افضــاءات نهر الألوان

(1) انطباع

ابهرته فتنةُ الألوان فساقتهُ إلى جنانِ الخلق .. رفلَ على خمائلِ تقاسيمِ البوح فعاجلَهُ الروحُ بالافضاء الدفيق . يجد في " كلود مونيه " مُريداً له ، يَستقي من تلكَ الاناقةِ الداخليه التي يتمتع بها ، فتأتي نتاجاتُه صدى لطبيعةٍ تتشربُ اليناعة ، وتعومُ في ايقاعِ الألوان الهادئة . يُحدِّقُ في رعَشِ الزهور الطافية على الماء السارق لخضرةِ الشجر ، ويندهشُ لموسيقى دفينة ! لا يدري إنْ كانت تفوح من سطحِ اللوحة أم تتعالى من منعطفاتِ روحه الجامع لعذوبة الماء .
كانت الطبيعةُ تندهُ به لتنثر على صفحةِ بحثهِ ابجديةَ اليقين بأنَّها المآل والخاتمة ، ومعها كانت الألوان تتعرى بهياج دواخلها الفائرة فترجوه سكبها على يناعة الذائقة التائقة للخلق الجميل ..
ومن هناك ! .. من سهوب النأي ؛ من الذاكرة الملأى بالجزع والقلب المترع بالمرارة يأتيه صوتُ مونيه : " نحنُ نرسم كما يغني الطير ! "
فيفيق .. !
يدخل ميدانَ الرِّضا ويهجر الصخبَ الذي تأتي به المدنُ هويةً لوجودِها . يتأسّى لأشهرِ الجزع التي أبعدته عن دنياه الأثيرة ، ساعياً لتعويضِها . يقف أمامَ القماشة التي هجرها ويمسك شغفَ الفرشاة المتأججة لسكب عصارتِها سعياً للخلق . أمامهُ الفراتُ وماؤه الفيّاض ، ثم الضفةُ الأخرى والبيوتُ التي تركتها عشريناتُ القرن العشرين هويةً لزمنٍ لم يفتضُّه دخانُ عوادمِ العربات ، ولا وصلته ابتداءات هدير الطائرات ؛ فقط تجمَّع حوله صبيةٌ تنامى عددُهم على حمّى فضولِهم لمشاهدةِ هذا المأخوذ بابجديةِ الطبيعة ، ثم راحوا يكبرونَ بوعيهم وانبهارِهم مع تنامي خلقِ اللوحة وظهور النهرِ منساباً ، وصف اشجار الكالبتوس كثيفاً ، وشواخص البيوت متعالية ، وصياد يجر شبكةَ صيدِه ، وفتيات يجلسن عند الضفة البعيدة يتابعن الالتماعات البارقة خلل شبكةِ الخيوط المنسحبة من قلبِ الماء إلى حضنِ الزورق . وإذ يلتفت ليقيس انطباعَ دواخلِ الصبية يبصر " مونيه " منتصباً بينهم وقد تراغت على سحنةِ وجهه تعابيرُ رضا وابتسامةٌ ترسم عودةً ناجحةً لعالمٍ اثير ، ونهايةً كخاتمةٍ ناجزة لانكفاءٍ أقرّهُ كبوةً بمثابة مراجعةٍ .. مراجعةٍ ، لا غير .

