قصائد الحزن والمرأة وجسدها الموسوعي

شعر نزار قباني


قصيدة الحزن 

علمني حبك ..أن أحزن 
و أنا محتاج منذ عصور 
لامرأة تجعلني أحزن 
لامرأة أبكي فوق ذراعيها مثل العصفور 
لامرأة.. تجمع أجزائي 
كشظايا البلور المكسور 
*** 
علمني حبك سيدتي أسوء عادات 
علمني أخرج من بيتي 
في الليلة ألاف المرات.. 
و أجرب طب العطارين.. 
و أطرق باب العرافات.. 
علمني ..أخرج منبيتي.. 
لأمشط أرصفة الطرقات 
و أطارد وجهك.. 
في الأمطار.. 
و في أضواء السيارات.. 
و أطارد ثوبك.. 
في أثواب المجهولات 
و أطارد طيفك.. 
حتى..حتى.. 
في أوراق الإعلانات.. 
علمني حبك كيف أهيم على وجهي..ساعات 
بحثا عن شعر غجري 
تحسده كل الغجريات 
بحثا عن وجه ٍ..عن صوتٍ.. 
هو كل الأوجه و الأصواتْ 
*** 
أدخلني حبكِ.. سيدتي 
مدن الأحزانْ.. 
و أنا من قبلكِ لم أدخلْ 
مدنَ الأحزان.. 
لم أعرف أبداً.. 
أن الدمع هو الإنسان 
أن الإنسان بلا حزنٍ 
ذكرى إنسانْ.. 
*** 
علمني حبكِ.. 
أن أتصرف كالصبيانْ 
أن أرسم وجهك بالطبشور على الحيطانْ.. 
و على أشرعة الصيادينَ 
على الأجراس, على الصلبانْ 
علمني حبكِ..كيف الحبُّ 
يغير خارطة الأزمانْ.. 
علمني أني حين أحبُّ.. 
تكف الأرض عن الدورانْ 
علمني حبك أشياءً.. 
ما كانت أبداً في الحسبانْ 
فقرأت أقاصيصَ الأطفالِ.. 
دخلت قصور ملوك الجانْ 
و حلمت بأن تزوجني 
بنتُ السلطان.. 
بلك العيناها .. 
أصفى من ماء الخلجانْ 
تلك الشفتاها.. 
أشهى من زهر الرمانْ 
و حلمت بأني أخطفها مثل الفرسانْ.. 
و حلمت بأني أهديها أطواق اللؤلؤ و المرجانْ.. 
علمني حبك يا سيدتي, ما الهذيانْ 
علمني كيف يمر العمر.. 
و لا تأتي بنت السلطانْ.. 
*** 
علمني حبكِ.. 
كيف أحبك في كل الأشياءْ 
في الشجر العاري, في الأوراق اليابسة الصفراءْ 
في الجو الماطر.. في الأنواءْ.. 
في أصغر مقهى.. نشرب فيهِ.. 
مساءً..قهوتنا السوداءْ.. 
علمني حبك أن آوي.. 
لفنادقَ ليس لها أسماءْ 
و كنائس ليس لها أسماءْ 
و مقاهٍ ليس لها أسماءْ 
علمني حبكِ..كيف الليلُ 
يضخم أحزان الغرباءْ.. 
علمني..كيف أرى بيروتْ 
إمرأة..طاغية الإغراءْ.. 
إمراةً..تلبس كل كل مساءْ 
أجمل ما تملك من أزياءْ 
و ترش العطرعلى نهديها 
للبحارةِ..و الأمراء.. 
علمني حبك أن أبكي من غير بكاءْ 
علمني كيف ينام الحزن 
كغلام مقطوع القدمينْ.. 
في طرق (الروشة) و (الحمراء).. 
علمني حبك أن أحزنْ.. 
و أمنا محتاج منذ عصور 
لامرأة تجعلني أحزنْ.. 
لامرأة تجمع أجزائي.. 
كشظايا البلور المكسور.. 

