كانت تباهي بدارها الصغيرة التي تقع علي حافة المدينة بعيدة عن الزحام ، وكان المرج الأخضر المجاور يحمل إليها الهواء المعبأ بأنفاس البرتقال والنعناع البري ..
لكنهم عندما جاءوا واحتلوا المرج سدُّوا عليها المنافـذ ، نصبوا وحدات مستوطنتهم ، واقتلعوا شجيرات البرتقال ، وجرفوا أحواض النعناع ، وأحاطوا أنفسهم بالأسلاك الشائكة . لم يكن بيـدها أو بيـد " أبو مازن " فعـل شئ ..
كانا في وقت العصر يجلسان سوياً أمام الـدار ، يتطلعان للزرقة اللانهائية التي تأخذهما حتى البحـر ، وكانت البنات علي مرتفع المرج الأخضر يصنعن لهوهن البريء ، الآن خلتْ الـدار ، تعلقتْ كل بنت برقبة زوج ، وجرتْ سنوات العـمر ..
عندما أطلُّوا عليها من خلف الأسلاك ، أهالها كم الحقـد والضغينة اللذين سقطا علي دارها الصغيرة من أعينهم . نثرت نثار بخورها علي الجمرات بالمبخرة ، وطافت حول الدار سبع مرَّات وهي تتمتم بالمعوذتين . عندما أطالتها أفواههم بالشتائم والسباب ، لم تفهم شيئاً مما يقولونه ، نظرت لـ " أبو مازن " وضحكتْ ، وشرعتْ إصبعها في وجوههم وهي تردد : " حـد الله بيني وبينكم .. حـد الله بيني وبينكم " . لكنهم في توالي الأيام راحوا يتخلصون من نفايات المستوطنة بإلقائها علي الـدار الصغيرة ، واضطرت مع " أبو مازن " أن يقضيا وقتاً طويلاً في تنظيف المكان كل يوم . ولم يكن بيـد أي منهما فعـل شئ ـ فيما بعـد ـ عندما انهالت عليهما قطع الحجارة من وراء الأسلاك ، ولا حتى الطلقات النارية التي كانت تشق سكون الليل فوق سقف الـدار وتوقظهـما مفزَّعين في عـز اللـيل . كانا يؤملان بأن أهل الخرافة خلف الأسلاك لابـد وأن يتعـبوا في يومٍ ما ، وأن يصيبـهم الملل ، ويتركونهما في حالهما ، وينسون أمـر الـدار ..
لكنهما صبيحة هذا اليوم ، قفـزا من فراشهما مفزعين علي صوت هدير آلة ، ظنا أنها تمشي فوق رأسيهـما . ولمَّا خرجا فوجئا بشعب الخـرافة وقد اقتلعوا الأسلاك وأحاطوا بالـدار ، ورأيا الجرَّافة الضخمة تغـرز أسنانها الوحشية في الحائط ، قفزا سوياً في لحظة واحدة أمامها ، احتضنا متشابكـين ، تكورا معاً كرةً من اللحـم الحي ، تمتما بالشهادتين اللتين طارتا لأعلى في الزرقة اللانهائية التي أخذتهما صوب البـحر ، واستنشقا سوياً مرَّة أخـرى أنفـاس البرتقـال والنعنــاع البرِّي .
الدار
By: Mohamed Elhady - on: Saturday 18 November 2017 - Genre: Stories
Upcoming Events

Sonallah Ibrahim's Ice
June 26, 2025
Join us for a special discussion on Sonallah Ibrah...

Arabia Felix - Alarabia Alsaida in Bayt Yakan
April 15, 2025
Arabia Felix by Thorkild Hansen, and translated by...

A writer, a vision, a journey: a conversation with Professor Ilan Pappe
March 15, 2025
This event took place on 15 March, 2025 . You may...

مسافر يبحث عن ماء
February 17, 2025
تقيم نقابة اتحاد كتاب مصرشعبة أدب الرحلات تحت رعاي...