الأومباشى الشبكشي

لم أعد أستخدم دفتر أرقام الهواتف إلا نادراً؛ وفي أحيان كثيرة، أبدأ فأفتحه، وأراجع الأرقام وأمامها الأسماء، فلا أشعر بأدنى رغبة في مهاتفة أحد؛ بل إنني لم أشعر بأي فارق حين نفذ السنترال طلبي - تحت ضغط تضخم الفواتير - وحول هاتفي إلى خاصية ( الاستقبـــــال فقط ) !. والغريب أنني، أيضــــــــا، لــــــم أعـــد أستقبل مكالماتي بنفس الدرجة المعهودة من الحماس، وأكتفي بأن أرد " نعم ؟ "، ببرود واضح، حتى أن من لا يعرفونني جيداً ينتابهم الحرج، ويبادرون بالتأسف لاتصالهم في وقت غير مناسب.

ولم أكن لأعتقد أن مكالمة " الأومباشى الشبكشــي " ستخرج عن هذا السياق؛ غير أنه ينبغي عليَّ أن أعترف أنها مست بداخلي وتراً، فاستجبت لها، بل لقد فرحت بهـا. بـــدأ، دون مقدمات : " لا أعتقد أنك ستتعرف على من يتكلم معك الآن ". والواقع، أنني تعرفت على الهيئة العامة لصوته، فقد كان يتكلم وشفتاه شبه مضمومتين، حتى يبدو الصوت وكأنه لشخص آخر؛ ولكن - مع مضي ما يقرب من ثلاثين عاماَ على افتراقنا - كان من الصعب أن أربط بين شخصه وصوته. طال صمتي، فقال مؤكداَ : " ألم أقل لك ؟ .. على أي حال، أنا الأومباشى الشبكشي ! ".

والعجيب، أنني، فــــور سمـــــاعي اسمه الذي اشتهر به بين أفراد السرية الثانية " كيما "، التابعة لقيادة الفرقة السادسة، مشاة ميكانيكي، تذكرت اسمه بالكامل : " أحمد على عبد العزيز الشبكشي ". كان أول من استقبلني عند إلحاقي بالسرية، وأسعده كثيرا أن أكون سكندريا مثله. ولم تمض ساعة، حتى كنت أعرف عنه أشــــــــــــــياء كثيرة، بينها خصوصيات أسرية لا تذاع، حتى في أضيق دوائر الأصدقاء. كان ينساب بتلقائية عجيبة، ويقتحم عليك أسوارك. بنفس هذه التلقائية، أخبرني بأنه حصل على رقم هاتفي من الدليل. قال إنه واثق من أن هذه المكالمة ستسعدني، وكان الأمر كذلك؛ ولكني لم أعبر عن ذلك بالرد بالكلمات، واكتفيت بالضحك. قال أيضا أنه اتصل، بالطريقة ذاتها، بعدد كبير من أفـــــــــراد السرية، " حمدي أبو ركبة "، في أسيوط؛ و " أحمد أمين طلبة " في قنا، واكتشف أنه يشغل هنــــــــــاك موقع أمين عام لحزب في الساحة السياسية؛ وكان حريصا على أن يذكرني بأن " طلبة " كان يسعى دائما إلى أن يكون مندوب السرية في مطبخ قيادة الفرقة، وأن ذلك كان مصدر تميز لنا، إذ كان يمدنا، خلسة، بأطايب الطعام. ولم يفت الأومباشى الشبكشي أن يداعبني قائلا : هل أناديك فأقول يا جاويش، أم يا دكتور .. كنت تحدثنا - طول الوقت - عن أحلامك بعد انتهاء فترة تجنيدك، أن تحصل على الدكتوراة؛ هل حصلت عليها ؟. رددت باقتضاب : لا. لم يشأ أن يستمر، وكأنه اسشعر أنه سيسبب لي ألما. عاد يتحدث عن أفراد السرية الذين نجح في الاتصال بهم؛ قال : هل تذكر أحمد سعد ؟. قلت نعم، الولد الذي كان يحلم بإسقاط " فانتوم " بمدفع عربتنا المدرعة البائسة، وكان يبكي بعد انتهاء كل غارة، لأنه لم يحقق حلمه !. سأل : ومحمد كامل ؟. قلت نعم، السوهاجي الذي كان يسرق كحول المختبر الكيميائي الميداني، ويخلطه بالمياه الغازية. قهقه : ابن المجنونة .. لم تره وهو سكران، وقد خرج إلى عراء الصحراء، في منتصف فبراير، عاريا إلا من خوذة على رأســــــــــــه، و ( القايش ) في وسطه، والحذاء الميري !. ضحكت، وقلت، كنت في أجازة، فلم أره. قال الأومباشى الشبكشى : ولكني أعتقد أنك لا يمكن أن تنسي الجندي محمد الضيف. صدرت مني آهة : ذلك الأسمر الطيب. قال : قل الأبله .. كان يصدق أي كلام يقال له. هنا، أدركت أنه يشير إلى واقعة بعينها، عندما ( اصطاده ) الأومباشى الشبكشي، قبل أن يقوم بأجازة الزواج، ونجح في إقناعه بأشياء خاصة، يتوجب عليه القيام بها في ليلة الدخلة، تجعل زوجته ( عبدة ) له طول العمر. وصدق الضيف، وفعل، فاسودت ليلة الدخلة، وقضاها بين المستشفى وقسم الشرطة !.

