كتابة أورهان باموك .. و خروج الهامشي من هامشيته

في كتابة أورهان باموك ( نوبل 2006 ) ، تناقض رئيسي يكمن في استدعاء صورة الوجود الأول للدال – سواء أكان مكانا أو شخصا أو نصا من التراث الثقافي – في حالة انتشار و مساءلة للتحقق النهائي لهذا الوجود ، فالتكوين الإبداعي عند باموك لا يمكن فصله عن صوره الأخرى / الهامشية المنتجة بواسطة مخيلة تناهض ذكرى الحدود بين الدال و تخييله ، و تمعن في الاستجابة لإغواء الصيرورة السردية الكامنة فيها منذ البداية ، و يكملها النص .

كتابة باموك تعري دائما ما لا يقبل الظهور أو التحديد ، و تحتفي بالعنصر التمثيلي في الشيء ؛ لتناهض خطاب العنصر الثقافي المهيمن ، لحظة اكتشاف إرادة الهيمنة ؛ فلا يمكن فصل الأخيرة عن تمثيلات الهامش الإبداعية ، و أسئلته المضادة لهويته الزائفة ، وسرده المغيب لقوة المنظور الأحادي .

هكذا يولد الهامش حركة ( تعقيد ثقافي تكويني ) نكتشف فيها حدة الاستجابة لدموية الصراع الحضاري ، مع الامتزاج الذي يحققه تفاعل الواقع و الكتابة في بكارة حسية متجددة ، تعارض ذاكرة الصراع المصاحبة لتمييز الأنا عن الآخر / المختلف .
الامتزاج يحقق قبول الغيرية ضمن صيرورة الأنا ، و تطورها الروحي الداخلي ، و من ثم كان الآخر عند باموك ذا طابع مادي محسوس يختلط فيه المكان / اسطنبول بالانفعالات المولدة من المكان ، و تنتجه في الوقت نفسه ، و هو طيفي أيضا ، لأنه مراوغ للمركز و حدوده الثقافية . إنه أداء ما بعد حداثي يدمر سياقه الأول باستمرار دون أن يمحوه ، و لكن يعيد صياغته كأثر لا كقوة مهيمنة .

• الثلج ، غطاء للمأساة و صفاء ذات متجددة :
في نص أورهان باموك الروائي ( ثلج ) Snow ( طبع بدار الجمل ترجمة عبد القادر لؤي ) – لم يعرف البطل / كا ملامح مدينة قارص ، و لم يجد فندق الجمهورية ، فقد محا الثلج ملامح الأشياء ، و ضاعت تحت غطائه ، فقط رأى عربتي خيل تذكران بالماضي .

هل كان الثلج مناهضا للمعرفة ؟ هل هو أداء للمحو و التدمير ؟ أم غطاء للمأساة المتعلقة بإشكالية المعرفة ، و مساءلة وجودها ؟
الثلج جزء من مخيلة الذات ، و المكان في الوقت نفسه ؛ ففندق الجمهورية يهرب من الذاكرة ، و يحتجب تحت الثلج ، فتنقطع مساحته في الذاكرة ، و يمتد الاحتجاب إلى الوعي المدرك ؛ ليسخر من إرادة المعرفة لدى كا ، و يجسد بداخله وعيا بالمأساة ، بالجمود الذي يخفي ؛ ليجدد الذات ، لكنه يكشف آثار التهميش ، و الانتحار في البلدة .
دائما ما أوحى انتشار الثلج و سقوطه بطاقة متجددة و صفاء مواز للرتابة ، و إغواء بالخروج من دائرة الذات ؛ فهو إذا لا يكشف المأساة كاملة للوعي ، و لكنه يكشف ما لا يمكن الإحاطة به أبدا و هو الآخر / الطيف الخفي المتجاوز لكل من الانتحار و التهميش .
إنه يخفي تطابق المعرفة و ظهور الأشياء . ما هذا الحضور الخفي ؟
هل هو حركة تقاوم الحد الفاصل بين الصلابة و الصفاء المحتمل بوصفهما دالا واحدا في حالة عمل تناهض المركز و الهامش معا ؟ أم أنه البديل الوجودي الآخر لمركزية الظهور الزائف كما يصفها بودريار في واقعنا المعاصر ؟
الثلج بداية تحول لعلامات الماضي - مثل عربتي الخيل – و توليد لصورة بديلة لها في الذاكرة تشبه الانتشار النصي المقاوم لمأساة الثلج التي انطوى عليها وجوده .

