شعرية الأبواب في ديوان رتاج المدائن

يعد محمد بلبال بوغنيم من الشعراء المغاربة المعاصرين الذين اهتموا كثيرا بشعرية الفضاء والأبواب والمدن و الماء بطريقة قائمة على التشخيص والأنسنة وتوظيف الصورة الرؤيا كما يتجلى ذلك واضحا في ديوانه الشعري الأول" رتاج المدائن" . ويعني هذا أن مبدعنا هو الشاعر الأول في أدبنا المعاصر الذي صور الأبواب وأقفالها على ضوء رؤية شاعرية فلسفية ومرجعية يتقاطع فيها ماهو ذاتي وما هو موضوعي. ويكفيه فخرا أن يكون من السباقين إلى ذلك أيضا في الشعر المغربي المعاصر بدون منازع. وقد رصد الشاعر في هذا الديوان الأول تجارب الأبواب بأفضيتها استقراء واستكشافا بريشة تشكيلية فنية تجمع بين الأصباغ اللونية الطبيعية والرموز الفنية الأدبية. وقد كان الشاعر في ذلك مصورا ناجحا حيث ربط كل مدينة ببابها الدلالي ومعادلها الموضوعي. وبذلك يكون محمد بلبال بوغنيم من بين الشعراء الأوائل الذين خلقوا شاعرية الأبواب وساهموا في" شعرنة" فضاء المدن من خلال رؤية إيحائية تضمينية.إذا،ً ماهي دلالات الديوان؟ وماهي مرتكزاته الفنية والمرجعية والمناصية؟

1- المستوى المناصي:

صدر "رتاج المدائن" وهو أول ديوان شعري للمبدع المغربي محمد البلبال بوغنيم سنة 2001م عن مطبعة ويدان بتطوان في 120 صفحة من الحجم المتوسط. ويتبين لنا من خلال العنوان الخارجي أن الشاعر يشعرن الفضاء وأبوابه من خلال رؤى دلالية ومرجعية مختلفة بصياغة فنية وأدبية رائعة تشبه ماكتبه گاستون باشلارG.Bachelard عن جمالية الفضاء وعناصره الأربعة: الماء والهواء والنار والتراب في كتابه "شعرية الفضاء".
هذا، وقد أرفق الشاعر نصوصه الشعرية بمقتبسات نصية لشعراء مغاربة تضيء القصائد وتسعف القارئ على فهمها وتفسيرها وتأويلها . كما أرفقت بسياقاتها النصية التي تساهم في تفكيك القصيدة وتشريحها معنى ودلالة. وتم تصنيف الفهرس العنواني اعتمادا على الأبواب بمداخلها ومخارجها . وبذلك يكون هذا التصنيف تصنيفا فضائيا وتشكيليا في أبعاده السيميائية والشعرية. ويرد الإهداء في حلة رمزية تجريدية أساسها التجاذب الرومانسي العاطفي والتجريد الروحي العرفاني.

2- المستوى الدلالي:

للديوان الشعري الذي أبدعه محمد البلبال بوغنيم مدخل في شكل تقديم شعري معنون بالشهوة التي تؤشر على الرغبة الإيروسية التي تطبعها ملامح صوفية ورومانسية، ومخرج يكمن في باب السؤال في المعنى واللامعنى، وهنا يفلسف الشاعر الوجود بعوالمه الممكنة طارحا الأسئلة الذاتية والمصيرية.
يعلن الشاعر منذ بداية قصيدته أنه يدخل باب الحب والشهوة، ويبدو الشاعر رومانسيا صوفيا من رأسه حتى أخمص قدميه يفلسف حبه المثالي وعشقه الروحي ويدعو حسناءه الجميلة إلى الانصهار في بوتقة الحب والجمال. ويذكرنا الشاعر بتجارب الشعراء الرومانسيين المهجريين وخاصة جبران خليل جبران وإيليا أبو ماضي وميخائيل نعيمة. وتطغى النزعة الوجدانية على مدخل الحب والشهوة وتتقاطع مع التجربة الروحية العرفانية لتشكل رؤية الشاعر الانجذابية نحو الآخر/ الأنثى:

