ثلاث ساعات قبل الرحيل

قصة قصيرة من مجموعة أوهام شرقية

كان عليّ أن أجده·· لم يبق أمامي سوي ساعات قبل السفر أين أبحث عنه، وليس عنده هاتف في منزله، ويرفض حمل الهاتف النقال، بحجه رفضه للعولمه·
رحت أستعرض أسماء أصدقائه الذين التقيت بهم، قد يعرفون مكانه، وقفت علي الرصيف، أمسكت بأجندة الأرقام، طلبت رقم فؤاد، لأسأله عن يوسف، أكد أنه لم يره منذ يومين، فكرت الاتصال بجمال، لكنني خجلت فقد كنت أحس بالضآله أمامه بعد كلماته الأخيرة معي واتهامه لي بأنني تخليت عن يوسف لأني كغيري ألهث وراء المادة ·· سأتصل بنادية، لكن هاتفها مغلق، وصلت إلي نهاية الشارع وأنا أفكر "كيف سأجده"·
قررتُ إيقاف تاكسي والتوجه إلي الشارع الحمراء، علي أن أودعه أيضاً، وأن أجلس في مقهي "المودكا" رغم خلوه من الزبائن في هذا الوقت·· ما إن دلفت داخل السيارة حتي تعالي رنين هاتفي الخلوي علي نغمة موسيقي "حبيبتي" لينقل لي صوت فؤاد قائلاً : "ليلي يوسف قد يكون في ساحة الشهداء، في الاعتصام"·
لم أتردد لثوان، بل طلبت من السائق أن ينعطف بي إلي ساحة الشهداء، وسوف أضاعف له الأجر·
"لا بأس"، تمتم السائق وهو يحدثني عن غلاء البنزين والأزمة الاقتصادية في البلاد·· يتكلم ويتكلم فيما كنتُ أفكر بالطائرة التي ستنطلق في العاشرة مساءً لتنقلني إلي بلاد المانش·
سأهجر شوارع بيروت العتيقة ومقاهيها التي تحتل أرصفة الشوارع، كي أمشي في الهارد بارك، وأبحث عن مقهي يقدم القهوة العربية·
- أين أبحث عنك يا يوسف؟
كيف أجدك وأنا لا أملك لك عنواناً سوي اسم شارع أخبرتني أنك تسكنه، حين حدثتني عن جارتك الساحرة "أم علي" التي يقصدها الناس من مختلف البلدان بحثاً عن حلول سحرية لأمراضهم الوهمية، حين وصلت إلي "ساحة الشهداء" وجدت جماعات من شباب وشابات معظهم يضع الكوفية الفلسطينية، رغم انتماءاتهم المختلفة كل شخص من الموجودين كان يقف مع مجموعة·· أما أنا فكنت أسير وحدي بمحاذاة كل جماعة، أعبرها وأتجه نحو مجموعة أخري، من بعيد لمحت وجه "لارا" تقف بين جماعة من الصحافيين وبعض الطلبة، بدأ عليها الانهماك في الحديث والجميع يستمع إليها أحسستُ بارتباك شديد، وخشيت أن تلمحني، لأنها تدرك تماماً أنني لم أشارك في أي اعتصام أو مظاهرة طوال حياتي، وأنها رغم هويتها اللبنانية أجدها منشغلة في القضية الفلسطينية وتعبر بانفعال عن كل ما يجول في داخلها من آراء ·· أما أنا أغلي في الداخل، بلا أي حدث يفرّغ ما يفور في أغواري السحيقة ·
تحاشيت أن تلمحني "لارا" لأنها ستدرك أنني قصدت المكان بحثاً عن يوسف·· تراجعت، عدت إلي أطراف الشارع، مسيرتي بين الجموع لن تجدي نفعاً، وكأنني أيقنت أن يوسف غير موجود هناك، لو كان موجودًا لابد أن يعلو صوته في هتافات متلاحقة، أو كان ليلقي محاضرة علي كل هؤلاء الطلبة·
رغبة حادة في البكاء انتبابتني، هل الله تخلي عني في رغبتي في لقاء يوسف للمرة الأخيرة قبل رحيلي ·· سمعتُ أصواتاً تهمس في أذني بأنني "أنانية" أطمع بكل شئ·· الوقت يضيق، وعليّ أن أكون في البيت عند السابعة، كادت دموعي تنحدر، حائرة أين أذهب للبحث عنه؟!
