عيناه ترحل بعيداً للقمر

(1)
يمسك أخى بالفأس .. يحفر ويحفر .. العرق يبلل صدره العارى .. يناولنى المقطف .. أفرغ التراب منه. يعاود أخى ملئه .. يقف أبى متحفزاً بعيون صقرية .. فجأة يقفز للحفرة .. يتناول الفأس من أخى " إنت خايب " يطرق أخى خجلاً .. يضرب أبى الأرض ضربات قوية متتابعة بيده الخشنة .. تنفر عروقه وهو يصيح "كده الحفر" يناول أخى الفأس بقرف . يمد كفيه للمشيعين ويتسلق جدار الحفرة برشاقة شاب ربيعى السن. 
عيناه تتابعنى .. يتحين الفرصة لإشباعى لواذع الكلمات . حينما طالبوه بحضور أمى لتقبل العزاء فى أخيها ـ لازوجة له ولا ولد ـ قال " مراتى تخرج م البيت .. لقبرها " بصعوبة تم إقناعه . تفلت يدى أذن المقطف .. ينسكب التراب داخل الحفرة ثانية .. يتساقط بعضه على رأس أخى .. ينقض على .. بصعوبة يمنعونه بينما لسانه ينهال بالسباب . 
ينتهى الحفر ويدفن جثمان خالى .. قطعا عصافيرى تفتقدنى .. فى القفص أدفن أحزانى .. أزقزق بشجن معهم .. أحلم .. أطير وأحلق معهم داخل القفص .. رفرفة أجنحتى لاتتعدى الجدران .. رأسى تصطدم بسقف القفص لاتطاول السماء.

(2)

يأتى صديقى .. نضحك سوياً .. يشاركنا "سامح " أخى الأكبر ـ لا أصدقاء له ـ تتعالى ضحكاتنا .. يدفع أبى الباب .. نقف ثلاثتنا .. تغوص ضحكاتنا .. يستأذن صديقى وينصرف . 
يصيح أبى " ميت مرة قلت الأولاد بيخسروا بعض . تف على قبرى لو فلحت " يلتفت لأخى " وانت يافالح.. مش عايز تتجوز ليه؟"" ماعنديش سكن " " ودارنا .. مالها ؟ "" ما .. ما .. أنا .. عا … " " انطق " يزدرد أخى لعابه فى صوت مسموع .. يطرق برأسه فى انكسار .. " والله ما أنتو فالحين " أهرول لعصافيرى .. أضع فى كفى (الفلارس ) يلتقطون الحب من .. أضع بقاياه داخل الغذاية.. أرش فوقه بعض الأملاح علهم لاينقرون البيض المرة القادمة .
أنتظر أفراخكم بفارغ الصبر .. لأراهم قطعة لحم .. صغيرة تفتح فمها جوعاً تلتقط الحب والحب.. أتأملها والزغب يغطيها أسعد حين ينبت ريشها .. أحلق معها حين تستطيع التحليق . 


(3)
" فين أمكم ؟ "" تعبانة .. نايمة فى أودتنا " يتمتم بضجر .. لا أتبين حرفاً .. يولينى ظهره . 
أخبر أمى بغضبه .. تحدث نفسها بصوت خافت ألتقط بعض العبارات " ملعون أبوه... ولادى كبروا ... كفاية اللى شفته ".
همسات تدور فى البلدة عن قرب خطبة أبى .. أأخبرها .. أم أصمت ؟ تقبل أمى . كيف أبدأ حديثى ؟ أرتبك.. تبادرنى "بنت مين ؟ ما تعرفش ياأحمد ؟ " جنبتنى كثيراً من الحرج "بنت أبو حجازى " " العذبة ولا المطلقة ؟ " " العذبة " تتمتم بكلمات غاضبة لايصلنى سوى " ورث ولادى " . 
يصيح أبى " واد ياسامح بكرة المغربية تيجى معايا نخطبلك بنت عمك" . عند أذان المغرب يمسك أخى ببطنه .. يتأوه .. يتكرر دخوله الحمام .. يلتحف بغطائه وينام .. فلأذهب لعصافيرى .. حذائى أسفل السرير . فى هدوء أجذبه خشية إيقاظه .. تصطدم يدى بزجاجة ما .. أقرأ المدون عليها "زيت بارفين " محتوياتها فارغة أدسها فى جيبى.. بحرص وسرية أتخلص منها لكيلا تطولنا صفعات وركلات أبى . 
أتفحص عصافيرى .. تصدمنى بيضتان بهما نقرات خفيفة.. ملقيتان بإهمال خارج العش وبعض بقايا القش تعلق بهما. بحزن ألملمهما " كل مرة " أعاتبهم بنظراتى . يرفرفون بعيدا ويعطوننى ذيولهم . 

