" أناملى الخشنة "

ظللت هائما على وجهى فى هذه الصحراء ، أشعر أنها تضللنى عن سر طرق السير الصحيحة حتى فوجئت بأننى جائع وسأموت من العطش ، أحتاج إلى عرافة الحى لتضرب لى الودع ، حين تنثر بين أناملها الرمال أمام حجرها ، أمرق من صحرائها الشفافة ، ليدوم نبضى الأبدى ، ويدون بقائى على صفحات مقام الصدق ، تحترق البرتقالة الذهبية حينا من الدهر ، وهى تسبح فى جوف الفضاء وتدور بين مشارقها ومغاربها ، بين نهوضها من رقادها وتوهجها ، انقداح ضحاها العالى ، اشتعال لهبها دون أدخنة ، سقوطها فى البحار أو الحقول خلف الديار وناطحات السحاب الشاهقة ، تنطفئ جزوتها بين السحب والغيوم ، يكشط سقف الكون ، تنكدر النجوم ، تطوى السماء كطى الكتاب المفتوح على إتساعه ، زركشت صفحاته بمجرات وأطياف وأقواس قزح ، يأمر الملك ملاك الموت أن يموت فى مشهد تراجيدى يملأ صداه فضاء الكون الميت ... ولا يبق سوى الإله بجبروته… يرج الكون صوته.
لم أضلل الطريق أبدا فى الذى اعتقدته ، كأنه هو ذاته الحقيقة ، وليس غير تلك الشجرة التى ترخى سدول أوراقها ظلا ظليلا علامة متحركة عليها فوق وجهى ورأسى ، فى هذه الصحراء الشاسعة القفر ، هى وحدها من أحبتنى ، لم أتصور يوما وهما أشد من هذه الحقيقة الشاخصة ، لكننى رضيت به ، كم هى عسولة مذاق شهد رضابه فى فمى ..... حاولت الهروب منها ، لم أفلح ، يجوب فرحى أفدنة بورا شاسعة فى أرجائى ، ليبذر نبته ويغرس شتلاته ، فيزداد عشقى لكون طرفه لم يستشف بعد.
أتى صديقى يقرأ عن هذه التخاريف العلوية ، وأنا أوسم بها صفحاتى وتدويناتها اليومية لى ، كم هى الفيوضات التى يختزنها العاطفيون أمثالى فى قلوبهم الطرية ، وتصبح لهم غذاء مثل التين والزيتون ...... قال:-
- أنت ضعيف أمام الأحرف الناعمة الحريرية الملساء ....... وهى تكشف لك عن بضتها ، فتخلب لبك .......
حلقت فى أفق خلايا العسل التى ملأت فمى ، زادت عسولتها وهى تذوب كفنضام فى لعابى المنحدر كسيل لم أستطع إيقافه ..... لم أتوقع لحظة أن مسارات المعاصى يمكنها أن تنفتح أبوابها على بهذا الشوق الدانى ، وتطلب منى قطوفه ، ثم تقذفنى كخطيئة مكبوته لدى مخلوق غرق فى الألحاد بين هذه الأوثان البدائية ...... أشرقت إبتسامة لها ألوان عديدة رشقتها فى عينيه ، تهتز رقبتى كإبرة الحياكة الصدأة .
قررت أن أكشر عن أنيابى وأكسر هذه الكبارى التى مدت داخل قلبى ، وقطعت وجففت الورود التى تفتحت داخلى ، عبر كلا طرفى الكرة الأرضية ، طرفى المسكونة ، النقاط المجازية لخطوط الطول والعرض ، المشارق والمغارب الأنية والمنتهية والمستيقظة لتوها ، وكل أذرعها التى مدت ناحيتى .
ذبلت الشجرة وجفت فروعها ، ليتها تغلفت بقدسية شجرة العذراء ، نمت فى أركانى إغمائة ، أصابتنى مدة طويلة بتباريح الحزن والجوى الدفينين ، أفقت بين جفنى عينى منذ قليل ، لأجد أشواك الأسئلة عن سر الحقيقة تدمى جراحى ، أبحث هنا ، هناك ، عن آثار الشجرة ، لأسقى الفروع التى أستشف إخضرارها يوما يأتى .