أول الصفحة

المرأة و جسدها الموسوعي 

ليسَ صحيحاً أن جسَدَكِ.. 
لا علاقة له بالشعر.. 
أو بالنثر, أو بالمسرح, أو بالفنون التشكيلية.. 
أو بالتأليف السمفوني.. 
فالذين يطلقون هذه الإشاعة, هم ذكور القبيلة.. 
الذين احتكروا كتابة التاريخ.. 
و كتابة أسمائهم في لوائح المبشرين بدخول الجنة.. 
و مارسوا الإقطاع الزراعي, و السياسي, و الاقتصادي, 
و الثقافي و النسائي.. 
و حددوا مساحة غرف نومهم.. 
و مقاييس فراشهم.. 
و توقيت شهواتهم.. 
و علقوا فوق رؤوسهم 
آخر صورة زيتية للمأسوف على فحولته.. 
أبي زيد الهلالي!!.. 

ليس صحيحاً.. 
أن جسد المرأة لا يؤسس شيئاً. 
و لا ينتج شيئاً..ولا يبدع شيئاً.. 
فالوردة هي أنثى ..و السنبلة هي أنثى.. 
و الفراشة و الأغنية و النحلة. 
و القصيدة هي أنثى. 
أما الرجل فهو الذي اخترع الحروب و الأسلحة. 
و اخترع مهنة الخيانة.. 
و زواج المتعة.. 
و حزام العفة.. 
و هو الذي اخترع ورقة الطلاق.. 

ليس صحيحاً أن جسدك ساذج.. و نصف أمي.. 
و لا يعرف شمال الرجولة.. من جنوبها.. 
و لا يفرق بين رائحة الرجل في شهر تموز.. 
و رائحة البهارات الهندية.. 

ليس صحيحاً أن جسدك قليل التجربة.. 
و قليل الثقافة.. 
و أن العصافير تأكل عشاءك.. 
فجسدك ذكي جداً.. 
و متطلب جداً.. 
و مبرمج لقراءة المجهول.. 
و مواجهة القرن الواحد و العشرين!!. 

ليس صحيحاً.. 
أن جسدك لم يكمل دراسته العالية.. 
و أنه لا يعرف شيئاً من فقه الحب.. 
و أبجدية الصبابة.. 
و لا عن العيون و أخواتها.. 
و الشفاه..و أخواتها.. 
و القبلة .. و أخواتها.. 

لجسد المرأة قرون استشعارية.. 
تسمح لها أن تلتقط كلمات الحب 
بكل لغات العالم.. 
و تحفظها على شريط تسجيل.. 

ليس هناك امرأة لا تحفظ عن ظهر قلب .. 
أسماء الرجال الذين أحبوها .. 
و عدد رسائل الحب التي استلمتها.. 
و ألوان الأزهار التي أهديت لها.. 

ليس هناك امرأة ليس بداخلها بوصلة.. 
تدلها على مرافئ الحب.. 
و على الشواطئ التي تتكاثر فيها الأسماك. 
و تتزوج فيها العصافير.. 
و على الطرق الموصلة إلى جنوب إسبانيا 
حيث يتصارع الرجال و الثيران.. 
للموت تحت أقدام امرأة جميلة.. 

جسد المرأة ناي 
لم يتوقف عن العزف منذ ملايين السنين. 
ناي لا يعرف النوطة الموسيقية.. 
و لا يقرأ مفاتيحها.. 
ناي لا يحتاج إلى من يوزنه.. 
لأنه يوزن نفسه.. 

جسد المرأة يعمل بوقوده الذاتي 
و يفرز الحب.. 
كما تفرز الشرنقة حريرها.. 
و الثدي حليبه.. 
و البحر زرقته.. 
و الغيمة مطرها.. 
و الأهداب سوادها.. 

جسد هذه المرأة ..مروحة.. 
و جسد تلك ..صيف إفريقي.. 

الحب في جسدك.. 
قديم و أزلي.. 
كما الملح جزء من جسد البحر.. 

ليس صحيحاً.. 
أن جسد المرأة يتلعثم عندما يرى رجلا. 
انه يلتزم الصمت.. 
ليكون أكثر فصاحة!!.. 

ليس هناك جسد أنثوي لا يتكلم بطلاقة.. 
بل هناك رجل 
يجهل أصول الكلام... 

لا بد في الجنس من الخروج على النص.. 
و إلا تحولت أجساد النساء 
إلى جرائد شعبية.. 
عناوينها متشابهة. 
صفحاتها مكررة!!.

لندن 1995