غزو الأتربة

استقبل الطريق المقفر في تلك الساعة من الصباح .. أنهى الرواية بعد أن مكث عليها شهرأ بدون إنقطاع سوى للنوم والطعام وقضاء الحاجة.. قلبه يحدثه بأنها ستنجح ،عليه أن يعود سريعاً قبل الازدحام والضجيج ولكي ينظف الشقة التي استيقظ فاكتشف أن الأتربة والرمال قد تمكنت منها.
وجد في آخر الشارع شبحين يتحركان نحوه.. لم يستطع لهما تمييزاً..كانا يرتديان ملابس عجيبة لم يكن يظن أنها لا تزال موجودة حتى الآن.. لولا أنهم في الصباح لظن أنهما ذاهبان لحفل تنكري بملابس القدماء تلك.. بدا له من خلال حركة الرأسين من خلف غطاءيهما أنهما نظرا إليه .. ثم نظر كل شبح منهما إلى الآخر لمدة طويلة نسبياً ..لم يعرهما بطبيعة الحال إهتماماً ومر بجانبهما بلا مبالاة.. سمعهما يتحدثان بصوت نسائي.. ولكن .. ماهذه اللغة؟.. لغة تشبه لغته ولكنها تبدو معقدة لا يستطيع فهمها .. يبدو له أنهما سائحتان من بلاد بعيدة لا يعرفها فهو لم ير هذا الملبس من قبل في العصر الحديث..ولكن اللغة قريبة من لغته برغم التقادم والتعقيد في اللكنة ، وصل لنهاية الشارع واتجه إلى اليمين.. فوجئ بشخص يرتدي ملابس قريبة من ملابس المرأتين ولكن نصف وجهه ظاهر.. هل هو سائح أيضاً ؟ نظر له الرجل نظرة نارية وهو يمر بجانبة وصوته يعلو بشئ مثل الأغنية أو الترنيمة .. نفس اللغة غير المفهومة.. حاول أن يلتقط كلمة واحدة ولكنه فشل ، أكمل طريقه وقد بدأ الأمر يشغله .. أليست صدفة عجيبة أن يرى ثلاثة أشخاص من نفس البلد في نفس المكان وفي هذا التوقيت؟ ،كان قد وصل أخيراً إلى الشارع الرئيسي والذي تقع دار النشر فيه.. يا إلهي .. هل تم احتلال البلاد بهؤلاء القوم وهو في عزلته لا يدري.. مترجلون وراكبو السيارات .. الباعة والنظارة .. حتى الأطفال.. نفس الملابس الرجالية والنسائية العجيبة.. نفس اللغة التي تملأ أسماعه الآن بفعل كثرة المتحدثين ..والجميع ينظرون إليه وكأنه مجنون أو بدون ملابس.. عندما يصل لدار النشر سيحصل على تفسير لكل هذا..
الطريق لم يتغير ولكن أين دار النشر؟.. وصل لنهاية الطريق والدار يفترض أنها في المنتصف.. كيف لم يلاحظها.. اليوم هو يوم العجائب.. عاد إلى حيث يظن أنه مكانها.. أين ذهبت؟..وماهذا البناء العجيب الذي قام مكانها؟ نظر إلى اللا فتة..الكلمات المكتوبة عليها تشبه كلمات لغته ولكن مكتوبة بطريقة معقوفة ومتداخلة فلم يستطع قراءتها.. وقف كالأبله يحاول فك الطلاسم بدون نجاح..أغمض عينيه في يأس وقد أعيته الحيرة..قرر أن يعود أدراجه إلى شقته الحبيبة وعزلته الرحيمة .
داهمه إحساس بأن هناك شيئاً ما خلفه.. نظر فوجد بضعة رجال ينظرون إليه من خلال نصف الوجه الظاهر.. بأيدهم السياط وملابسهم تزينها بعض الشارات على الصدر والنجوم والأهلة على الأكتاف..لم يتعجب أن هؤلاء هم رجال الشرطة ..مادام الشعب هكذا فالشرطة لن تشذ عنهم .. ولكن من هو وسط هؤلاء؟..وكيف وُجِد بينهم؟ أمسك أحدهم بيديه..أخذ منه أوراق الرواية وقال له شيئاً لم يفهمه..وضع في يديه قيد ثم تركها وسار وفي يده سلسلة جزء منها على الأرض وآخرها في القيد المحيط بيديه .. اضطر للمسير بابتعاد الرجل وشد السلسلة لقيده.. تمنع في البداية ولكن أحدهم ضرب بالسوط على الأرض فرضخ وهو ينظر للسوط برعب. إلى أين المصير؟ هاهو يرى الماضي والحاضر يتداخلان بشكل عجيب ، أخذ الناس في الشارع ينظرون له وينعتونه بكلمة لم يعلم معناها.. ركب في سيارة الشرطة وانطلقت إلى مكان لا يعلمه.. نفس المشاهد والشوارع تقريباً لم يتغير منها الكثير ولكن الناس أين الناس؟
توقفت السيارة عند أطراف المدينة ..أنزلوه وقادوه إلى مبنى وساروا به حتى وصلوا إلى زنزانة ليس فيها إلاه..جلس القرفصاء وهو يتمنى أن يكون مايراه حلم طويل سيستيقظ منه ويضحك على ما رأى ، ظل هكذا حتى غفا لبضع دقائق ..استيقظ على صرخة.