لو مضت هذه الساعات بلا لقائه فلن ألتقيه لسنوات، أحتاج لرؤيته، أحتاج سماع كلماته للمرة الأخيرة، يتلو علي تعاليمه وإن كانت وهماً·
أعرف أنه يسكن في أحد شوارع الجامعة العربية، لكن في أي شارع تحديدًا، وكيف أجد المنزل وليس لدي عنواناً، من أسأل عن "يوسف العربي" هل هذا اسمه الحقيقي الذي يعرفه به الجيران أم أنه اسم وهمي نعرفه به نحن ؟ أتراه مثل والدي يغير اسمه كلما انتقلنا إلي سكن جديد مبررًا ذلك بعبارة "ضرورات أمنية"؟! قررت التوجه إلي شارع الجامعة العربية مهما كانت النتيجة أوقفت سيارة تاكسي وصعدت فيها·· كانت امرأة عجوز تجلس في المقعد الأمامي إلي جانب السائق الذي كان يحدثها أيضاً عن غلاء الأسعار وكيف أن الغرباء خربوا البلد، كانا يستعيدان أمجاد لبنان في السبعينيات، كنت أستمع إليهما وتراودني رغبة في سؤال المرأة العجوز التي بدت لي في غاية الأناقة والحزن: أترانا نحس بالحب حينما نصل إلي هذا العمر، أم أن الشيخوخة تقتل كل المشاعر، فلا يبقي لنا سوي الإحساس بالعجز والمرض وانتظار النهاية ؟
ابتلعت سؤالي، ورحت أتابع معهما أخبار لبنان القديم، حينما وصلنا إلي شارع الجامعة العربية، خمنت معالم الشارع الذي سار فيه يوسف، يومها كنا معاً وأفترقنا عند ذاك المنعطف وهو يشير لي بيده قائلاً: "بيتي في الشارع الخلفي سوف أتمشي قليلاً، هل تأتين معي" رفضت باستخفاف، يالحماقتي ليتني سرت معه ذاك النهار، أما كنتُ تخلصت من ضياعي وبحثي المجنون عنه الآن·
واصلت السير، ثم توقفت عند دكان صغير، بدا لي قديماً وصاحبه كبير في السن، تمتمت في سري >إذن لابد أنه يعرف جميع سكان المنطقة< لملمت بعض ألواح الشوكولا لشرائها، بهدف السؤال، حين دفعت ثمنها وجدت نفسي أختلق حكاية وهمية عن فشل خطوبتي الذي دفعني للبحث عن بيت الساحرة "أم علي"·
همست لنفسي أنني إن وجدت بيت "أم علي" سوف أجد منزل يوسف·· استمع إلي الرجل وأكد أنه لا يعرف أم علي، لكنه سمع عنها، وأشار لي أن أتجه يميناً ثم يسارًا ثم أسأل في تجمع البنايات الحديثة الموجودة في آخر الشارع·· حينما وصلت إلي حيثما أرشدني سألت أحد البوابين، فأكد لي خلو البنايات من أي ساحرة أو بصاره أو قارئة مندل، ونصحني بالسير في شارع آخر·
مضت علي ساعة من الوقت، وأنا أسير وأسأل وبلا فائدة، حتي أنني كدت أنسي أمر يوسف وانشغلت فعلاً في إيجاد بيت "أم علي" علها تستبصر لي أين يكون يوسف في هذه اللحظة؟!
دفعني الإرهاق للتوقف أمام الصيدلية لأشتري حبوب البانادول، كنت قد بدأت المعاناة من نوبة في الصداع النصفي، طلبت من الصيدلي كوباً من الماء لأبتلع البانادول، لكنه ابتسم معتذرًا بأن مياه الشرب مقطوعة منذ ساعتين، ومن الأفضل لي شراء زجاجة مياه معدنية من الدكان المجاور·· خرجت من الصيدلية وأنا أمسك النقود في يدي، لا أعرف لم خطر لي التوقف لأعد ما تبقي معي من مال، فجأة، في لمح البصر، يدً قاسية خطفت النقود من يدي وهربت، صرختُ ، وأنا أحاول اللحاق به "حرامي·· حرامي"، لكن السارق الصغير، النحيف اختفي عن نظري ولم أبصر إلا الدرب الذي يسلكه·· ركضت لأمتار قليلة محاولةً تتبعه، لقد عبر الشارع وابتعد قررت عبور الشارع واللحاق به لكن صوت زمامير السيارات علاً في رأسي مدوياً، وجدت موكباً من السيارات الفاخرة تتوسطهما سياره سوداء بزجاج سميك وعازل، إنه موكب لشخصية مهمة، إذن يتعذر عليّ عبور الشارع إلا بعد مرور الموكب المجهول· · أحسست بالخذلان لأنني أيقنت أن السارق ابتعد تماماً وسيتعذر عليّ إيجاده·
