جذور الهوية الفلسطينية

جذور الهوية الفلسطينية

لكاتب : رافع يحيى الكتاب : بيت من ورق عرض : السيد نجم

"بيت من ورق" رواية قصيرة للروائي "رافع يحيى". ولد عام 1966م, عاش في قريته "اكسل" وكتب القصة القصيرة والرواية وقصص الطفل, ينتمي إلى اتحاد الكتاب في إسرائيل. وهو ما يعطى لتلك الرواية نكهة خاصة, وربما مثيرة إلى حد التساؤل حول الكثير من المحاور..ربما في مجملها, أين "فلسطين" في كتابات "عرب إسرائيل"؟؟

نشرت الرواية عام 1996م, أي قبل الانتفاضة الأولى في فلسطين المحتلة, وهى بذلك تعبر عن وجهة نظر: عربي, اسرائيلى الجنسية, لم يشهد عام النكبة, ربما تفتحت عيناه مع أحداث معارك عام 1973م, يعيش حتى تاريخه تجربته الخاصة/العامة والتي قد تعبر عن 20% من سكان إسرائيل اليوم, أو حتى تعبر عن ذاته..لا يهم, لن نصدر أحكاما, يكفينا العمل ودلالاته.

تبدأ الرواية بالتساؤل الساخر: هل الحياة كاريكاتيرا واحدا كبيرا؟ يقولها "عيسى" بائع البطاطا والمناضل القديم في معسكرات اللاجئيين على الأرض اللبنانية.

ليبدأ العمل.."اليوم الجمعة.يجب أن أذهب إلى العيادة لإجراء فحص طبي.الذهاب إلى العيادة يغضبني.." ص7 . "لقد قطعت على نفسي أن أكون وردة "جورية" متفتحة دوما..تعجبني عبقرية الورود".." الحر شديد في الغرفة (الضيقة التي يعيش فيها مع زوجته آيات وأولاده الشاب براق والطفلة نيروز), أريد بيتا من ثلاث غرف وصالون نستقبل فيه الضيوف ومطبخ ومرحاض" ص9. "ماذا سأفعل؟ هل بيع البطاطا سيغير وضعنا؟" ص9. الحل المتاح أو الممكن "سأذهب إلى البحر..سأختار طريقا خاليا من ناطحات السحاب والفيلات. ما الذي يميز البيت عن القبر أو السجن؟؟ لا شيء.. نفس مواد البناء والصانع هو الإنسان." ص10.يبدو حلا رومانسيا أو حتى هروبيا, حل يعبر عن قلة الحيلة والحيرة. "قال جدي ذات مرة, البحار الحقيقي هو الذي يفضل الموت وهو يصارع "القرش" أو أي عارض مفاجىء في البحر, على أن يراه الناس عائدا إلى الشاطىء يرتجف من الخوف فوق قاربه" ص10.

ليعلق عيسى "كنت أجلس أمامك كما يجلس الباحث أمام عبقرية الحضارة". وهى رؤية تاريخية تبحث عن الجذور. يتابع عيسى شكواه من ابنه براق أو (الحفيد الذي يبدو طموحا, وكل طموحه أن يركب سيارة فولفو) ص11. لنتوقف أمام تعليق "عيسى الهام: "يتصرف –يعنى الابن- وكأنه مقطوع من شجرة الأجداد", مع ملاحظة أن الابن بلغ العشرين, "انه لا يختلف في سلوكه عن أبناء جيله" ص12. إننا إذن أمام جيل مختلف في رؤيته وطموحاته, وهو ما يعد رصدا وتسجيلا هاما, خصوصا لو أدخلنا الرواية ضمن دراسات سوسيولوجي الأدب وكما تابع "عيسى" رأيه في ابنه, تابع مع طفلته "نيروز": "صرت أخاف على كل بنات البلد, إنهن يركضن نحو (الزيف), كما يركض جناح الفراش إلى لهيب النار..ألا يدرى كل هذه الأجيال أن كل ما يأتي به الغرب مثل القبر, من الخارج رخام ومن الداخل سخام"ص12.

أما وقد قرر "عيسى" الذهاب إلى السوق حيث يبيع البطاطا, لتنحو الرواية منحى آخر, يكشف عن جوانب لم نكن نعرفها. يبدأ بحواره مع زميلة الشقاء "أم وديع", المرأة التي أوجزت الفترة السابقة في جملة:"الدنيا أخذت منك شبابك, وأخذت منى "وديع" ص13. فلما بحث عن السبب وجده "الاستعمار". أرجعه إلى مصطلح يبدو الآن غامضا وان كشف عن قدر التورية التي قد يعنيها "عيسى".."السبب هو الاستعمار.. طالع نازل فينا مثل المنشار, الله يخرب بيته.. هو الذي يسرق خيراتنا بجشع, انه يركبنا" ص14. لكن ترى ما هي مأساة "عيسى"؟ عادت أم وديع واوجزتها بقولها: "أنت الذي علم الناس كيف يقفوا كالمتاريس في وجه الظلم. حرمت من شبابك, وفى الآخر رموك في الشارع تبيع نطاطا" ص15.. "نسيوك.. نسيوك ياعينى" ص16.