تعالي نبني عشا في الفضا
ننشر عطرا من ياسمين
في سمانا نرسم الغرام
لوحة تحكي حبنا المتين
كفانا شربا من تباريح
الجوى هلمي فالقلب سجين
سنكتب النيازك أحرفا
حتى لو كان كلامنا أنين
حبنا غيث سامق يروي
جنان أهل المتون السامعين
ويتحول الحب في قصيدة " سيدة المنافي" إلى تجربة وجدانية ذاتية وروحية حيث ينتقل الحب من رمز وجداني مثالي إلى رمز عرفاني ثم إلى رمز مكاني حميمي:
سيدتي
كوني مراياي
ودعيني أصغي
لماء جدولك الحجري
دعيني،
أصغي إلى أجمل آية فيك،
ماعشقت غيرك،
ولا أخفيت عليك،
سرا من الإسرار،
يا سيدتي يا سيدة المنافي.

ويصبح الماء عند الشاعر ميسما طاغيا على غرار مائيات الشاعرين المغربيين: محمد الأشعري وجمال أزراغيد. ويرمز الماء في الديوان إلى الخصوبة والنماء والصفاء والانشراح النفسي،وهو كذلك رمز للحياة والتحدي والصمود والمقاومة وتحرير الإنسان من شرنقة العبودية وتطهيره من الغل والحقد. ويتجسد هذا الماء في النضال البشري والمقاومة العربية للطغاة الصهاينة المتغطرسين الذين يتعطشون إلى إسالة دم الأبرياء من أطفال ونساء وضعفاء. ويتحول محمد الدرة وعرفات والمسيح إلى رموز مائية تحيل على أسطورة الموت والانبعاث التي تحدثت عنها الناقدة ريتا عوض لدى الشعراء التموزيين أمثال: أدونيس وخليل الحاوي وبدر شاكر السياب:

إن الماء مشاكس فارحموه،
يا شهر الماء قلت لي يوما
الماء جيشنا والنار أبراج تعلو الفضاء،
قلت لك الماء ماؤنا ولو استطعت أعدت ترميمك وترتيبك،
فكيف تخزن ماءك في الماء؟
سأعيد ترميمك أيها الماء
كيف لا يحررك كل هذا الهواء؟
كيف لا ومحمد وصمة عار في جبين كل الأوفياء
في وطن بين الماء والماء،
وفي قصيدة " باب الرقراق" يصور الشاعر معاناته المأساوية وإحساسه بالاغتراب الذاتي والمكاني وتجسيد فواجع الإنسان من فقر وضياع وتآكل الوطن بين أنياب الرياح والعويل. أي إن باب أبي رقراق بنهره الغامر هو باب الغربة والحزن والضياع:
لن يرو خرير مائك ظمأ أحزان ضحكاتي،
غربة ابتساماتي
وأحلام فقرائي،
اخترقت مداك في المدى
وهاته غربتي
مهرا
إذا عسعس الليل الشبقي
ضاعت آفاقي
نهر الرقراق يا شفرة شعري
يامرآة قمري، ونجماتي،
على ماءك السلام

وفي قصيدة " باب سلا " يحضر الخطاب الصوفي من خلال التقاء الذات العاشقة بالذات المعشوقة ليتحقق بعد ذلك الوصال من خلال ميل الشاعر ولهانا وحضرة إلى الجمال القدسي والسر الأبدي:

حين ناولتني
تحت المحراب
قيثارة،
معطف مطر،
رسمت على خدي
لون خاتم أحمر،
كانت فوهة جمال
تزحف نحوي،
تباغتني
تلملمني قدر،
تلحن ركض خيل
سمفونيات عشق
تنساب هيفاء حوراء،
جذور حفيف الشجر
حرارة بقداسة السر،
تمتشق بريق حرقتي،
ترشفني كؤوس شاي،
وتجافيني عيونا سفر.

وتتجسد تجليات الرؤية الصوفية من خلال استحضار الجمال الرباني والتجلي الإلهي في قصيدته الرائعة( وصايا مجدلية):

لأشجارك دموعها،
وللجبال شموخها،
الله طرز الدنيا،
شق السماء،
لاح ضياء الفجر والشمس غسقا شفقا
وبنى هيكلا
تأملته المجدلية فلاح بصرها رأس الجسد:
صاحت: تعلم الخروج من الأشياء التي لاتأتيك من دأب
واستلهم الانسياب
قبل موسم العبور من لغتك الجميلة
من غبش الفجر الطاهر وأحلام
العذارى، أوصد باب الامتشاق من
عدم
وافتح صدرك للثريا،
لطيور الشعر حلقت فوق عرائش السرو
تنادي ألق الأمواج،
وتختفي بك موالا خالدا للصبايا/ الوطن

