مريمتان

ها أنت أمامها وقد خالتك ميتا منذ نصف قرن..
تتوالى العبرات تملأ مآقيها، بحورا مهيجة من الشوق إليك، الحرب كالحب يدفع ثمن خطاياهما الأبرياء دوما..
كنتما في عمر الورد، بريئين كالفراشات منذ أول يوم إلتقيتما صدفة… وهاهي الصدفة تكرمكما بلقاء قدري في العيد الخمسين لثورة الجزائر، توقظ فيكما ثورة حب أيضا..

لا يجرؤ أحدكما استمالة الآخر للمسافة القصيرة التي بينكما، في رواق متحف المجاهد..هي بكت وأنت لم يكن أبدا صعبا أن تكشف وجهها الجميل من خلف التجاعيد…شعرها أشقر مسترسل رغم خصلات الشيب..
رغم نظرك الضعيف ميزتها من قلب حشود الناس الوالجة لقاعة المحاضرات، بل يكفي أنك شممت عطرها المنسوخ في ذاكرتك منذ استيقظت الصبيحة..

أصبحتما كنقطتين مضيئتين وسط الظلام السدل على كل ما حولكما، ليحتويكما حيز زمكاني، ذاك عالم لا يعني سواكما.
لقد بقيت كما كنت، وسيما بملامحك العربيرية، وعيون رجولتك الثورية..إلا أنك ترتجف برعشة الصدفة، يبدو أنك وليت عجوزا، وقد ولى غليك ذكرى الحب الأول..تلك ماريا ليس شبحها..

أخيرا تقدمت خطوة إليك، مشت بتأن، مندهشة، كئيبة وربما سعيدة..يخاطبك سرها:
-" علي مازلت حيا !".
ويجيبها صمتك:
- "حقا لقد احتويت دوما جزءا منّي".

أحاسيس تستيقظ وتكبر وتنفجر كالبركان، مع أول دمعة تنفلت عفوا من عينيه الحادتين.. يداري عنها وجهه المنعصر وحشة وخجلا..
يخرج فورا من جيب بدلته الزرقاء، رسالة مصفرة بالية، تآكلت حواشيها لكنها مازلت مغلقة..
بكبرياء وحذر شديدين يسلمها إياها، يداه ترتجفان على مرأى عيناها التعبتين في إشراق، يتنفسا الصعداء..
- إنها من مريم"

دوما ظن أنها موجودة في عنوان ما، وسلم دائما أن يحدث في الأفق الأعلى، لذا لم تبرح الرسالة صدره يوما، كان يفتقدهما الاثنتين.
أنا أحست أنها ماتت..لكني تمنيت أن لا يحدث ذلك..لكن حدث"..قالت وهي تضم الرسالة إلى صدرها.

حدث وأن زارت الجزائر في الذكرى الأولى للاستقلال، جاءت إلى القصبة تبحث عنهم، ..عن مصطفى، عمر، مريم وعن علي..
لكن البت كان خاويا مهجورا، وتلك الغرفة في الأعلى، كان مصباح الخالة أم مريم مطفئا، فقط دفتا النافذة يتأرجحان على صفير الريح..وتلك البئر وسط الدار ردمت بالخردة وبقايا الدار الكبيرة، لم يتبقى إلا أصداء أصواتهم البريئة وهم يجوبون بأجسادهم الطرية الفناء، يتخطوا الآنسات المنهمكات حول البئر يغسلن ويثرثرن، كان بيتها في الجهة المقابلة حيث الحي الأروبي بالساحة العسكرية، حول هو الآخر إلى مقر حكومي..لذا لم يتبقى للمكان أن يرشدها إليهم ..بحثتت ثم عادت..

اكتفت منذ ذاك الحين بما تردد في الليلة الاخيرة، من أيام وقف إطلاق النار، أن عمر وعلي ألقي عليهما لقبض.
ما كان لها أن تتيه يوما لو ظلت الخالة أم مريم، فلن تبرح قط غرفتها العلوية، ستحفظ بأقطاسها النحاسية، وسريرها التركي مع قطفة من ذكريات الحومة والحوش وسي العربي زوجها، فالأرامل العربيات لا يعشن إلا لماضيهن، تماما مثل الأروبيات إذا تزوجن عن حب وفي..