هل نقول إن الثلج كتابة ؟ أم أن الكتابة تعلن عن هوية سردية قوامها الثلج المجرد من هويته الأولى ؛ مثل كا و الفتيات المنتحرات ، و شوارع قارص ؟
كان كا يمشي صباحا في الشوارع ، و يجلس في مقاه مملوءة بالأكراد العاطلين ، و يمر بأحياء فقيرة ، و يسمع قصصا حول الفتيات المنتحرات ، بينما تنبثق بداخله صورة الثلج من الذاكرة ، في حضور استقبالي آخر ، حين كان يتمثل له في طفولته كقطعة من حكاية ، أما الآن فيبدو كملجأ أخير .

لقد وضع الثلج في مواجهة مع أثره الآخر ، حين انتقل من الماضي إلى المستقبل كحكاية محتملة أخرى تسائل واقع المهمشين ، لكنه أيضا يجسد جمود واقع أوشك أن يصير حكاية أو أطيافا أسطورية أو نصية خارج المأساة .
إن استعادة بكارة السرد من وعي طفل ، تضع وحشية المأساة في حالة من البراءة تذكرنا بالتحول الثالث للروح عند فريدريك نيتشه حين تمتزج قوة الأسد بالتغير الكامن في براءة الطفل ( 1) .

التغير هنا كان انقلابا على الأصل ، أو حالة من حالاته نراها أكثر وضوحا في حكايات المنتحرات الصغيرات ، فسارد أورهان باموك يجسد استعادة أطياف الحكاية منها ، دون أن يستسلم لقوة الانتحار خوفا من الوحدة العميقة هناك .

لقد جاء حدث الانتحار برأيي كقوة نيتشوية نابعة من علامة الثلج ليتخلص من هموم البشر المطمورة في المكان ، تجلت هذه القوة في حركة الدم السائل بسخاء من فتاة أطلقت على نفسها النار ببندقية صيد لأبيها ، ثم تلوت وسط الدماء التي بدت انقلابا لبراءة الثلج على مأساته ، وكانت الفتاة فبل ذلك قد تناولت العشاء ، و ضحكت مع إخوتها .

هل كان الانتحار بريئا إلى هذا الحد ؟
هل جسد مأساة في وعي الفتاة ؟ أم صفاء لبراءة مراوغة لرتابة الموقع الهامشي؟
أما كا المراقب لانتشار الثلج فقد راوده حلم انتحار بطيء بحبوب منومة ، دون أن يحقق حدث السقوط ؛ لأن كا في حالة انتظار أن يقع أمر ما ، أو معاينة لحظة صفاء تناهض حتمية موت قادم .

لقد غطى الثلج مقترنا بالزمن أثار المكان التاريخية مثل القلعة السلجوقية ، و الأحياء الفقيرة التي تلي شارع أتاتورك ، في رحلة كا اليومية ، و كأن الفضاء لا يبالي بتاريخ القوة الإنساني إذ تتداخل الأشياء الصغيرة مثل نباح الكلاب ، و لعب الأطفال مع حدس المكان ، و امتداد الثلج الذي يمحو أي حدود ممكنة ، و حين اختلط منظره بالضوء الأصفر برزت فكرة الله بداخل كا .
قوة الإبداع البديلة تقصي وحشية الإنسان في صور الصفاء المبهرة التي تستبدل الحضور بخفاء جذاب في حالة تجاوز و عمل .
إنه انفجار داخلي ، تحول أنثوي قوي( للمخيلة / الواقع ) نحو الماء من داخل تحولات المكان الرتيبة ؛ مثل انقلاب دور السينما إلى دكاكين للملابس .