(2) ارتشاف هيام

هامَ على هواه فانتشى ؛ وعامَ في هُلامِ الرحيلِ الغيمي إدراكاً للمبتغى . صارَ يجاهرُ بارتوائِهِ من بئرِ الألوان ، وأعلنَ أنّه شرعَ ينفصل عن محدِّداتِ العالم الماثلة ، ويتوه شغفاً في ابجدياتِ البحث . كانَ يستلّ من مُتنسمات " فان كوخ " الغارقة في حمَّى طغيانِ اللون الواحد وضئآلةِ الالوان الراكضة رغبةً بالمصاحبة . يقف عندَ ابوابِ الهياج الضاج داخل دروبِ النفسِ التائقة للتعبير فيهمس للفرشاةِ أنْ تتهادى على القماشةِ البيضاء لتجسَّد سيحَ الروح تاريخاً يحكي كوارثَ وأحزاناً ، تِيهاً وضياعاً لأناسٍ سحقتهم رحى الالام وأمامَهم في الافقِ البعيد بواكيرُ عواصفٍ من دماءٍ فوّارة وغَم ..
فتألمَ فانكفأ ! ..
فواصَلَ فانسحقْ !
ثم توقَّفَ بغتةً ليضربَ بعدها بعينِ الانفعال على منابتَ تأجيجِ الوعي الذي يتَّخذ حالةَ عِصاب داهمه فجأةً ، لكأنَّ دخيلاً بغيضاًَ اقتحمَ أسوارَ مملكته الغافية على بحيرةِ السكون ذلك الذي أغواه إلى هجرِ مرسمِه يوماً ، وإعلان غيضهِ على الألوان المُنتظرة خلقهً . صارخاً : " مَن ينهي عذابَ التعساء ويوقف هديرَ الألم ؟! " توازياً مع " كوخ الصارخ : " كيف نسمح بأنْ تكون هناك امرأةٌ وحيدةٌ تعيسةٌ على الأرض " أردفها مع " الحزن " عنوان لوحته التي تُمثّل امرأةً منكفئة ترمي وجهَها في انحناءةِ ذراعٍ متهالكة . وحيث أن " كوخ " خرجَ من سيلِ المرارات التي ألمَّت به وداهمته مرتشفاً دواء الهيام بجلالِ الطبيعة جاهرَ هو بعشقِ البساتين وانثناءِ الشمس مَيساً وغنجاً ، انفضاضاً من شرنقةِ الدكنة الغالبة على اعمالِه . وفيما كان " كوخ " يهيمُ فينتشي متبارياً مع الفرشاة في " حقلِ قمح مع قبرة " كان هو يتماهى مع ساعةِ حصادٍ وفتاةٍ ريفيةٍ جنوبيةٍ تحزم سنابلَ الشعيرِ وتحملها هالةً من ذهبٍ فوقَ الراس . يستدير " كوخ " فيبتسمُ له ، ويلتفتُ هو فيفاجىء بنفورِ القبّرة وطيرانِها الخاطف .
كلاهما التقيا في وهجِ الالوان ،
ولظى الاحتراق ..
وكلاهما افترقا عند ابجديةَِ التعاسة ،
ومرافىء الضياع .

(3) هارموني

كما الفراشات في جذوة التحليق ، وانطلاقة المدى على يفاعة القوامات حفّز الفرشاة لتؤرخ ارتقاء الروح تعبيراً ، سعياً لانتاج اللوحة المرتجاة . القاعةُ تمتلىء جدرانُها بالمرايا ، والسيقانُ تتقافز استناداً على حافات اصابعِ الاقدام ، ابتهاجاً مع التويجات البيض للـ " تفتا " الناصعة التي تقبض على الخصور ، والسواعد الفتية تأخذ حركةَ الاقواس توافقاً مع انحناءات الرقاب في تشكيل هارموني يأخذُ ايقاعُه على هدي الموسيقى الراسمة في انطلاقات الخيال شكلَ البجعات البيض يعُمنَ في بحيرة الحبور.( لقد إلتقى " ادجار ديغاس " في أحد أزقة باريس وهو يهمُّ بدخولِ بناءٍ تعالت طوابقة العديدة المطلية بلون القهوة الداكنة . أراد أن يسأله عن سرِّ ولعِهِ الجارف في تجسيد فتيات الباليه كتوجّه فني : هل أراده مدرسة تخصّه فتميّزه كخالقٍ خلاّق ؟! . ديغاس حدّقَ فيه ، وهاج في داخله سؤال : مَن هذا الأسمر الملامح الذهيل الذي قطعَ عليَّ الطريق ليسألني سؤال السرِّ ؟ وما الذي أتى به إلى زقاقٍ باريسي ليرشقني بغيوم الدهش الطافح من عينيه ؟! غير أنّه تجاوز الحيرةَ ليأخذ به ويدخلان عبر بوابةٍ صاجيّةٍ عريضة تأخذهما لقاعةٍ تمتلىء جدرانها بالمرايا .. هناك عرف ديغاس أنَّ سائله قادمُ من بطون الشرق ، من أزقّة السماوة ، بقلبٍ يحمل شوق التعبير والخلق ، عندها أدرك كم كان " ديلاكروا " مُغرماً بذاك الشرق وعوالم المبهمة بحيث قادَ اتجاهاً فنياً صارَ هويةً للرومانسية ) هناك ابصرَهُنَّ في انهماكٍ بغيةَ الاستعداد ، تُحكم احداهُنَّ مشد الخصر للأخرى ؛ وأخرى تستطلعُ اكتمالَ مَظهر التي تسألها مُتَّخذةً استدارةً لولبية تشبه حركةَ بروفةٍ أولى .
لحظاتٍ وضربَ جرسُ البدءِ رنينَهَ ، فتوتَّرت الاجسادُ البضّة وتهيأت السيقانُ الفتيّة . ابصر الرجلُ المدربُ يومىء باشارةِ الاستعداد ، وشاهد ديغاس أمامَ مستطيلِ القماشة البيضاء يُحفّز النظرَ ويستدعي المَلَكةَ فيما توجهت الاصابعُ تمسكُ الريشةَ ولوحةُ مزجِ الالوان البيضوية تهيىء ألوانَها النائمةَ لتصنع دنيا الخلق .
وعلى هدي الموسيقى ، ورقصةِ الفرشاة ، وتماهي الألوان ، وقفزاتِ الفَراشات البيض على الارض الصقيلة ، وتباهي المرايا بالهارموني الحركي صار يتطلّعُ ذهيلاً ، تُعيده الذائقةُ والمَلَكةُ إلى قفزاتِ بنات الزقاق وهنَّ يتهادين إلى النهر لملىء الجرار والعودة على همسِ النهر ومخلوقاتِه الحاملة شفرات السحر والاسرار الدفينة . فيقرر مُقارعةَ ديغاس ، ويوعده بعرضِ فراشاتٍ تخضبها الألوان راقصةً على ارضٍ عشبية وهنَّ يُطلقنَ رسائلَ الولهِ غناءً للطبيعةِ ، وحبوراً بالشباب .


