حتى يهدأ الغبار

(1)
سوف أدرك أنني انتظرت اكثر من اللازم و أنني اسير في الاتجاه المعاكس للتيار الجارف الذي يولد أحيانا تحت شرفة البائسين المتسكعين والباحثين عن موجة يتيمة ذات نزوات غير معادية للبحر.
وكنت أحمل فوق رأسي أكاليل بنقوش الحناء ظلت تعشعش بين أحضانها عصافير الليل الهاربة من الخفافيش المتوحشة
و استطيع أن اقول أن أزهار الدفلى لم تعد تورق ريحانا غير مرغوب به
ولكن في نهاية المطاف أجد نفسي أتوغل في أزقة مجهولة تبعثرت جدرانها عبر الاثير.
وتحت سقف من غبار
كنت أرقد في سرير مليئ باشياء عابرة واقول شعرا مائيا لا بحر له الا قافية مشاكسة لم تكتمل اعمدتها
ثم ايقظني كابوس الليل فنمت واقفا أترقب الفجر ليحملني الى سجنه عبر أبواب غير موصدة و أقود حلمي الى دوامة الغياب ثم ادخل في تاريخ المنسيين مع زرافات الليل لتؤنس وحشتي المراوغة
 

(2)
طائر اللقلق يبني أعشاشه فوق أعمدة الكهرباء اما نحن فنبني اعشاشنا تحت عريشة كانت تسكنها العناكب في عصر الديناصورات الغابرة
ماستنا ملحمة مكتوبة على ورق أصفر متأكل
صرنا مثل مراة تمنعنا من رؤية فيها ما تبقى من وشم وجوهنا
ومن حسن حظنا اننا لم نكسر هذه المراة
الذباب في قريتنا ينبت كالاعشاب البرية و يحتفل بوليمة الاعراس تحت الشمس الحامية
الى اين يأخدنا الذباب؟
ماذا لو نزلنا الى النفق وشربنا من نفس الكأس ولو كانت مرة علقما؟


(3)
من فوق حائط الريح
أراقب أفول الخريف وهو يراقص الغروب ويختفي من المدى
عبثا أحاول أن افتش في خضم المتاهات عن فسحة لم يطأها عربيد ولا متطفل
عبثا احاول أن أحمل بين جوانحي سر الظما و فراغ الاوقات الساخطة
وثمة زحام يلف السيل البشري
وحدي أغرس في وهج الظهيرة أشياء و اخبئها في كاس المرارة كلما اختلط علي الامر
قبل ان ينكسر كوم الرمال في صحراء
اذكر اني كنت أركب ظهر المطر
وكنت أتجنب أعمدة الانارة المغروسة في الحارات الضيقة
حينما كان الغبار كثيفا
مثل سياج حول الفضاء
كان شيخ حينا يجلس باسترخاء في جوف النهار
وينش الذباب
لعبة كان يمارسهابمهارة و باتقان
الذباب يحلق فوق الغيوم
ويسرح بين شرفات العدم
فمن سيدله عن شوارع العتمة
عندما يسند ظهره الى الظل
الذباب جزء لا يتجزا من حياتنا اليومية
غير ان البعض يشك في وطنيته


(4)
ارسم على الحائط طعاما تنفر منه الغربان
و أهبط نحو المدينة
الان وقد ذقت شهوة التيه
فسأترك لكم فوق الشاطئ الاخر كل اقنعتي الحدباء
التي صارت لا تلائم ملامح وجهي الصغير
وسوف أنزل نحو البحر لأتحداه
ولكي ألم غبار الذكريات التي بعثرتها أيام الصبا
لم أعد بانتظار طريق العودة
فطريق العودة يسلكها المنهزمون
 

(5)
أعلن أنني قد بلغت الشط الموعود
وانني مازلت تائها في فضاءات مجهولة الهوية
اسير في ظل المنبوذين
وليس في يدي ما اراوغ به البحر
سوى خرائط مشتعلة لا حدود لها
ما زلت أذكر الامواج الهرمة وهي تصارع الرياح القوية
وكنت كلما اجتهدت ان أعبر ذلك البحر
وأنا واقف على جسر طويل متمايل
يعتريني شعور بأنني ساغزوه بشراسة
وماذا يجدي لو اتيت من العدم
فقد يبدو لمن يراني كما لو كنت اتأبط نجمة مطفية في ظلامات الكون
اعرف كيف تحط العصافير المذعورة فوق المنافي النائية
أحوم في فراغ المسافات الغائمة
واهوي الى قاع لا وجه له
ثم أرسم ظلي على عتبات توشك ان تبوح بسر الابراج العاقة ببحبوحة الزمن
سيكون الخروج من النفق اصعب بكثير
وربما سيفضي بي نحو اللاشئ
 