وفى منحى آخر من الرواية, يتذكر "عيسى" أن اليوم هو عيد ميلاد زوجته المخلصة الصابرة, التي تعمل في مصنع الخياطة. إنها تحب الورد, لكن "ثمن الورد مقابل الخبز" ص21. لكنه قرر "فضلت الورد على الخبز" ص21. حمل الورد في يده, وحمل القلق في صدره, أمام المخبز كانت السيارة تمتلىء بالخبر, وهو في حاجة إلى ثلاثة أرغفة..لزوجته ولابنه وابنته, لكنه لم يسرق من قبل.."يا عيسى أنت أكلت فئران في أيام الحصار, لكنك لم تمد يدك ل..."ص23.. "أستحرق شرف خمسين عاما قضيتها في الكفاح "ص23. أخيرا سرق الخبز, ثلاثة أرغفة فقط, ليس له, بل لزوجته وأولاده.."يكفيني ثلاثة أرغفة..أنا سأظل جائعا ..لا أصدق نفسي. لقد تناولت ثلاثة أرغفة" ص24.

في المقابل كانت زوجته تمارس البطولة والمقاومة الحياتية اليومية, عندما قالت لزوجها عيسى: "أنا لست حزينة لكنى أتمنى أن أشق لحم الليل بحراب أحلامي حتى أرى ما أريد", فسألها عيسى: "وماذا تريدين؟" قالت: "أريد الشمس والخبز والحرية" ص26

وطال الحوار بينهما, في موضع لاحق قالت لزوجها عيسى: "لا تستهن بنفسك.. أنت صخرة أصلب من كل الصخور " .. "عندما يكون البيت خاويا من الخبز تفتح أبوابه أمام كل ما هو متمرد على النواميس البشرية" ص27 ومع ذلك شعر الزوج أنه لم يجلب السعادة بالأرغفة التي سرقها.."أدركت أن فكرتي لم تجلب السعادة لآيات..فتناولت قلما من علبة ألوان "نيروز" وكتبت على الزجاجة (الورد باق في بيتنا)..فضحكت الزوجة. ص29..هكذا تبدو الأحلام في حياة جديدة, سعيدة وكريمة, نجدها في كلمات تكتب.

أما وقد استيقظت الطفلة في الصباح, توقظ الأب كي يرسم لها جملا, وهى لا تعرفه, بل سمعت عنه!..لأنه يشبه أباها في صبره, يفضل الأب أن يطلب منها طلبا آخر: "ارسمي بيتا كبيرا وحوله أزهار وأمامه ساحة كبيرة ووراءه برج حمام, وبركة صغيرة يسبح فيها البط." ص30.. ولعل تلك الوقفة السريعة بين الأب المكافح القديم والابنة توجز ويفسر عنوان الرواية "بيت على الورق". ثانية تبدو الحياة مجموعة كلمات أو حتى رسامات, لا أكثر.

في منحى آخر انتقل الروائي إلى جانب خفي لم يكشف عنه من قبل, وان وظفه لتفسير وشرح ما أوجزه سلفا. لقد قابل الصديق القديم "إبراهيم", أوضح له معاناته وشظف العيش الذي يعيشه.. إلا أن إبراهيم استقبله بخبر طريف دال, أن الجميع يؤكدون نبأ موت "عيسى"!! تلك الشائعة التي أطلقها "نديم" رفيق الكفاح والخندق يوما ما!!.."أنا ونديم حاربنا في خندق واحد" ص33. اللافت للانتباه أن صاحب الإشاعة هو رفيق الحصار والكفاح, ولا يخو الموقف من الدلالة الواضحة, تأكيدا للإحساس بالغياب وقلة الحيلة. بدت القضية صعبة, أن يثبت أنه مازال حيا, أمرا شاقا وربما مستحيلا, حتى أنه قال: "لإثبات أنني حي مسألة صعبة تحتاج إلى كامب ديفيد أو أوسلو ".. لكن إبراهيم هون عليه واقترح أن يظل عيسى يصيح بطاطا.. بطاطا..فعلق عيسى:"يعنى أكون أو لا أكون مسألة مرتبطة بالبطاطا؟" ص34 عندما ذكرت تلك الكلمات "كامب ديفيد وأسلو" علق إبراهيم ساخرا: "الناس نسيت هذه الكلمة ولا تعرف معناها" ص35 عاد وأوجز تجربة صديقه "عيسى": " يا خسارة يا عيسى..كل أحلامك طارت بالهواء كالفقاعات" ص35

هل نتساءل حول دلالات بعيدة تربط بين واقعة إشاعة موت عيسى, وحقيقة عجز اتفاقيات "كامب ديفيد وأسلو" في حل المشكلة الفلسطينية..ربما. وقد عرض الروائي لجملة علاقاته مع أصدقائه القدامى والجدد. "نادر" الشاب الذكي والحاصل على المؤهل العالي ناقم على الأوضاع من حوله.. "إن هذه حبر على ورق ولا يناسبها اسم صحيفة" ص37. ولا يجد عملا, فيقول: "لقد صرت أؤمن أنه في الليل كل البقرات سوداء"ص39. وقرر العمل في البحر صيادا. هاهو ذا "عبدا لكريم البيروني" الشاب الأسطورة, الذي يبدو ناعم الملامح, ولا يشي بما فعله فيما بعد, حيث تحولت جثته إلى أشلاء وطعاما شهيا لقطعان النمل. بدوره حصل على المؤهل ولم يجد عملا, فتطوع جنديا في الجيش.