( 4 ) انفاس مدن

مع الضبابِ أو في سطوةِ شمسِ الضحى .. تحت تأثيرِ رذاذ المطر أو مع تقادماتِ لحظاتِ مغيب الشمس ظلَّ هو وفياً للجمال الذي يتراغى في روحهِ المهتاج . أوجدَ لنفسِهِ تقليداً للتعبير ، أساسُه محاورتُه للألوان بحضورِ ابجديةِ الطبيعة .
كان و " كاميل بيسارو " يتبادلان المشاعرَ ويتصارعان في لُججِ الاحتدام . يهمَس له الأخير من هناك .. من على ارضية الميناء النديّة : لن ابرحَ " رَوين " ولا اتركَ جسرَها الكبير ! والبحارةُ المنشغلون في اعداد الزوارق مع العمال المنهمكين في رفعِ حمولةٍ إلى البواخر أو تفريغِها منها سيأخذون منّي الاهتمام . ساحاورُهم بالذائقة ، وأؤرُّخُهم بالفرشاة ! " ؛ بينما هو يجمع شَتات ذهنِه المتوزع على " شريعة حمادي " والفرات الذي يغذّي قلبَ " السماوة " ، فيتمتم بوشوشةِ الحالم : " يلزمُني العوم في فيوض اللحظة بغية القبضِ على ما اتجاوزك به ايها العائمُ في بحرِ الالوان .. بيسارو ! أُريدُ لفرشاتي أنْ تحفرَ على صوانِ الذاكرة التاريخية ما يُجسّد صفَّ النخيل المتراص ولعاً للماء وهو يغني للضفافِ اغنيةَ الطبيعةِ الازلية ، وذلك الناي الذي صنعهُ عاشقٌ سومري كانَ يعزف به ليلاً طلباً لحبيبةٍ غيَّبها الموت ، ثم حين لم تعُد إليه رماهُ إلى الماء فتولّى النهر منذ تلك الحُقب والسنون ترديدَ فحوى الألم في عزّ الفراق ." .
يوم التقيا على قارعةِ عرض الدواخل كان بيسارو يرسم " رَوين " بمعاملها التي يعتلج قلبُها فينفث دخاناً ابيضَ ، ومداخنَ فاحمة تنهضُ من بناياتٍ اسقفُها قرميديةٌ حمراء ، وعلى اليسار جسرٌ بمتكآته الخمس يستأنس لدربكةِ حدواتِ الاحصنة التي تجرُّ العربات تحت سماءٍ نادت على غيومٍ فضيّة ليزدهي الفضاء ويتحقق المبتغى . وكان هو يجمع عِدةَ الفعلِ الخَلقي ويتحرك ليضع ايقونةَ مدينته السماوة على مرمى الهواء لتهربَ طراوةُ الالوان ، وتجفَّ خثرةُ الروحِ عارضةً صفَّ بيوتٍ على بستانٍ يمتصّ دكنةَ الاخضرار وقد تدلت من بعضِ الشرفات رؤوسٌ لصبيّات يتأملنَ المارة باهتمام بينما انشغلَ الصبيةُ الذين احتلوا السطوح باسقاءِ طائراتهم الورقية خيطَ الانعتاقِ والانطلاقِ ، وتغذيةِ دواخلِهم الشغيفةِ برغاوي المتعةِ ، والبهجةِ ، والجذل .