(6)
بائع تبغ متجول يدخن ما تبقى له من سيجارات بائرة يقرأ سوء بخته في بقايا رماد لفافة
وبائع نعناع يشرب شايا بنكهة الشيبة
وماسح احذية ينتعل سندالا بلاستيكيا
ومتسول يتبرع بنقوده على اطفال الحي
وعاطل عن العمل يرسم لوحات زيتية على قارعة الطريق
اني لأعجب كيف لا يمكن لزمار الحي أن لا يطرب أهله
أما أنت أيها المهاجر فوحدك تبحث عن طرقات جديدة
لتحملك الى الضفة الاخرى
وعند مغيب الشمس ترسم تضاريس الهروب فوق الماء
الطفل المهاجر يدخل الى اسبانيا عبر باب الميناء الخلفي
على ظهر قارب صغير بلا مجدافين يقاوم دوار البحر
يحلم بشراء بيتا و سيارة
قارب منكوب في مقبرة البحر
 

(7)
كي لا نغضب امريكا و اسرائيل
لكي لا نزعج الضمير العالمي المهوس بالارهاب
لكي لا نمنع البلدوزر وهو يهدم بيتا فلسطينيا
هل نحن مع ثورة العبيد ام هوان العبيد؟
هكذا يدرس العهد الجديد
ماذا نفعل اذا ولدنا من جديد؟
وانجبت كل امرأة حنظلة وقدمته قربانا للمقاومة
وصرنا نرى في عتمة اللحظات أشياء هجينة لا تفيد سوى السراب
كيف نحمل صخرة سيزيف الى الجماهير الغاضبة
وكيف نطيق البقاء في هذا العالم الصغير
كلما حاولنا أن ندعي أننا وراء الانسان المضطهد
نجد صعوبة في الهبوط الى سرداب الحقيقة
ماالذي يفعل هؤلاء الجبناء
وهم لا يرون ولا يسمعون؟
ويخوضون مع الخائضين في مسارح العرائس
 

(8)
ثمة ثنيات على حضيض هذا الارض
يشب فيها الحريق
ويذرو رمادا
على رفاتها في الليلة الظلماء
ريثما يستيقظ جلجامش
ويلج بحر الموت
وعشتار تركب قوس قزح
تعصر الشمس الغيوم
فيختلط الرذاذ بالسراب


(9)
صعب المراس هذا الزمن
ذئاب ليلى تشاطر تماسيح الليل
وسرب من الجراد
لا شئ غير يرقات الجراد
من أحزان الريح
تخرج القصيدة المقتولة
طلاسم سحرية مستعصية
تسكن في وشم الخرائط
في البدء كان الظل يسير خلف جنازتنا
تحت خيوط الفجر
الشعراء يقفون في طابور الفناء
والشباك المطل على أرخبيلهم
يفضي الى العدم
هل حقا يفقد الليل سواده
عندما تتساقط أوراق الخريف؟
غيمة الافق تعبر جسد الظهيرة
وتعبث بضفائرها
في خرائب الحارة
كنت أمشي مثقلا بفيض العبث
سأنفض اخر الغبار عن الافق النائي
ماذا بقي غيرحطام قصيدة حلم للنسيان
وصرت مثل ذلك الشاعر الذي لم يعد
يرتب مسودة قصائده المشاغبة
فستظل حرائقها ثمالات في الاحلاق باردة
 

(10)
لا أملك أوراق أقامة
فقدت أوراقي الثبوتية
دفنتها في خريطة منسية
في جزيرة مهجورة
وحدي احلق خارج السرب
اذن من أنا؟
وشم على صفحة الماء
نقش على سحوب سوداء
أم شريحة من شرائح الغبار
اللقالق وحدها تبني أعشاشها فوق الجدران المائل
 

(11)
رجل كث الشارب
هل كان يجب أن يدفن احزانه منفردا؟
الان و قد أصبح يعتلي صهوة المكان
ثم ماذا عن هويته
اذا راق له الحال مرة أخرى
أن يغمس شاربه في حمم البركان
 

(12)
هذا الوطن الذي ظهر فجأة في حلمنا
لا يزال يذبح على منصات الانكسرات
هذا الوطن...هذا الراهب المصلوب على أقواس الغيوم
انها هزيمتنا الكبرى في شرايين التاريخ
لم نزل نغط في نومنا كقط كسول
ومن زمن الى زمن يوقظنا عويل الجرح الدامي
نحتظر كالصمت الممزوج بحشرجة الرعب
نعلق على أكتافنا المنحنية نياشين وهمية
ونهيم في العراء
عراء الماضي
 

(13)
مضيت الى حيث العطش
مثل شاعرصودرت قصائده
قبل ان يعتلي المنصة
لم تعد مدائحه تشفي العليل ولا الغصة
وهل يتساوى المدح والقدح
في عصر الاقنعة الفولاذية؟
 