لم يكن "براق" الابن الصامت الغامض سوى نموذج آخر لضياع الأجيال الجديدة..فهو كتوم لا أحد يعرف عما يفكر, ويبدو كأنه يعيش في الخفاء..كل ما حرص عليه الأب (عيسى) أن قال له محذرا: "فقط لا تقم بعمل يجعلني أشعر بالعار لأني أبوك!" ص46. وجاء الرد أو السلوك الذي يخشاه الأب في ص78 حيث "قطعت الصدمة لساننا". ترى ما هي الصدمة ولماذا؟؟

بدأت الصدمة عندما زار "عيسى" صديقه المقاول "أبوعلي", طلب المقاول أن يتعلم عيسى حرفة النقاشة, وأن يعمل معه, فالعمل الجديد أكثر ربحية.."صاحب صنعة مالك قلعة"ص53. وبدأت علاقة جديدة بينهما. بدأ العمل في أحدى الفيلات, "كانت بانتظاره فتاة في العشرين من عمرها, جميلة, تخيلو لو كان هذا البيت لي" ص57 إنها مهاجرة, شابة, وجودها له مفعول غامض في حضور "عيسى", "لن تعينني الأبجدية على وصف الواخزات التي يوجهها إلى موقعها"ص60 أما وقد تحدثت الجميلة عن البحر ورغبة "أبوعلي" للجلوس إليه, خشي أن يتحدث أبوعلي عن الخنادق.ابتسمت وقالت (بالعبرية) المكسرة: "أنت تعمل دائما مع أبوعلي, أبوعلي هذا يحب البحر..مجنون.. دائما يجلس أمام الموج".ص63 فيما بعد أحضر عيسى زوجته كي ترى الشقة التي يعمل في طلائها, فعاش مع آيات لحظات من وراء ستائر الدنيا".

ما حدث أذهل الجميع..عيسى والقارىء معا..! توالى غياب الولد "براق", فلما سألوه, قال: "لا تقلقوا سأعود متأخرا الليلة سأمضيها عند صديقي" ص70 لكن, "صوفيا تريد الزواج من عربي (أي المهاجرة الشابة ترغب فيه)ص71. فقال عيسى: "هناك من أخبرها بأن العرب قد يقتلونها إذا علموا بأنها ستخطف ابنهم!!!

هل لنا أن نتساءل عن جذور الهوية الفلسطينية؟ نعم, كشفها وفعلها الروائي من خلال.. تاريخ حياة "عيسى" النضالي, وعلى الرغم من كل الصعوبات مازال يناضل من أجل حياة أفضل. تاريخ "الجد"..رؤيته وأفكاره, بل وكينونته التاريخية, في مقابل الحفيد "براق" الطموح الذي يبدو وكأنه بلا جذور..فشعر الأب أن ابنه تائه, بل وعبر عن خوفه من ضياع مستقبل الطفلة "نيروز".

لعل الزوجة "آيات"..في تحملها وصبرها, سواء بالعمل في مصنع الخياطة, وفى رعايتها لبيتها, يعد تأكيدا لصمودها. تتعدد الوقائع والأحداث داخل العمل لإبراز هذا الدور المقاومى, المتمسك بكل القيم الأساسية, التي هي من جذور الأجداد على الأرض الفلسطينية. أما الأصدقاء "نادر", و"عبدا لكريم",فلكل منهم حكاية تعبر عن الصمود العملي حتى الموت لتأكيد معنى التمسك بالقيم العليا. وان بدا "إبراهيم" أو"ابوعلى" على الصورة المناقضة إلى حد ما..فلإبراز الفكرة الأصيلة, ولأن الرواية لا تغفل الواقع والوقائع. ثم الأطفال الأبناء.."نيروز" ترى في والدها صبرا وصمودا كما في "الجمل" الذي لا تعرفه تماما.. و"براق" وهو ذروة التمرد على مفاهيم الأب, يبدو غامضا..شاردا..ولعله غير سعيد بتعرفه على المهاجرة الشابة التي ترغب في الزواج من عربي.

تعد الرواية على قصرها..دالة, بل وهامة لكل من يهمه رصد وجهات النظر والأفكار العامة والخاصة في الأدب الفلسطيني المقاوم.. خصوصا في جنس الرواية.