ومن " باب التصوف" إلى" باب تطوان" حيث البحر والأحلام والاشتياق والإخفاق والصمت والموت والخوف. هناك نجد الشاعر يتلذذ بالذكريات والسهرات الماجنة، وتتداخل في ذاكرته تقاطيع الذات وآلام تطوان الحمامة واغتراب الوطن:

باغتتني دهشة تطوان الحمامة
تلعق من نبيذ الآخر، تتألم،
آه يا وطني:
أحبك في البداية والنهاية،
كيف لا تدخل نيمبا
وكيف لا تتعلم ظبى سيرينيا
خبرني كيف لا والوطن
لا يرى ضوء الشمس
سوى في الذكرى المذبوحة
على صلبان الأحلام؟

وفي" باب الرباط" تحضر المدينة باعتبارها فضاء للخطيئة والأحلام الشبقية والحاضر اللاهب المشتعل الذي يتحول إلى سراب وتراب يحف الشاعر ويحضنه. كما يميل الشاعر إلى فتنة المدينة وغواية أطلالها الجميلة؛ ولكنه يلعن فيها زمن الرداءة ووقت الهشاشة:

الأبواب تنسج حلما شبق،
مشرعة تلتصق،
بشاشات شموس تحترق،
لا نجم لاحت لفها الأفق،
في رباطك...في جأشك،
احتفالات كالخطيئة
ترسم لغة حاضر لاهب،
تبني أبواب مستقبل
يأسر خيالات في مدى
ينأى عن الذكرى،
يحمل تلاويني....
ليكتب جمالا طللها لكل
اسم متموج يقارب
النور الذي يزرعني موالا في
مداك يسقطني لغة، بلا كلمات
ينثرني سرابا/ترابا

وفي " باب فلسطين" تتمظهر شاعرية المقاومة والنضال بالكتابة والدم الذي يفضح زيف السلام والمفاوضات اللامتناهية العدد . وينسج محمد الدرة الأمل الفلسطيني والكفاح المستميت ويفتح باب الاستشهاد الأحمر ليرسم صموده المقاوم في وجه الجبروت والاستعباد والسحاب الأسود. ويسخر الشاعر كثيرا بسلام الغمام وترهات المفاوضات التي تعد بالسراب الأخضر وخيبة الأمل:

دم يسيل على دم
دمك مباح أحمد
لري أشجار
تولد من جديد،
شعرنا يكتب بالدم،
دمنا يرسم الخرائط،
في شوارع المدينة،
جسدك صار خندقا
صدرك متراسا
ودمك رشاشا،
دم سال للعالم،
قال: لن أضيع،
سأصب في وديان بلادي
حتى تهدأ الحقيقة.
دم ثار/طار
رش أعداء السلام
خنق رجال الكلام
يادمي؟
ماذا نخسر غير الدم؟

وفي " باب البصرة " ينعى الشاعر العراق ويرثي بغداد التي أصابها الضياع والدمار والخراب ، ونخرها الداء والجوع والانهيار ليثور على العرب الذين لاقلب لهم ولا شعور ولا ضمير يؤججهم أو يحركهم حيال فاجعة العراق وصد الطغيان التتري الغربي الغاشم:

أشتد غيظا
حين أرى أطفال العراق
بلا خبز ولا دواء
ياعرب،
للعين فيكم خجل،
وللقلب فيكم وجع،
وفي بغداد،
أصاب اللذان شملاك ما أصابا،
فليتك تسمو،
وأنت الآن خرابا.

ويرسم الشاعر في" باب تيفلت" صورة الحزن والحلكة الظالمة؛ لأن المدينة لا تلبس سوى حلة الفقر و النسيان و سربال التهميش والضياع والازدراء والعري :

آه لو يسمعني سمعي
لو يندثر الخسوف
يأتي من عقاربه
أملي،
يسحب الحلكة الضاربة
في موجي
من يدري؟
يغمرني الإبحار
ولا أنتهي إلا في بطن
تلك العشماء،
أسبح فيها
عراء متمردا،
لا تكلوني لهم
لا
احسبوني
نسيا منسيا،
إني أترقب
الشغب في خطاياكم
أنا مشهد يرشف سوره
من دمكم المسفوح
على جدائل كرومكم
سحاب أحزانكم.
أمن دبيب الذبح
أتألق تاجا