الحمد لله ·· أن كيس النقود لم يسرق بالكامل، ما سرق هو النقود التي أخرجتها، لكنها ليست قليلة، فحصت حقيبتي، وجدت ورقات مالية قليلة مازالت موجودة ·· عدت أسير كالمنومة إلي دكان لأشتري زجاجة مياه معدنية، وإحساس بالجفاف يكوي حلقي وقلبي·· وأنا أشتري المياه، عدت للسؤال عن بيت أم علي، لكن البائعة أجابتتي بتجهم شديد بأنها ليست من سكان المنطقة·
خطواتي تتالي بغير هدف وأنا أفكر عمن أسأل عن بيت يوسف، أم بيت أم علي؟
غلبني إعياء شديد، وإحساس بالعجز، تجاوزتني سيارة حمراء صغيرة تسير بسرعة مرعبة، توقفت علي بعد أمتارٍ قليلة، ثم نزلت منها فتاة شابة تحمل كيساً أسوداً كبيراً، ألقته في الحاوية ثم صعدت إلي السيارة، لتنطلق في السرعة نفسها·
تابعت السير، أجر خطواتي الثقيلة، بعد أن سقطت عيناي علي حانوت للأقمشة قررت التوقف لسؤاله·
لدي عبوري حاوية القمامة توقفت، لإلقاء قنينة الماء الفارغة، سمعت بكاء حادا، ينبعث من الحاوية، و رأس طفل حديث الولادة يمتد من خلال الكيس الأسود، ارتجفت أطرافي، وكأنني المسؤوله عن إلقاء الطفل، أسرعت بالسير قبل أن يشاهدني أحد ويتهمني بالأمر·
حينما توقفت عند زاوية حانوت لأقمشة ترددت في الدخول، وخطر لي العودة إلي البيت، عدت باندفاع وسألت البائع عن "بيت أم علي" فأجابني بترحيب وابتسامة عريضة بأنها تسكن في المبني المجاور، ثم نادي علي شاب صغير ليرشدي إلي المنزل، سرت مع الشاب بضعة خطوات وانتظرت ابتعاده لأصعد وحدي، لكني وجدته يضرب علي الإنترفون، ليخبر المرأة التي أجابته بأن هناك زبونة قادمة من السفر تحتاج لقاء "أم علي" فُتح الباب الحديدي المغلق، دخلنا ثم دلف الشاب معي إلي المصعد، وضغط علي زر الطابق الثالث خطر لي سؤاله عن بيت يوسف، أو إن كان يعرفه، لكنه راح يسرد لي عجائب "أم علي" وكراماتها الغريبة وقفت أمام باب الشقة الخشبي الكبير لثوان معدودة قبل أن يُفتح الباب، لأجد نفسي أمام امرأة ضخمة الجثة، أشارت علي بالدخول·
وجدت نفسي علي بوابة صالون فاخر من الإستيل، حيث جلس في الزاوية رجل خمسيني يضع بجانبه كيساً أسودا كبيرا، يتحرك من داخله حيوان حي، وفي المقعد الواسع جلست امرأتان إحداهما شابه في الثلاثين أما الأخري فقد تجاوزت الستين ، اقتربت للجلوس في المقعد المجاور للسيدتين·
رحت أتأمل المكان ، أشم رائحة البخور النفاذة، أشياء غريبة موضوعة علي الأرفف، سلاحف ميتة، أسماك متحجرة، طيور محنطة، أصداف مختلفة الحجم، أغصان يابسة، زجاجات شفافة مليئة برمال حمراء وصفراء، وكأن الأشياء تتحرك،والأرواح تسبح في المكان، وأنا منزوية علي نفسي أجهل السبب الحقيقي لوجودي في هذا المكان، بدا لي "يوسف" في تلك اللحظات كائناً هلامياً لا يستحق كل هذا العناء·
إقتطع تناسل أفكاري صوت المرأة العجوز وهي تشكو للمرأة الشابة حكاية ترملها، وتربيتها لابنها الوحيد الذي تزوج وصار يهددها في وضعها في دار للمسنين إن هي تدخلت في حياة زوجته، لذا قصدت "أم علي" لتعمل لها حجابا للعطف والقبول تحنن به قلب الابن القاسي·
