رؤوس الحرية المكيسة .. بين المطرقة والسندان

رؤوس الحرية المكيسة .. بين المطرقة والسندان

سلمان زين الدين الحياة - 09/08/07

منذ اندلاعها شكلت الحرب على العراق موضوعاً روائياً بامتياز. فتحويل الحدث التاريخي الى أثر روائي حرفة دأب عليها الكثير من الروائيين، ما يتيح الوقوف على كثير من التفاصيل التي يغفلها المؤرخون وتعكس النبض الاجتماعي في فضاءٍ معيّن. فالروائي كما المؤرخ يتخذ من الأحداث مادةً لعمله غير أنه يُعيد تشكيلها وفق منظوره الفني لا وفق حصولها في سياق تاريخي. وبهذا المعنى، تكمل الرواية التاريخ على طريقتها وتعيد ترتيب التفاصيل فيما يُعنى هو بالخطوط العريضة العامة. وهذا ما يفعله الروائي العراقي جاسم الرصيف في روايته العاشرة «رؤوس الحرية المكيّسة» (المؤسسة العربية للدراسات والنشر).

يرصد الرصيف كيفية وقوع الحرب على شريحة اجتماعية تمثّل القاع والهامش الاجتماعيين لمدينة بغداد، ويبين كيفية تعامل هذه الشريحة مع الحدث التاريخي الداهم/ الحرب، ويُحدد تموضعها بين سندان نظام استبدادي يحصي على الناس أنفاسهم ومطرقة حرب لا تبقي ولا تذر شنّت باسم تخليص الناس من هذا النظام. ويكون على شخصيات الرواية أن تهرب من «دلفة» النظام الى مزراب الحرب.

تدور أحداث الرواية، عشية اندلاع الحرب، في حيٍّ هامشي عند أحد أبواب المدينة، هو حي الثالولة. واذا كانت الثالولة في اللغة هي الخراج الصلب الناتئ من الجسد، فإن هذا المعنى اللغوي يناسب الوظيفة الروائية لحيٍّ مبنيٍّ من الصفيح والطين يحتضن الفقراء والمهمشين والمهرّبين والخارجين على القانون والمطلوبين من النظام. ويتمخض السرد عن عيوب خطيرة في الاستعداد للحرب ترتبت عليها نتائج كارثية. فانطلاقاً من حي الثالولة نموذجاً، تُبرز الرواية: النقص في التسليح، والنقص في التدريب ، وعدم وضع الرجل المناسب في المكان المناسب ، وتخلّي المسؤولين عن الجنود (الشيخ بعيو مع زوجاته، الشيخ قندرة ركب هدايا الرئيس واختفى)، ورزوح الناس تحت وطأة الخوف والفقر والحصار واستبداد النظام...

وعلى رغم ذلك، كان ثمة تضامن اجتماعي يشدّ أهل الحي بعضهم الى بعض. وكان ثمة مستغلّون للحرب يكدّسون المال بوسائل غير مشروعة. وهكذا، فشخصيات الرواية هي ضحايا النظام واستبداده من جهة، وضحايا الحرب من جهة ثانية. ولكلِّ شخصية همُّها الخاص الناجم عن الهم العام أو المرتبط به بطريقة أو بأخرى. ففي مثل هذا الحي، وفي ظل ذلك النظام، العام هو الذي يُحدّد الخاص ويتحكم به.

على أنه يمكن التمييز بين نوعين من الشخصيات في الرواية، نوع الضحايا الذي تنضوي تحته معظم الشخصيات ويقع عليه الفقر والحصار والقهر والقتل والنفي والمطاردة والاعتقال والتعذيب، ومن هذا النوع ستنبثق عمليات المقاومة، وشخصيات هذا النوع تراجيدية لكل منها مأساتها، لكنها تصمد وتصبر وتتحمل وتصقلها الأحداث، فتتحول من شخصيات معطّلة الدور ومعلقة المصير الى شخصيات تأخذ بقرارها وتبدأ الإمساك بمصيرها. وهكذا، يتحوّل زمن من شاب غرّ لا يعرف استعمال السلاح ويخيفه نباح كلب الى منخرط في أعمال المقاومة بعد مروره بتجربة الاعتقال والتعذيب، ويتحوّل البدراني من مطلوب ومنفيٍّ في بلده الى لسان الحي يساعد أهله ويصطحبهم للمراجعة بشأن أبنائهم المعتقلين، والعضباء الأرملة التي تعيل أسرتها تتحوّل الى رمز للصبر والقدرة على التحمل...