كان من الصعب إيقاف تدفق حديث الشبكشي. والحقيقة أنني كنت مقبلا على مائدة الذكريات التي قدمها لي؛ غير أنني فوجئت بنفسي أغير مجري الحديث، وأسأله : وماذا عن أحوالك ؟. قال : تركت شركة النسيج بعد تصفية القطاع العام، وفتحت بالقرشين دكان نجارة. قلت : صحيح .. صحيح .. أذكر أنك كنت تجيد النجارة. قال : هي مهنة العائلة؛ ولكن مشروعي فشل .. تعرف حالة الركود. سكتنا - معا - للحظات. فجأة، عاد الشبكشي يسأل، وكأنه يبدأ حديثا آخر : هل لا زلت تحتفظ بتذكاراتك العجيبة ؟!. فاجأني. كنت - حقا - قد نسيتها .. جلد ذلك الثعبان الذي ظل نائما بجانبي طيلة الليل، في موقع عند الكيلو 51 ، طريق القاهرة / السويس؛ وشظية الصاروخ الذي انفجر وتطايرت منه تلك الشظية لتخترق الرمال على بعد سنتيمترات قليلة من رقبتي؛ و الحصيات ذات التشكيلات والألوان المميزة، التي كنت أجمعها من أرض سيناء، في الأيام القليلة التي قضيناها فوقها، قبل أن نرجع إلى الضفة الغربية، مع بداية تكشف " الثغرة ". اكتفيت بآهة عميقة، ولم أشأ أن أخبره بأنني أعطيتها لابني، معتقدا أنني أهديه ميراثا يعتز به؛ فلم يفعل، وضيع كل شيئ، حتى أنه لا يعرف أين ذهبت تلك الأشياء.

عدنا للصمت، وكان أطول، هذه المرة. ثم - فجأة - أنهى الأومباشى الشبكشي المكالمة في كلمات قليلة، متسرعة، متآكلة الأطراف؛ وأقفل السكة، قبل أن أرد عليه.

لم أغادر مقعدي، ولم أرفع عيني عن الهاتف؛ كنت أفكر في تعجله بإنهاء المكالمة، الذي لا يتفق إطلاقا مع سعيه للاتصــال بي، ورغبته في التواصل واستعادة جوانب من تاريخ مشترك. قلت في نفسي : لا تتعجب .. وكما أدركك أنت التغير، ونالت من أعصابك الصروف، حدث ذلك للآخرين؛ وعلينا أن نتبادل التماس العذر لأنفسنا. وكنت حريصا على أن أحتفظ، لأطول وقت ممكن، بالقدر من السعادة التي رششتها محاولة الأومباشى الشبكشي للاتصــال بي. وربما كانت أفكار أخرى ستتوارد إلى ذهني، ولكن ذلك لم يحدث، لأن الرنين تصاعد؛ فرفعت السماعة، وقلت - هذه المرة - أهلا وسهلا. فكان صوت الشبكشي يعاود الاتصال؛ فضحكت بصوت عال؛ قال : واضح أنك انتعشت !. قلت : نعم .. حقيقي .. حقيقي. قال : لا تؤاخذني .. كنت أريد أن أتكلم معك في موضوع خاص .. الحقيقة أنني مقبل على تزويج أكبر بناتي .. جاءها ابن الحلال؛ وأنا مزنوق في قرشين؛ ولم أجد أمامي إلا أن أطرق باب الأصدقاء القدامى !

لم تسعفني كلمات لأرد بها. توزعت بين التعاطف والدهشة والعجز عن التلبية، وأدركت - عمليا - معنى كلمات مثل ( انعقد لساني ). ويبدو أن ذلك كله استغرق وقتا طويلا؛ فسمعت الأومباشى الشبكشي يردد غمغماته غير المفهومة، التي ينهي بها مكالماته.