فقدانها حتى اللحظة يؤجج الغبن داخلها، كانت أما لهما ، فما حسدتها مريم ، فقد اقتسما الحب والحنان بالقسط، وقد غدت يتيمة الأم، تهرب من بيتهم إليها كلما يغادر والدها إلى الثكنة..عذبت الخالة أم مريم ذات شتاء من فبراير، وللأسف كان والدها ضمن جماعة المضللين.

أحبت مريم وأمها ، كانا جزءا من علي، يتكلمون مثله، طريقة ما في لهجتهم تشبهه، كما نفس الحزن يسكن عيونهم، مثلما يملأه وسامة وشاعرية.
كل الحب ذهب مع الريح ذات انكشاف..اقتيد علي بطريقة غامضة، وفرت مريم ..هي هربت عنوة من أبيها في ليلة حالكة، تلقوا فيها تهديد من اليد الحمراء في فرنسا حيث اجتماع الأحرار ، تسافر إليه كلما هم سارتر بالكلام، وعلاقته الودية مع سيمون رغم اختلافهما، تشفع لها في البحث عنه، فتصطاد صورته وتحتضنه إليها كطيف دافئ، ثم تستفيق كلما تألق سارتر في جداله، وتجيء الجزائر على لسانه، تمنت فعلا لو يفتح سارتر بيته لهؤلاء الثوار ..ربما يأتي علي أيضا فيسكن إليها بعد وحشة..

ضيعت الحرب عنوانهما، فلم يعثرا على بعض إلا بعد هذا العمر الطويل، تحرر الوطن منذ أمد وظلا أسيرين..
لملمت الرسالة في يديها المرتجفتين، وقد امتزجت أليافها ببعض البلل من دموعها..ناظراها لم يبرحا برهة قوامه الذي ظل متماسكا مكتلا، وهندامه بسيط يبدو أنه بقي نجارا..

لقد صنعا بهما الزمن تماما كالثورة، يفرقان غصبا ويجمعان قدرا..
يعلو صوت المنادي:
مدام ذي كولزاك، تفضلي للمنصة لإلقاء كلمة حول منظمة الأحرار"
يرفع رأسه إليها، يحملق فيها بعينيه الحادتين.. ينزع عنهما نظاراته السميكة ثم يبتسم في حزن، ثم يداري سعادة ما تعتري ملامحه لسماع إسمها لم يتغير..
ـ نلتقي بعد قليل..
ثم يضيف كأنه يبرر هزة كبريائه..
ـ إن شئت طبعا..
تشد عنق بدلتها الوردية الأنيقة، ثم ترسم دمعتين على منديلها الحريري، وتهم بالمغادرة..تتقدم وتستدير إليه كل لحظة، بينما هو يراقبها في صمت مذهل..لم يصدقا بعد ما يحدث..
اعتلت المنصة دون حقيبتها..تخرج الرسالة تفتحها أمام الجموع المصطفة على طول المدرج نحو الأعلى، تهم بقراءتها بعد أن تلبس نظاراتها..تقول بعدما تتجرع نفسها بكبرياء:
- لن أكون أنانية بالاحتفاظ بوثيقة تاريخية هي ملك لكم أيضا..فمريم ماتت من أجلنا..
ـ تقول مريم...
تتمالك نفسها بصعوبة.. ثم تواصل:
ـ "عزيزتي ماريا... نتمنى أن نلتقي يوما..وإن أحسست أن ذلك قد يضحى مستحيلا..إلا أنيي أرجوكي أن تضعي فوق قبري وردة حمراء ملفوفة بشرائط الحريرية خضراء وبيضاء ..كتلك التي كنت تشدين بها خصلات شعرك.. هكذا أراك الآن صغيرتي..أذكريني.. مريم حريز".
نطق رئيس المؤتمر بغصة:
ـ "مريم حريز..لم يعثروا على جثتها إلى يومنا هذا منذ أن اقتادتها المنظمة السرية، كما حدث مع الكثيرين من الثوار..".
تنتحب بكبرياء، وعيناها الزرقاوين متعلقتين بعيون علي المنتظر هنالك في أمل، متفائلا عند باب المدخل..تختتم ماريا قائلة:
ـ " يمكن أن أضع لها الزهور في كل مكان، وحدها الأرواح حرة طليقة".