• خروج الهامشي من موقعه :
من داخل دائرة المركز ، يقع الهامش في حالة مضادة للهامشية المفروضة عليه سلفا ، بوصفه نقطة ثابتة تتحدد ضمن علاقتها بقوة متعالية ؛ و لكن هذا التحديد يصبح موضوعا باعثا على السخرية ، إذا خرج الهامشي من موقعه البنائي المزعوم .
ثمة علاقتان محتملتان هنا ؛ إما الاستسلام لعنف شكلي مضاد ، أو الخروج المتجاوز للدائرة بالكلية .

في نص له بعنوان ( غضب الملعونين ) The Angry of the Damned يصف أورهان باموك استجابة شكلية عنيفة و غاضبة لعجوز، إزاء أحداث 11 سبتمبر تؤكد موافقته اللا واعية الأولية على ما حدث ، رغم أنه لم يكن رجلا دينيا Religious أبدا ؛ فهو يكافح في وظيفة بسيطة ، و يشرب الخمر ، و يتشاجر مع زوجته ، كما أنه حين أعلن غضبه ، لم يكن قد رأى المشاهد المرعبة على شاشة التليفزيون ، و يرى باموك أن الشعور بالسحق يولد مثل هذه المشاعر ، و أن مشكلة الغرب لا تكمن فقط في الكشف عن إرهابي يستعد لزرع قنبلة ، و لكن في فهم الأغلبية التي تعاني من الإذلال ، و لا تنتمي إلى العالم الغربي ( 2 ) .

يستشرف أورهان إذا حوارا منتظرا ، خارج المركزيات الانعزالية المتعالية ؛ لنزع تلك الاستجابات الشكلية العنيفة التي ترفض الهامشية من داخلها ، و ذلك بنقل ذاتها في موقع القوة ؛ لتفريغ الأخيرة من محتواها المقدس مثلما نزعت عن نفسها الوقوع الحتمي في الهامش دون أن تمحوه .

إن مثل هذه الطاقات التدميرية الخارجة ، لا يمكنها تحقيق التجاوز لخطاب المركز ، فالخروج المنتظر أكثر تعلقا بإجهاض فلسفة الإقصاء الأبوية المتواترة في تاريخ الحضارات ، فالاستماع إلى الهامشيين يخرجهم من لعنة الوجود ، بوضعهم في نطاق تفاعلي دون حدود ، و يحقق باموك هذا التفاعل في كتابته الأدبية التي تدخل مسيرة الآخر الحكائية ضمن عوالم الأنا ؛ و بهذا الصدد يرى إيهاب حسن أن نصوص الأدب تحقق إتمام اللغز التخيلي للإنسان ؛ إذ تحقق مجدا يتجاوز كل الحسابات الإنسانية ، عن طريق اعتنائها بما بعد التميز في حدود أو ما يطلق عليه ( Beyond singularities ) فالعمل الأدبي يملك قوة تبدو كلحظة عنيدة و كونية تجمع بين المحلي و العالمي ، بين جلجامش و موبي ديك و هملت و الشعر الفارسي و الأقنعة الأفريقية ( 3) .

كذلك يجمع باموك بين الكتابة التداخلية و حرفية الأماكن و الشخوص ، ليخرجها من تميزها الروائي الفريد ، لتكون صيرورة أخرى للواقع المشاهد في وعيه و لا وعيه ، ذلك المنتظر خارج علاقات القوة الأحادية .

كتب باموك في نص له بعنوان ( مدينة الأشباح ) City of ghosts أنه يشعر بأن هناك شخصا آخر اسمه أورهان ، يمشي في شوارع اسطنبول ، و يعيش في بيت يشبه بيته ، ربما هو توأمه ، أو تضاعفه الذاتي ، هو لا يتذكر كيف أنتج هذه الفكرة ، أو كيف أتت هي إليه ، لكن بداخله ذكرى حول آخره الشبحي هذا My ghostly other ، قد يحدق فيه الآخر في أحلامه ، أو في حالات من الرعب أو الصمت القاسي ( 4) .

