" نينات "

شدوا جسمها النحيل بحبال شديدة لاقتلاعها ، والناس حولها حائرون مشفقون، فأبت الاقتلاع ...جذورها العميقة عتيقة في الأرض ...لم تجدهم غير الفؤوس، حتى فصلوها عن جذوعها الممتدة نحو السماء .
هوت آخر أشجار الصنوبر ، فلا آمان في المدينة ، والشجرة ملتصقة بالحيطان القصيرة لآخر البيوت القديمة هنا ، قد يتخذها أحدهم سلما ، ويقتحم وحدة العجوز نينات...
غدا اسم العمة الغريب ، مألوفا لدى الجيران ..والنادر من يعرف أن من أسماها ،كان الولد " بال " ، ابن المعمر الفرنسي " دون فيليب " صاحب الجنينة التي كانت هنا ...وظلت تتحدى الخلاء والنسيان في انتظاري إلى غاية مجيئنا ، ..كانت محاصرة ببلايين أشجار الصنوبر المصطفة إلى آخر هضبة الجبل..
حكت لي عن جمال المكان ، لفائف أغصان الأشجار الشوكية ذات الأزهار الصوفية الفواحة ، والفواكه البرية لأشجار متماسكة بالأرض المهملة منذ ربع قرن ...لم تمض علينا إلاّ شهور هناك ، حتى حلت آلاف البيوت بألوانها الأسمنتية ، وقاماتها المتعالية ،..تكاد تحجب الجبل ومنظره الخلاب بغصون أسلاكها الممتدة من سقوفها العارية ...
لم يتبق في المكان إلا ملامح بيت " نينات " القائم عند مدخل الحيّ الجديد ، وتلك الساقية التي تضايق جيراننا كلما فاضت مياهها ...أغرقتهم ، وشجعت الأرض على إخراج أنفاسها المكتومة تحت الأسفلت المعبد للطرق المصطنعة فتهيج الأتربة العذراء الناعمة من الأسفل لترتوي وتطلب الحياة والشمس..
وهاهي اليوم تهددها الشكاوى ،والمشاريع بردمها فحتى الطريق الرئيسي رمموه آلاف المرات ،ولم تسلم شاحناتهم الثقيلة من التعثر ، كلما دكت الأرض في اتجاهها نحو الآبار في آخر الحيّ ،..حولوها مخازن للزيتون المصبر ،..وبجوارها مصانع بآلاتها المدويّة، تصطاد صمت المكان ، الذي كان يردد صدى صوتي الضعيف ،وأنا أنادي وأبتهج بسماعه يرجع إلي ّمتقطعا ..
كان خرابا ، موحشا ،مخيفا صمته ، غامضا ليله ..عندما أتينا لأول مرة إلى بيتنا الجديد هنا ، اعتقدنا أننا في آخر أطراف المدينة ، وغدنا اليوم في بداية هامشها .. لم أعد أسمع همسات الكائنات الأخرى ،..وحتى الشمس انفصلت عن النهار ،..حجبتها عنا البناءات المتصاعدة عشوائيا ، أما الليل الذي يبدو واضحا ، يردع أصحاب حييّنا ، كلما حل َّ ، من لصوص الآمان في البلاد .
عندما كنت ألعب خلف بيتنا الوحيد،أخاف كلما تحسست في الهدوء ،صوت خدش ما ، فقد يكون لشبح ، ..لكنني اليوم ،محاطة بأسراب الناس ، مغلفة بقفص من الحيطان والشبابيك الحديدية ، أتمنى أن يكون الصوت المتخيل خارجا لقبيلة أشباح إلا أن يكون لصاحبه "رجلان" .
جزت الأشجار منذ أمدٍ ، وغلفت الأرض ، وحلت حياة جامدة ، وأصبح لبيتنا جيران ، ومن خلفه أيضا ..حيث كنت ألعب بخروفي الصغير ، أهداه لي أبي ليؤنس وحدتى ...رحل كل شيء إلا ذاك الأثر في كعب رجلي الأيمن ، حينما التف حبل اللعبة حولي ،وشدة عقدته حولي بعدما خاف من صراخي وأبتعد، حتى أنسلخ جلدي عن بياض العظم ..
لازلت أذكر الحادثة وملامح ذلك الشاب الذي بزغ من قلب الخلاء وخلص قدمي ّ، .. كنت أظنه "بال " كلما حكت لي عنه الخالة " نينات " ، حينما تستعيد ذكرياتها في الحي فتتحسر كل لحظة يتشوه فيها عن ماضيه القريب ..
كان الطفلان يلعبان في البراري .. وأعينهما الصغيرة لا تفلت في اصطياد حركات أمهما الملتهية داخل بيت مسيو" دون فيليب" ، ..لكنهما كبرا وفرقتهما لعبة الحرب ، ...وهددت نيرانها الجنّة الغناء .. بينما افترقا إلى الأبد حينما تحول " بال " إلى مجرم في الجيش الفرنسي ، وغدت هي تلتهب بنور ثورة كشفت عن صديقها الصغير أنه عدو غاشم ...
- " كان يجب أن يهرب " دون فيليب وأسرته إلى بلادهم ..ومعه " بال " كذلك" .
هكذا اختتمت الخالة " نينات" ،حكاويها عن ماضي الحي الجديد ، وكنت أغوص دوما في نظرات الشوق في عينيها ، بقدر ما سأبحث عنها في عيون " دون فيليب " ، إذا ما عاد يوما وزار نفس المكان ..حينها ستسري في داخله نفس استفهاماتي أيضا :
- " لماذا أساءوا للأرض يا ترى ؟ " .
عندما أخرج عن الحيّ إلى قلب المدينة التي تربطها على أطراف الطريق سلاسل من المشاريع ، كالبذور تنثر على الأرض،و في لمح البصر ، تنتش كالأشواك البرية ، تمتص من الطبيعة ماءها وملحها ..
لم يعد يشدني بيت " نينات " عند المخرج ، بصنعه البسيط ، البديع ، ونوافذه العالية ، وأسواره القصيرة ...بقدر المكان الفارغ بجواره ، قد احتلت فيه شجرة الصنوبر الأخيرة ، حيزا بصريا في ناظري ، نقشت معالمه وخطوطه في عينييَّ زمنا طويلا ...يشعرني اليوم ، أن شيئا ما قد كان هنا ..