من كتاب وجوه وملامح لرجب سعد السيد

الأستاذ الدكتور حسن ظاظا

     الدكتور حسن ظاظا واحدٌ من الشخصيات القليلة التي تمنيتُ لو أنني بذلتُ جَهداً أكبرَ للاقتراب منها؛ وكان الطريقُ إليه سـهلاً، سهولة شخصيته، فقد كان إنساناً بسيطاً، في طبعه التواضعُ، محباً للناس، لا تفارقُ الابتسامة وجهه؛ والأكثر من ذلك، أنه – وهو الأستاذ بجامعة الإسكندرية -  كان صديقاً مقرباً للأستاذ على العمري، المثقف السكندري، الذي كان يعمل ترزياً إفرنجياً، وكان دكانُه، أو ورشته، بشارع طلعت حرب، المحلَّ المختارَ لكثير من الأدباء والمثقفين السكندريين؛ وكانت تربطني بعلي العمري مودة، وهو مصدر كثير مما تحصَّـلَ لديَّ من معلومات عن شخصية وحياة الدكتور ظاظا، الذي كنت أكتفي بالحرص على حضور محاضراته والتخلُّف إلى ندواته في قصر ثقافة الحرية (مركز الإسكندرية للإبداع، الآن)، في أواخر الستينيات وبداية سبعينيات القرن الماضي.
     كان الرجلُ واحداً من قلّة من أساتذة الجامعة الذين حرصوا على الاتصال بالمجتمع خارج الجدران الأكاديمية، لأداء دور تثقيفي عام، لا يقل شأناً عن الدور البحثي والتدريسي الجامعي، بوقت كانت الدولة تسعى فيه لإعادة بناء الإنسان المصري، دعماً لمسيرة التنمية الطموح، التي عطلتها نكسة 67.
     ولعل جانباً من سـرِّ جاذبية شخصية حسن ظاظا العلمية والثقافية، في ذلك الوقت، يعود إلى تخصصه، فقد نال درجة الدكتوراه من السوربون، عام 1958، عن دراساته للغات السامية والآثار وتاريخ الأديان والحضارات. وكان قد حصل على ليسانس اللغة العربية واللغات السامية من جامعة القاهرة في عام 1941، ثم سافر إلى فلسطين، وكانت تحت الإدارة البريطانية، حيث درس الأدب العبري واللغات السامية في الجامعة العبرية، بالقدس وتل أبيب، وحصل منها على درجة الماجستير عام 1944؛ ولما عاد إلى مصر واجهته مشكلة فيها بعضٌ من ملامح الجدل الذي يثار حالياً حول التطبيع والمطبعين، إذ كانت جامعة الدول العربية في طور التأسيس، واشـتمَّ القائمون على أمرها أنَّ في حصول حسن ظاظا على درجة علمية من جامعة يهودية ما يتعارض مع ميثاق المنظمة العربية الوليدة، فهو اعتراف ضمنيّ بوجودٍ علمي وجامعي لليهود في فلسطين.
     وقد أتاحت هذه المهمة العلمية لحسن ظاظا فرصة الاتصال بالمجتمع اليهودي ومعايشته عن قرب، في فترة التفاعلات الحادة التي انتهت بنكبة 48 وإعلان قيام الدولة اليهودية، كما كان زميل دراسة لعدد ممن أصبحوا فيما بعد من قادة إسرائيل؛ وقد أتقن ظاظا اللغة العبرية إتقان الناطقين بها؛ ثم إنه تعمق في دراسة التاريخ والفكر اليهوديين، فكان حصيلة ذلك كله شخصية عليمة بأبعاد الصراع في المنطقة، مُهيَّــأة للاستفادة بعلمها وخبراتها في إدارة هذا الصراع .. فهل تحقق ذلك ؟
     ترددت عن الدكتور ظاظا أخبارٌ مفادُها أنه قام بدعم عمليات فدائية داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، كما أنه شارك في استجواب الأسرى الإسرائيليين في حرب 73؛ وذكرَ هـو في حوار أُجـريَ معه أثناء إقامته في "الرياض" أنه ( .. في وقت من الأوقات كان هناك نوع من التعاون بيني وبين الرئيس محمد أنور السادات، ثم تركته، أو تركني هو، لأننا كنّـا على طرفي نقيض فيما يتصلُ باتفاقيات كامب ديفيد، وأنها لن تؤدي إلى السلام ..). وكان ظاظا يرى أنه من المستحيل الوصولُ إلى سلام مع الصهيونية، وأن ما كان يجري، ولا يزال يجري، مجرد مناورات سياسية، لا أكثر ولا أقل، وأن ( مستقبلها – فيما أرى – مظلمٌ جداً )!. ولمَّــا سأله أحد الصحفيين : لماذا تحملُ قضية فلسطين فوق رأسك ؟ .. ماذا فعل لك القادة العرب ؟؛ ردَّ قائلاً : (أنا لا أريدُ شيئاً من الحكومات، فهي لا تعنيني؛ ولو كانت المسألة مسألة مناصب لكنتُ وافقتُ على منصب وكيل وزارة، أو رتبة اللواء التي عرضوها عليَّ؛ ولكن القضية بالنسبة لي هي قضية عدل وظلم، فالقضية الفلسطينية قضية عادلة، والفلسطينيون مظلومون، مهما بدا من بعضهم) !