(4)

فى سوق البلدة .. أراها " بنت أبو حجازى " تشمر أكمامها حتى منتصف ذراعيها الممتلئتين . تجلس لتبيع البيض وأفراخ الحمام .. آثار زرقاء تبدو على ذراعيها .. على وجهها بعض الخدوش المتناثرة .. خدوش تصطف فى صفين تبدو كآثار لأسنان مغروزة .. يبادرنى صديقى " إمبارح صوت أنين سمعوه جيرانها بعد الفجر .. طفل إدعى إنه شاف ست بملاية 
سودا مخبية وشها .. خارجة من عندها .. سألتها جاراتها قالت إنها كانت بتحلم ووقعت على الارض ".
يعود أبى مساءاً ساخطاً .. يصفع الاثاث .. يركل الكراسى .. ثلاث هرر تنكمش فى سكون يتعالى وجيب قلوبها .. شبح ابتسامة ترتسم على وجه أمى تحاول جاهدة إخفاءها . أتعجب .. تتسحب بعيدا .. ننزوى أنا وأخى فى ركن .. نسمعه يتمتم " الحافية .. لأ إزاى ؟ هى لاقية تأكل ! " نختفى بعيدا عن أنظاره. 
أتقلب على فراشى .. يوقظنى إتساعه .. أبحث عن أخى .. ينام على السرير الذى كانت تحتله دوماً أمى " فين أمى ؟" يشير بأصبعه تجاه حجرة أبى .. أنصت أصوات مكتومة تصلنى . 
يبادرنى أخى " إمبارح يا أحمد تهيأ لى الباب انفتح بعد خروج أبويا لصلاة الفجر " " أكيد كنت بتحلم .. سامح .. إنت ليه مش عايز تتجوز ؟ " يتجاهل الرد .. يجذب الغطاء .. "غيرك يتمنى ! "عيناه ترحل بعيداً للقمر المتلألأ فى السماء .. يتنهد تنهيدة حارة .. أغير مجرى الحديث.. أخبره بأمربيض العصافير .. أتابع " الصبح حأخدهم للوحدة البيطرية " ينتفض من سريره " حاول تفهم .. بدون فلسفة منى .. أو تريقة منك العصافيررافضة فراخها تدوق مرارة الأسروتعيش فى قفص ". 



(5) 

يتعالى صياح أبى .. تزداد عصبيته يوماً بعد يوم . تنزوى أمـى بعيـداً .. علـى أطراف أصابعى أتسحب.. فى منتصف المسافة لحجرتنا يصرخ . أنتفض . أكاد أقع " صحى أخوك .. إنتش الغطا منه " يتابع " اما أرجع حأوريه على تأخيره بالليل .. أدى خط فى الحيط لو فلحتم " أرفع الغطاء .. أجده يرتعد تحت الغطاء . عند عودة أبى لم يستطع معاقبة أخى .. لم يملك حتى رفع يده .. يرقد ممدداً أمامنا بلا حراك . نظراته المنكسرة .. تثير رعبنا . لسانه لا ينطق .. حديثه الصامت يخيفنا . يسيل لعابه على جانبى فمه لا يملك إزاحته . عندما أفرغ الحوض المتصل بالقسطرة وتسقط بعض قطرات البول على الأرض .. ينتابنى إحساس إنه سيقوم من رقاده ويصفعنى . لازالت أمى لاتطأ عتبات الدار .. لازلنا لانتأخر فى الخارج بعد التاسعة . 
أتذكر قفص العصافير .. أعدو .. نسيت الباب مفتوحاً ـ كانت مشاجرة فى الشارع ـ قطعاً رفرفوا بعيداً . وجدت العصافير تطير داخل القفص وتنظر للخارج .. عند الباب تتوقف .. تنظر لجلباب أبى المعلق على الحبل أمامها بوجل .. تعاود التحليق ثانية داخل القفص .