بدورها راحت المرأة الشابة تشكو للسيدة المسنة كيف أنها تزوجت من سبعة أعوام، ولم ترزق بالأطفال وقد طافت عيادات الأطباء في باريس ولندن، بلا نتيجة وبدأت تقصد المشايخ بعد يأسها من حدوث الحمل··
تذكرتُ حينها الطفل الصغير الملقي في حاوية القمامة ماذا حدث له الآن يا تري بعد مرور ساعة من الوقت؟ أتراه مات؟ أم أنه مازال حياً؟ هل أنقذه أحد؟ يا لتخاذلي لماذا لم أتوقف عند أقرب مركز للشرطة وأخبرهم بما رأيت؟ لو أن يوسف عبر المكان وسمع صراخ الطفل أما كان أنقذه وليحدث بعدها ما يحدث؟
ارتفع صوت المرأة الخمسينية وهي توجه الحديث لي قائلة:
- وأنت يا ابنتي ما هي قصتك؟
رحت أردد بلا وعي: "الطفل ··· هناك في حاوية القمامة يجب أن نخرجه ·· لا لا يمكن"·
تمتمت المرأة العجوز للصبية وهي تضرب كفاً بكف ··
ـ مسكينة لابد أنها ممسوسة·
ظهرت الخادمة التي فتحت لي الباب، استدعت الرجل، الذي غاب هو وكيسه ليخرج بعد عدة دقائق ويغادر المكان من غير الكيس·
عادت الخادمة واستدعت المرأة العجوز، فبقيت وحدي مع المرأة الشابة التي بدت منكمشة وهي تحاول أنه لا تنظر نحوي لم تتأخر المرأة العجوز أكثر من عدة دقائق لتخرج حاملة كيساً صغيراً لا يظهر ما بداخله، عادت الخادمة لتستدعي المرأة الشابة، وتبتسم لي لتطمأنني أن دوري هو التالي، وجدت نفسي أقف فجأة وأفكر في مغادرة هذا المكان والصعود إلي الطابق الرابع للبحث عن شقة يوسف، لكن الخادمة بجثتها الضخمة ، استدعتني للدخول الي غرفة "أم علي" سرت عدة خطوات لأجد نفسي وجهاً لوجه أمام سيدة في الخمسين أو أكثر، ممتلئة الجسم تضع منديلاً علي رأسها، وجهها خال من أي نوع من الأصباغ، لكن بشرتها مشدودة وتلمع من كثرة العناية والاهتمام·
أشارت علي بالجلوس وهي تبتسم لي بود، وتتمتمم بكلمات وأدعية لم أفهمها كلها، عادت الخادمة للظهور لتقدم لي كأساً من العصير، خشيت أن ألمسه، لكني وجدت أم علي تحثني علي شربه، مؤكدة أنه ليس علي أن أخاف أبداً، أحسستُ بالاضطراب وكأنها قرأت ما ـأفكر به، أتراها تعرف أيضاً أنني أتيت بحثاً عن يوسف؟
- ما هي حكايتك؟
تعالي صوت أم علي واثقاً مشدداً علي كلمة "حكاية" "حكايتي" أي حكاية وهمية أختلقها في ثواني؟! هناك "خطيب سأسافر إليه ورجل آخر أحبه، وهناك·· وهناك" لا أدري ماذا قلت تحديداً، لكنها كانت تستمع إليّ باهتمام، ورغم ذلك أحسست أنها لا تصدقني، ثم فجأة نادت خادمتها همست في أذنها بعض الكلمات، لتعود ومعها زجاجة من الماء ومبخرة مشتعلة، راحت أم علي تقرأ وتهمس وتتمتم، لتطلب مني في النهاية أن اغتسل بهذا الماء ثم ألقيه في مكان طاهر، ثم أشارت علي بالإنصراف·
خرجت من غرفتها، و بيدي زجاجة الماء، سرت نحو الباب الخارجي، وجدتُ الخادمة تقف أمام الباب وتطلب مني مبلغ عشرين دولاراً، فتحت حقيبتي أبحث عن النقود لم أكن أملك إلا أجرة السيارة ·· تذكرت حادثة السرقة وهززت رأسي نفياً بأنني لا أملك مالا الآن، وضعت الخادمة يدها علي الباب مؤكدة أنني لن أخرج من هنا إن لم أدفع ·· لكن علي المغادرة، علي اللحاق بطائرتي، اقترب موعد الرحيل، وضعتُ يدي علي رقبتي، تلمست السلسلة الذهبية التي تضم خارطة فلسطين، تلك التي أهداني إياها يوسف في عبد ميلادي الأخيرة خلعتها وأنا أسلمها للخادمة وأتمتم "خذي هذه لا أملك سواها"·
خرجت من البناية، وأنا أستعرض مامر بي، أوقفت أول سيارة تاكسي وأنا أردد بخيبة "شارع المطار"·