليسَ وجهها ! أستبدلَ !

بحثت عن نفسها داخل اللوحات، تجولت داخل تلكَ المتاهة جولة مسالمة تخلو من العراكِ .
- تعالي...هنا...أريكِ شيئا جميلا .
- جميع اللوحات تؤرقني وهؤلاء المبدعون يخيفوني !
- جميعنا سنبدو مثلهم بعد قرنين أو ثلاثة، فقط ما نفعله يبقى قيد الخلود، ألم يحن الوقت...؟ ألا تشعرين بضرورة ملازمة ريشة الرسم ؟
- لقد بدأتُ منذ زمن بعيد ولكن بريشة أخرى تختلف عنها قليلا .
- انكِ من المبدعين إذن ، الآن سأرجع لكِ ذلكَ التاج الجميل .

تَوّجَها بأريج اكليلها ، أمسكَ بيدها الناعمة، أخذها الى كوخهِ ، حيثُ استوقفتها لوحة ما ، مصدر مسرتها، تذهبُ الى الأسود تستمدّ منه قوتها فتنزلُ الى الأبيض غير رافضة الاستمرار في العطاء ، لوحة لزمان ومكان تابع لها وحدها بريشة رسام تلاشى في الأفق البعيد .