- الرحمة.. الرحمة
صوت نسائي يستغيث.. ولكن ..اللغة.. هي لغته.. أخيرا وجد من يتكلم لغته..ولكن لا يبدو أنه كان كابوساً كما تمنى إذ أنه مازال في الزنزانة.. إذن من تلك التي تصرخ؟.. لا ليست وحدها ..هناك من يصرخون معها بنفس اللغة ونفس الكلمة ..رجال ونساء يقولون الرحمة.. ترى مم يستنجدون ؟ولماذا هو وحده وليس بينهم؟
سمع صوت مزلاج باب الزنزانة ودخل إثنان من رجال الشرطة ومعهم سياطهم.. سحبه أحدهم من ملابسه ودفعه امامه.. خرجوا من طريق غير الذي جاء منه ..أوصل إلى ممر مظلم قبل أن يصل منتصفه كان أحد رجال الشرطة قد فتح باباً في نهاية الممر فغمر الضوء المكان وسمع أصوات صراخ وكلمة الرحمة تدوي في وسط تهليل وهدير جماهيري، بدا له المكان مثل الحلبة الرومانية التي كان تقام فيها المصارعة حتى الموت..الجمهور هم الرجال والنساء ذوي الوجوه المغطاة .. على أرض الحلبة رأى أهله وبني لغته..كل منهم في وادِ..على اليمين رأى إمرأة معلقة من شعرها تصرخ مستغيثة – الرحمة- وبجانبها أخرى معلقة من شعرها أيضاً وثالثة يتم جلدها ورابعة تبدو كالميتة ومكان كل ثدي فيها بقعة كبيرة من الدم..وكانت هناك امرأة في قفص يحيط بها بعض الأطفال الذكور ومعهم شيء كالرشاش يخرجون منه سائل كلما أصابها صرخت بعنف وأخذت تتحس موضع الإصابة.
لم يستطع أن يكمل المشاهد إذ أخذوه إلى جهة اليسار حيث رأى رجلاً مشنوقاً أول ما وجد و سرت في جسده رعدة عندما لمح رأساً مثبتاً على حربة وبجوار الحربة جثة ملقاة بلا رأس.. ووجد قسم يتم إعداده للعرض على الجمهور وضعوه بينهم فلم يجزع.. وجدها فرصة برغم قلقه من المصير الذي ينتظره.. سأل الذي بجانبه..
- ما الذي يحدث؟
نظر إليه الشيخ مهموماً ثم قال 
- لقد تمكنوا من البلاد
لم يعقب الشيخ لأنهم أخذوه وعرضوه على الجماهير وأخذ رجل بالميكروفون يتحدث باللغة الغريبة ويثير الحماسة ممسكاً بكتاب حتى أنهى كلماته فثارت الجماهير وأخذت تهتف في صوت واحد وكأنها تنطق بالحكم، أمسكوا بالرجل وقيدوا يده اليمنى على منضدة وجعلوها مفرودة الأصابع.. أمسك أحد الجلادين ببلطة وهوى بها على الأصابع فصرخ الرجل وزأرت الجماهير
أخذوا آخر وفعلوا بالمثل من حديث الجماهير وهم يعرضون كتاباً آخر حتى زأرت الجماهير بالحكم فأخذوه وألقوا به في حفرة مضيئة ارتفع لهيبها عند سقوطه بها وآخذت الجماهير تنشد وتترنم.
أتى عليه الدور ورأى نفس الشيء يحدث وأخذ ينتظر حكم الجماهير بعد أن فهم ماكان يريد ..تذكر العزلة في شقته والأتربة التي أصبحت تملؤها ..أراد أن ينشد أغنية حزينة اعتاد ترديدها في مصائبه ولكنه خاف أن يسمعوه فيقتلعوا حنجرته أو يقطعوا لسانه .