ويعزف الشاعر أنشودة الأسر و النفي والحضور والغياب في "باب شفشاون" حيث تتحول المدينة بالنسبة للشاعر إلى مدينة اليباب والجفاف والصمت اللاهب والقمم الشامخة الحبلى بالأسرار الدفينة والآلام الحزينة:

دخلت أبوابك،
تلاحظني ذرى القمم
السائرة نحو الغمام،
تسير نحو أبوابها
لتفضح معاني الأشياء،
تصفعني ذكرياتي، أتألم.
وتبدو مدينة الدار البيضاء في" باب البيضاء" فضاء للتناقضات ومهوى الخطيئة ومطرح الرذيلة تحترق لتولد من جديد كمدينة خليل حاوي ومدينة أدونيس التي تحترق لتولد من جديد:
علمتني كيف أحفر
لغة الكلمات المتناسلة
عبر الغوص في حللك،
أنا شفرتك التي لا تنتنهي
أنا موالك الآثم
فاغفري خطيئتي،
اشنقي فناجين الساجدين.....الجالسين
على عري أزمنة حانات المدينة
مساجدها وكنائسها،
من يدري؟
قد تبعثين
أو تولدين من جديد

وينتهي الديوان بطرح قضية السؤال والسعي الجاد نحو اقتناص المعنى ورصده عبر الإدراك الأنطولوجي والاختلاف والبحث أيضا عن اللامعنى الوجودي واللاوجودي. كما يثور الشاعر على الإنسان الذي يصبح لقمة سائغة على طبق المفاوضات والتسويفات المتقادمة.

3- المستوى الفنــــي:

يستند الشاعر محمد بلبال بوغنيم في ديوانه الشعري " رتاج المدائن" إلى الشعر المنثور أو شعر الانكسار كما أسميه؛ لأنه يكسر كل القوالب الفنية والمعايير الشعرية الخليلية المعهودة، ويتمرد عن كل مقومات الشعر العمودي وشعر التفعيلة. إلا أن هذا الشعر مازال يستعير أدوات الشعر التفعيلي من توظيف الأسطر والجمل الشعرية والتدوير والتحرر من صرامة الوزن والتحرر من القافية والوزن. وقد أحسن الشاعر توظيف القصيدة النثرية؛ لأنه استطاع التخلص بمقدرته الفنية الرائعة وموهبته الإيقاعية الفطرية من إسار التقريرية المباشرة والنثرية الجافة عبر استخدام قناة شعرية موحية قائمة على التشخيص والأنسنة والتجسيد من بداية الديوان حتى منتهاه. ولم يسقط الشاعر في النثرية الفجة إلا في حالات قليلة جدا كما في المثال التالي:

كيف
نصاغ أطباقا
كالأكلات
على مائدات المفاوضات؟
نؤكل طعاما شهيا
بالسكاكين والفرشاة؟
نقذف أوراقا، قوانين
كالعظات؟
هل تقبلون أيها المتفاوضون؟

ويعني هذا أن الشاعر يتمكن من لغة المجاز وصورة الانزياح، لذلك حول قصائده الشعرية إلى صور تشخيصية ورموز إحالية ودوال مجازية من الصعب تفكيكها وتأويلها بسبب جنوح الشاعر إلى عالم الإغراب والغموض الفني والإبهام الجمالي. كما ساهمت الرمزية لدى الشاعر في تحقيق الوظيفة الشعرية من خلال انتهاك المحور الاستبدالي وتخريب المحور التركيبي لإثراء الوظيفة الجمالية وتوفير الخاصية الشاعرية .
ومن يتأمل قصائد الديوان فسيجد أنها ركبت في شكل أبواب ومدخلات ومخرجات، وهذه طريقة إبداعية رائعة تذكرنا بالفن التشكيلي التزييني الذي يهتم بزخرفة الأبواب ورصد جماليتها في مداخل المدن. بيد أن هذه الأبواب لا يقف الشاعر عند مظهرها الخارجي الزخرفي ، بل يستقرىء شاعريتها المجازية في علاقتها بالإنسان والذات. أي إن الشاعر يشعرن الأبواب والمدن في أبعادها الفنية والمرجعية بمقوماتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
وتتسم قصائد الديوان بالاتساق والانسجام والوحدة العضوية والموضوعية. وقد أضفى العنوان الخارجي والعناوين الخارجية على الديوان وحدة دلالية تتمثل في وحدة الفضاء المديني وأبوابه التي تتخذ أبعادا رمزية وسيميائية ودلالية. ويفهم من قولنا هذا إن الشاعر يقارب المدن والأفضية المكانية من خلال أبوابها في مظهرها الخارجي الديكوري التزييني ومظهرها الجواني الروحي. وقد وجدنا أن الدخول إلى المرأة وعوالمها الرومانسية قد تم من باب الحب والشهوة. وقد لاحظنا أيضا تعدد الأبواب فهناك: باب التصوف، وباب الحب، وباب الاغتراب، وباب الحزن، وباب المقاومة، وباب اليباب، وباب السراب. وكل مدينة ترتبط بباب معين دلاليا ويفسرها دلاليا ومجازيا بمعطيات ذاتية وموضوعية. كأن الشاعر يماثل بين الباب الشعري وواقعه المرجعي من خلال عمليتي الفهم والتفسير الگولدماني.
وتعويضا للانكسار الإيقاعي الخارجي، يلتجئ الشاعر إلى الإيقاع الداخلي ليثريه بالتوازي والتكرار والترادف والمماثلة الصوتية والموازنة اللفظية والتركيبية. ونجد الشاعر في بعض الأحيان يحرص على القافية الخارجية والروي الموحد والقافية المقيدة بالسكون وخاصة ذات الحركات المترادفة :