لم أجد سوى رزاز فمى المعبأ بالميكروبات واللهاث ، ظللت هائما على وجهى فى هذه الجنة الموحشة ، أناشدها الإخضرار ، والرعب يحاصرنى من داخلى ، ويجبرنى على عدم الحركة والتشبث بمكانى ، وأنا أرفع من ترابها فوق رأسى .
دخلت بيتى ، حيث حجرة نومى ، لإستعادة بعض الوعى الميت والمنتهى أين لا أدرى ، من الممكن أن يكون بين دفء دفتى مخدعى .... المعدوم ..... حيث لا شئ .
- مؤكد أنك صرخت يا سيدى.... فى ماذا ؟ ، أه ، حينما تصبح رميمً ، أشلاءً .....
- أنت لا تدر يا نفسى ، إنها رؤية بعض القمامة التى نويت أن أفتتها ، وأطيح بها من النافذة حينما يتنفس الصبح وليدا جديدا.
كم حلمت هنا على حافة هذه النافذة ، بأننا نستقل الحافلة ، ونمرق بها بين الزروع والمروج ، أو أوزات شراعية ملونة ، أو بساط شيرازى سحرى ، هنا لابد أن يعجز لسانى عن إخراج الأحرف ، ليس غيرها مرج أشجارى الفواحة فى واحتى الصغيرة .... إمتطانى البكاء ، وزلزل كيان إعطائى أذنى لمتفرج لم ير شيئا فى جنة ملاكى المتكسر الأجنحة.
إنتحبت بدموعى الحقيقية على صدرى العارى – كاوية ، مشوهة جلدى - من لون غير واضح ، وعلى أصابعى بدت دموعها فى أطرافى البعيدة اللامرئية ، أقصى الأقاصى ، قسوة عدم الصراحة فى الولوج إلى الدنو والتدلى ......
- نويت الآن فقط أن أنظف حجرتى لعل زائرا يطرق المجئ ..... حين يلاحقنى ، أو تهب رياحه عندى .
- انتظر ، ماذا بيمينك يا سيدى ......
- إنها ورقة مضغوطة ......
- فكها يا سيدى ...... فإذا بها شيئا يعيدك إلى سيرتك الأولى .
توقفت بين طرفى نظرى ، بين أصابعى المتشنجة ، العارية من الأوشحة ، المتسخة بالأتربة .
نفضت عن الورقة الأتربة بإبهامى ، وبتكاتف أصابعى ، نزعتها من تكوماتها ، فتحتها ، بسطها مفلطحة على اتساعها ، أعدل من تكسراتها العشوائية وكرمشاتها المتزايدة وأخاديدها المتتاخمة ، إنها رسومات التاريخ وروعة أحاديث أزمان ونقوش الفن القديم عنها ، إنها منها ، يا لنعومة أناملها ولون مانكير أظافرها ، حين تدب فى الحياة الألوان الطازجة .
بدأت تلتقطنى الأحرف المزروعة هنا وهناك ، ترقبنى من خمائلها ، تغازلنى بطرفها ، نباتات فواحة بالبخور والدفء على أشرعة كالآعلام تجوب البحور فوق صوارى الفلك العتيقة ، شعرت كم يغطس داخلى قاتل ، ضربت رأسى فى حائط القبو حتى إستعصت سيول الدم عن النزول إلى الأرض ، لماذا اجتثثت اليانعة الرائعة ، لما لم أقس بين قسوة السمع وتريث الصبر فى الفتك بحباله المهترئة ، حتى تتم الرؤية ، أه من أولئك الأربعة أصابع .
- لماذا ؟
تعاود أحرفها فى فمى الإشراق والإخضرار ، ما أن تغرب أو ينتابها الإصفرار ، تشعر أركانى بأحتراقى على أحد أعمدة جنتى ، لا أستطع إعادتها ، ما يبرد البكاء الحارق ، لأن ما سيسقط الصواريخ الكيميائية من عينى ، لن يمنع منصتها من إعادة الإطلاق ، تكسرت أنفى بأناملى الخشنة ، بأناملى الخشنة كتبت إليها سطور استحقاق المنع ، لم أستطع تفسير أى من بياض أوراقها فى الماضى ، أحسست الآن أن قلمى إذا هو حية من صدرى تسعى ، لم أجد ما يسلينى عنها سوى إستمرار بكائى بين أناملى الهشة العرجاء .
تمت