أما النوع الآخر من الشخصيات فهو ذلك الذي يعيش على آلام الآخرين ويستغل الحرب لممارسة التهريب والتجارة غير المشروعة وارتكاب الموبقات ولا يتورّع عن التجسّس والعمالة للمحتل. ويمثله في الرواية كاشان وكاكا صالح والمخضرم. ولعل أسماء هذه الشخصيات تلمح الى شريحة معينة من الشعب العراقي.

ولعل المشهد الأخير الذي يختتم به الكاتب روايته، بعناصره المتمثلة بتشييع أحد عشر شهيداً وتحليق طوافتين فوق المقبرة ورشق الأطفال لهما بالحجارة وحضور مسلحين ملثمين التشييع، يشكل مؤشراً إلى استمرار المقاومة.

يقسم جاسم الرصيف روايته الى خمسة عناوين داخلية، أربعة منها أسماء شخصيات، والخامس هو اسم الحي الذي تدور فيه الأحداث. وهذه العناوين تتكرر وفق متواليات مختلفة. وفي مقاربة احصائية لهذه العناوين يتبين ان عنوان «الثالولة» هو الأكثر تكراراً بحيث يرد 57 مرة ويشكل حضوره نسبة 33.5 في المئة من مجمل العناوين ما يعني أن «الثالولة»/ الحي هي الشخصية الرئيسية في الرواية. واذا اعتبرنا ان هذه الشخصية مضافاً اليها شخصيات زمن والبدراني والعضباء التي تعبّر عن قيم ايجابية وتحضر بنسبة 83 في المئة من العناوين الداخلية، وأن كاشان التي تعبر عن قيم سلبية وتحضر بنسبة 17 في المئة نستنتج أن الرواية هي رواية ايجابية من حيث العناوين التي تطغى عليها والقيم التي تمثلها.

على أن السرد الذي كان ينتقل من عنوان الى آخر وفق نسب محددة، كان في الوقت نفسه يترجّح بين زمنين اثنين، هما زمن الوقائع وزمن الذكريات. يغطي الأول حكايات زمن والثالولة وكاشان والعضباء، وينتقل من حكاية الى أخرى ليقدم يوميات الحرب على العراق من خلال حي الثالولة وشخصياته، ويتم السرد فيه بصيغة الغائب على لسان الراوي العليم. وهنا، يبني الروائي نصّه في اطار جدلية الظهور والاختفاء لخيوط السرد ويجدل بهذه العملية حبل السرد المتصل بالوقائع.

أما زمن الذكريات فيغطي حكاية البدراني في رحلة فراره من القرية هرباً من بطش النظام مروراً بنجاته من موت محتَّم لدى محاولته الخروج من العراق مع آخرين وصولاً الى عودته الى حي الثالولة ليعيش بهوية مزوّدة خوفاً من أعين النظام. وهذا الزمن أقصر بكثير من زمن الوقائع، فحضور عنوان «البدراني» يشكل 15.8 في المئة من عناوين الرواية. واذا كان زمن الوقائع يتناول الحرب وانعكاسها على الأماكن والشخصيات وأنماط العيش، فإن زمن الذكريات يتناول استبداد النظام وبطشه بكل من تسوِّل له نفسه مجرد التفكير بالمعارضة. وكأن الاستبداد والاحتلال وجهان لعملة واحدة. ويأتي استخدام الكاتب صيغة المتكلم في هذا الخيط من السرد لينسجم مع طبيعة الذكريات التي يطغى عليها الطابع الذاتي. ولعلّ قصر خيط الذكريات في الرواية مقارنةً بالوقائع يومئ الى أن الحاضر المثقل بالاحتلال وتداعياته هو الحيّز الأكبر من المشهد العراقي على رغم ان الجزء الأصغر المخصّص للذكريات السود يأتي مكمّلاً لهذا الحيِّز.

ان انتقال الكاتب بين العناوين الداخلية المختلفة جعله يروي الواقعة الواحدة أكثر من مرة، ومن المنظور نفسه، ما أسقطه في التكرار الذي لا يضيف جديداً الى المشهد، كواقعة اطلاق سراح دليو التي وردت تحت عنواني «الثالولة» و «العضباء».

بلغةٍ يغلب فيها السرد على الحوار، ويتوشّح فيها التقرير بشيء من التصوير، ويخفّف من موضوعيتها بعض الكاريكاتور، ويتجاور فيها معجما الحياة والموت، يصوغ جاسم الرصيف روايته الجديدة، ويمزق الأكياس عن رؤوس الحرية