كل العيون لا تكفي
لجمع غناء العناكب مع الهواء
في وطن ما بين الماء والماء،
لذة تقرؤني،
ترميني،
للأشياء،
للأشلاء،
صحت في الماء،
في الهواء،
في النار،
في الريح:
في رتاج المسجد إيوان
يحكي صولة الملوك
أوردة بائع الصكوك
وأحلام الفقراء في أروقة شوارعك حزينة،
ياقدري،
يا ليلة الصقيع المحال،
ياهموم عشاق الأطلال،
ياعتمة في سدرة الأعالي
تعالي،
تعالي نشرب الحكي سويا،
نلعن شيطان الظلام،
نسكن حلم المتوكل نعبر النهر
بقارب من ورق البردي
أو قصائد الشعر، نحو ضفة اليمام/ ساحة الحمام والأحلام

من خلال هذا المقطع الشعري، يتبين لنا أن الشاعر يحرص جيدا على "موسقة" قصائده وإثرائها نغميا من خلال استعمال حروف المد والأصوات المتشابهة من حيث المخارج الصوتية كتشغيله الميم واللام...والجناس الصوتي( الحمام واليمام )،والركون إلى الاختلاف الإيقاعي لخلق انسجام صوتي وموسيقي يتجاوب مع جو القصائد وسياقاتها الذاتية والموضوعية.
ويهيمن معجم الطبيعة على الديوان الذي يتقاطع مع معجم المكان والذات لبلورة انصهار فني رمزي يحيل على التجاذب والصراع الجدلي. وتحضر لغة الطبيعة باعتبارها دالا سيميولوجيا يؤشر على ولهان الشاعر بالأبواب وأفضية المدن وأقفالها ومداخلها ومخارجها التي بواسطتها يقرأ الشاعر دلالات المدينة روحا ومظهرا. كما تتسم لغة الشاعر بالانزياح والشاعرية والرمزية والأسطرة والإغراب المجازي والابتعاد عن النثرية والتقريرية المباشرة والانسياق وراء التداعي التشخيصي وأقنعة التضمين والإحالة والتناص. كما ينبني التعبير الشعري على التبئير الدلالي للأبواب وتفريع الوحدة الشعرية الدلالية المركزية إلى وحدات تبويبية فرعية وعناوين مقطيعية تساهم في تشبيك المقصديات وتحبيك العقد الشعرية الغنائية.
ويستعين الشاعر بأساليب الإنشاء والوظيفة الإيحائية كالنفي(( لا يحسد الحجر شجر اللوز)، والنداء الذي يفيد التحسر والتوجع والاستحالة من تحقيق المبتغى الوجودي للذات الشاعرة اليائسة:

ياليلة الصقيع المحال
ياهموم عشاق الأطلال
ياعتمة في سدرة الأعالي.
كما يوظف الشاعر الأمر( تعالي ) للدلالة على التمني والحلم اللاممكن، علاوة على استعماله للاسترسال الأسلوبي و الانسياب الجملي تركيبا ونظما:
تعالي،
تعالي نشرب الحكي سويا،
نلعن شيطان الظلام،
نسكن حلم المتوكل
نعبر النهر
بقارب من ورق البردي
أو قصائد الشعر
ويحضر الاستفهام كثيرا في ديوان الشعر وينسج أسئلة مصيرية ووجودية:
قلت لك الماء ماؤنا ولو استطعت أعدت ترميمك وترتيبك،
فكيف تخزن ماءك في الماء؟
سأعيد ترميمك أيها الماء
كيف لا يحررك كل هذا الهواء؟
كيف لا ومحمد وصمة عار في جبين كل الأوفياء
في وطن بين الماء والماء،

كما يكثر الشاعر من الجمل الفعلية الدالة على الحركية والتوتر الدينامي والحدثية الدرامية والفعل التساؤلي، ولكنه لم ينس توظيف الجمل الاسمية الدالة على الإثبات والتأكيد والتقرير.
وبلاغيا، يرتكز الشاعر على صور المشابهة ( التشبيه والاستعارة) وصور المجاورة( الكناية والمجاز المرسل)، والصورة الرؤيا(الرمز والأسطورة)، والصورة التناصية القائمة على المستنسخات الإحالية. وتمتاز هذه الصور بعدة خاصيات كالمجازية والانزياح والشاعرية والتجريد والخرق الانتهاك والغموض والتشخيص والأنسنة الإحيائية والتضمين الإيحائي والترميز والأسطرة( أسطورة العنقاء الدالة على الموت والانبعاث). كما يساهم الالتفات التداولي في تنويع الضمائر حسب السياقات الظرفية والنصية والمقصديات المبتغاة.
وتحضر الخطابات التناصية كالخطاب الصوفي والخطاب الرومانسي والخطاب التشكيلي والخطاب السياسي والخطاب الأدبي من خلال استدعاء مجموعة من الشعراء كعبد الله راجع ومحمد علي الرباوي وعلال الحجام وعبد القادر وساط وحسن نجمي ومحمد الاشعري...
وسنذكر مثالا واحدا من أمثلة عديدة لا تعد ولا تحصى من صور الرؤيا والتشخيص الرمزي والمجازي التي تضفي على الديوان جمالية رائعة قوامها الغرابة والانزياح:

أيها العدم،
في يومك الحامي،
خلف باب القناديل المضيئة
أشعلت دهشتي كأوجاع الظنون،
كسرت فانوسي كبروق الذكرى،
ترى ماذا عزفت لي كمانك الظمأى...ماذا؟
غير بقايا حريق غير بروق وامضة....ماذا؟
غير بقايا حريق غير بروق وامضة...ماذا؟
ها رجعت أسراب السحاب تلملم دهشتي
وتنحت شكل فراشات
فتكبو فرسي وتمشي ...تمشي...
تمشي في السراب موالا لا يحميني
ولا يحتمل روحي نخلة أو راية بشارة
تمور ولا تدور

خلاصـــــة تركيبيـــة:
نستشف من خلال قراءتنا المتواضعة، أن الشاعر المتوهج والمتميز محمد البلبال بوغنيم من رواد القصيدة النثرية في الشعر المغربي المعاصر بناء وصياغة وتشكيلا. وقد أحسن حياكة إيقاعها ونسج ألفاظها وإبداع صورها الشعرية. وهو كذلك أول من عبر عن أبواب المدن في الشعر العربي بطريقة شاعرية يتقاطع فيها ماهو ذاتي وموضوعي ، كما يتداخل فيها ماهو تشكيلي وماهو دلالي سيميائي. هذا، وقد تناول الشاعر فضاء المدينة من خلال أبعادها الموضوعاتية ومرجعياتها الخارجية منتقلا من الهموم الذاتية والوطنية ليسبح في عوالم قومية وإنسانية مشيدا بالحب والحرية والعدالة وحقوق الإنسان والسلام الحقيقي متأرجحا بين أنشودتي الاغتراب والنفي وأنشودة الأحلام والأمل المعسول.
وقد نجح الشاعر أيما نجاح عندما أخرج تجربته النثرية الانكسارية من طابع التقريرية المباشرة إلى عالم فني جمالي رائع من عناصره التشخيص والإيحاء والشاعرية الموحية والتجريد الرمزي والتشكيل الفني الذي يجمع بين المعطى المادي والمعطى الروحي الجواني..