هكذا يأتي الانقسام كأداء وجودي للتعدد و الانتشار في الواقع ، كمجال حرفي للتجاوز ، و انفتاح الحدود علي ( الأنا- الآخر ) في تكوين إبداعي متغير ، عندئذ يقع الواقع في فضاء استبدالي للكتابة ؛ فباموك لم يهتم بمعرفة هذا الآخر ، لكنه يقر بفاعليته الخفية – مثل الثلج – المتخطية لمركزية الصراع الثقافي .

إن الشبح يؤدي في الواقع ، ما هو مضاد لمركزية الخطاب الواقعي الذي عرفناه من خلاله .
إن أورهان الآخر متحرر من عقدة الذنب ، و صلابة الجذور ، لأنه ينطلق بحرية إلى السينما و لا يضيع وقته في الصراع .
إن فقدان الجذور الصلبة لدى شبح باموك يلائم الاختفاء الكامن في طبيعته ، و التي لا يمكن عزلها عن جمود الواقع ، و أخيلته الأخرى الخارجة إلى أطياف الآخر في آن ؛ و من ثم يصير الحديث عن عقدة الذنب موضوعا للسخرية .

• التراث و لقاء المختلف :
تجسد حكايات ألف ليلة و ليلة ، عند باموك لقاء الشرق بالآخر الأوربي ، في تشكيل واقعي / ثقافي محسوس ، فعن قراءته لها بمدينة جنيف السويسرية صيفا ، يقول : " و يبعد بيتنا مسافة بسيطة عن شواطئ بحيرة جنيف ، و فيما كان الهواء العليل ينسم من خلال نافذتي التي حملت إلي نغمات عزفها أحد المتسولين ، كنت أنتقل من الواقع ، و أتوه في عالم علاء الدين و المصباح السحري " ( 5 ) .
لقد خرج وعي باموك من داخل الواقع الآخر ؛ المولد من سرد الواقع الحرفي خارج نفسه ، كما مارس فعل الإغواء باتجاه الشرق الأكثر ارتباطا بطبيعة الغرب السحرية في تلك اللحظة .
هل تكون المياه المؤنثة كما يصفها باشلار تبديلا للهوية ؟
في الليلة الرابعة عشرة بعد المئة في حكاية علاء الدين و المصباح لم تمت زبيدة لكن اختطفها أحد الجان و طار بها ، ووضعوا بدلا منها جنية تصورت بصورتها ، ثم خرجت من القبر .

ما الهوية ؟
ما الموت ؟
أهما حكايتان دون اكتمال ؟
إن الفاعلية البديلة تناهض الهوية و الحتمية معا في اتجاه التعاطف مع السياق الآخر الممتد من الأول و يغايره في آن ؛ و هي سمة متكررة في ألف ليلة ، و يكسبها الواقع طزاجة تشبه الماء ، و غناء المتسول داخل أورهان و خارجه .

 الهوامش :
( 1 ) راجع :
Friedrich Nietzche / Thus Spake Zarathustra / translated by Thomas Common / www.holtof.com/library/nietzche/select.htm
( 2) راجع :
Orhan Pamuk / The Anger of the Damned / translated by Mary Lisn / The New York Review of Books / v.48 / n.18 / NOVEMBER 15 2001
( 3 ) راجع :
Ihab Hassan / Globalism and Its Discontents / on
www.ihabhassan.com/index.htm
( 4 ) راجع :
Orhan Pamuk / City of ghosts / translated by Maureen Freely / Guardian Unlimited / MARCH 12 – 2005
( 5 ) راجع :
أورهان باموك / قراءة أو عدم قراءة ألف ليلة / ت : ريم شمس الدين / الحياة / 13 / 10 / 2006 .