(14)
في البلد المكتئب
يلبس البحر اللون الاحمر
ويتنكر باللون الكاكي

في البلد المكتئب
يستطلع القمر
الاشياء النرجسية
المفروشة على نهري الدماء

في البلد المكتئب
يسير التاريخ
بسرعة السلحفاة
يستيقظ طائر الفنيق
وينفض عنه لهيب الرماد

في البلد المكتئب
يزحف الظلام
نحو المدينة
ويكشف وجهه
قليل من العتمة
قليل من رائحة الموت

في البلد المكتئب
تعود طائرالوقواق
ان يحط على
الساعة الرملية
ليختلس
بعض من الوقت البطئ

في البلد المكتئب
يعيش الناس
كأنهم غرباء
يفتشون في الماء الراكد
عن فقاعات النسيان
ثم يدخلون في حضيض المتاهات


(15)
الازميل والريشة وقلم رصاص وفينوس الغرب وشهرزاد الشرق
عازف البيانو يختبأ في الكعب العالي ويفسخ ربطة عنقه
أكتب أغنياتي على جلد الماعز لكي تذكرنيباشرعة السفن المنهارة
رذاذ الفجر عاد في وضح النهار
نباح كلب ضال يربض في جذع شجرة الصبار
الوان الحرباء لم تكتمل بعد
كأنها أعشاب يابسة يلوكها الوشم الانثوي
لفافة من التبغ الاسود تختنق بين شفاه عابسة، يتصاعد دخانها الزعفراني اللون الى السماء ثم يتناثر علىأصابع ملت الانتظار
معاركنا مع رهان الواقع
خسرناها كلها
في قعر الهاوية المفروشة بوحل راكد ، برماد ، بشامات حزينة
 

(16)
أحلم انني أصبحت أمة ضعيفة تستنجذ بأولياء أمرها و انني تحولت الى نبات الخشخاش الذي ينبت في عيون الاشباح ، ذلك الافيون الافغانستاني كأنه وحش كاسر يزحف فوق مداخن الهذيان
كان طائرالسنونو يحلق خلف الموج الهائج عندما انكسر المركب على صخرة الوحش البحري
 

(17)
تايجيرو اماساوا يكتب قصيدة الهايكو و قصيدة التانكا بايقاعات يبانية
مسارات في جحيم دانتي اورقت اشارات ضوئية لا لون لها
الشاعر الصيني يكتب قصائده العمودية بقلم البامبو
الماء السائب يقتات من رذاذ الصيف
ولم تبق غير شجيرات بين حقول الحنطة
هنالك أيضا سيتمخض المدى في وادي الالهامات
 

(18)
لوحات فريدا كاهلو
جيتارة مكسورة الاوتار
دمية مبتورة الساقين
ترسم الملابس المكسيكية
بالالوان المائية
تمشط شعرها
شلال من الالم
وجوه في صورذاتية
طلاسم غيبتها الحواجب الكثيفة
صوت مختنق في زقاق مظلم

لوحات فريدا كاهلو
بخور و نجوم
ووشم على سماء غجرية
وأجنحة مطلية بوحل أحمر
 

(19)
الحرب أنجبت الشعراء
وحانات لندن أنجبت شعر سعدي يوسف
هو الشعر ..لن يفقأ عيون سيده
وهو الشعر الذي يجرنا بيده
نحو سور المدينة البعيدة
هو الشعر الذي أبحرنا جميعا من أجله
ضفتان وبحيرة واحدة
هو الشعر الذي يطاردنا
من منفى الى منفى
ويقذف بنا
الى هوة عميقة
نصنع فيها قصيدة مؤقة
وندخل معها في غياب طويل

كان الشعر يتلاشى في فراغ اللحظة المائجة التي طواها النسيان
حاملا بين يديه تجاويف محفورة في براري الذاكرة
هو الشعر.. يحتشد في أنخاب المؤامرة
يتراقص في مخيلة الشياطين
هو القصيدة التي نقرأها ما بين السطور الخفية في دفتر الاخرين
أشك في شاعرية طائر الفنيق الذي نفض جناحيه في بسمة الموناليزا العجيبة
فهولة البحورلا يطيقها الا الملاح الماهر
 

(20)
تتوسد الاتربة زهرة الصبار
ويدغدغ خواتمها الرذاذ
دون أن تتحول الى غيمة
التي تدبرها الرياح المراوغة
لم يكن قعر الهاوية سوى موجة عاتية
والبحر يصير جبلا
هكذا يمشي الماء حافيا تحت السماء
ويحلم أن يكون صقيعا
لصد موجات المد العاتية
 

(21)
وما هو الاايقونة من طين
ما كان يكفيه الهذيان
ليشرب حتى الثمالة
يجر أذياله خلف جحافل الليل
ويسير الى قعر اليم
فلا تدركه زرقة البحر
لم يبق منه سوى شظايا
وتمائم عصية على الفهم
لم يعد يطق شمس الظهيرة
فيدلف من وراء الضباب...