     والمؤكد أن اسم الدكتور حسن ظاظا، بطبيعة الحال، يتصدَّرُ القائمة التي وضعتها الصهيونية العالمية للمعادين للسامية؛ ولكن غير الطبيعي أن يُســاء فهمه، وأن توجه إليه المغالطات من بني جلدته وزملائه؛ فهو يروي قصة عن كتاب كان قد شارك في تأليفه، عنوانه (الصهيونية العالمية وإسرائيل)، فيقول : " أوردتُ بالكتاب أنَّ ما جاء عن أصل بني إسرائيل في التوراة التي بين أيديهم، لا يعدو أن يكون ملحمة وطنية لجاهلية أمة لم تعرف الكتابة إلاَّ بعد ذلك بألف سنة.. وبالتالي فهي وثيقة محرفة مخترع فيها الكثير، وهي بهذا الشكل غير جديرة بالتصديق وتحتاج إلى غربلة كثيرة، وبعد هذا فوجئت بشكوى قدمت ضدي لوزير التعليم العالي - في هذا الوقت - ليس من يهودي وإنما من جامعي مسلم، يتهمني فيها بالإلحاد؛ لماذا؟ ..  لأنني ذكرت مقتطفات من سفر حزقيال في أسفار التوراة اليهودية، يقول فيها: (إنه كان يمشي في أرض بابل فرأى وسمع الله يناديه ويقول: يا ابن آدم: انظر تحت رجليك وقل لي ماذا ترى؟ قال فنظرت تحت رجلي فوجدت الأرض قد غطيت بعظام آدمية، فقلت أرى عظاماً آدمية يا رب؛ قال: فاعلم أن هذه هي الأسلاف من بني إسرائيل، وإنني سأكسوها جلداً ولحماً، وأقيمها وأسيرها لتبني ملكاً في بيت المقدس..). وقال – الزميل الجامعي - لقد ملأ حسن ظاظا هذا النص بعلامات التعجب والاستفهام، وكأنه يشك في قدرة الله على البعث والنشور !.  وجاءت الشكوى، محولة من وزير التعليم العالي، إليَّ في جامعة الإسكندرية، فساءني أن يصدر مثل هذا الكلام وأن أتهم في ديني من أخ مسلم مثلي، فرددت عليها بقسوة".
     وللدكتور حسن ظاظا عديد من المؤلفات، بعضها بالفرنسية؛ ومن مؤلفاته العربية : اللسان والإنسان – الساميون ولغاتهم – كلام العرب – الفكر الديني اليهودي، أطواره ومذاهبه – الشخصية الإسرائيلية – أبحاثٌ في الفكر اليهودي – القدس، مدينة الله أم مدينة داود ؟. هذا، بالإضافة إلى مئات المقالات التخصصية والعامة؛ وكان الرجل قد واظب، لما يربو على عشرين عاماً، على نشر زاوية بجريدة الرياض، عنوانها ( الكشكول )، مستلهماً كشكولاً قديماً من التاريخ الأدبي عند العرب، هو الكشكول لبهاء الدين العامليّ، أحد لُغـويي ومؤرخي القرن العاشر الهجري؛ حيث يحكي ظاظا في كشكوله، على لسان شخصية أسماها (عبد السلام)، حكايات يمزج فيها السياسة بالآداب والفنون على نحو مستحب. وقد أصدرت جريدة الرياض السعودية، في سلسلة (كتاب الرياض)، جزءين يضمان جانباً من هذه المسامرات، عامي 1994 و 1997؛ كما كتب حسن ظاظا نمطاً من الشعر القصصي، يرويه على لسان شخصية أسماها (البهلول)، يمزج فيه – حسب قوله – الشعرَ العموديَّ بشعر التفعيلة المُقفَّـى؛ وقد أنشدَ ذلك البهلولُ ما يقربُ من العشرين نشيداً، يملأ كلُّ منها – كقول ظاظا نفسه -  أربعين صفحة، أي ما يتجاوز الثمانية آلاف بيت.. فأين ذهب كلُّ هذا الشعر ؟. بل أين هو حسن ظاظا الآن، هل طواه النسيان، بعد أن رحل عن دنيانا منذ عشر سنوات (في العاشر من أبريل 1999)، عن ثمانين عاماً ؟. لماذا هذا الصمت الذي يلف ذكراه، ونحن أحوجُ ما نكون اليوم إلى مراجعة عطائه الفكري ؟
     لقد أمضى حسن ظاظا آخر عشرين سنة من عمره بالعاصمة السعودية (الرياض)، التي اختارها منفىً طوعياً، أو وطنا بديلاً له، بعد أن ضاقت به الحياة في مصر، إثر تعرضه – بعد تجربة زواج ثان فاشلة -  لأحوال اجتماعية ضاغطة، انتهت به إلى عراكٍ فُرِضَ عليه، ولا يجيده، في ساحات المحاكم؛ وقد بلغ به حاله درجة من السوء جعلته يقرر مقاطعة الوطن، فلم يفكر مرّة واحدة في العودة إليه، ولو زائراً. وحتى عندما دعاه واجبه الأكاديمي إلى المشاركة في مناقشة رسالة علمية لأحد تلاميذه السعوديين، بجامعة الإسكندرية، وافق بشرط أن تُعـدَّ له طائرةٌ خاصة، تنقله إلى الإسكندرية، ثم تعود به إلى الرياض فور الانتهاء من المهمة العلمية، مغادراً المجتمع الذي آذاه، والوطن الذي أدار – ولا يزال يدير – له ظهره !
     لقد رأى حسن ظاظا فلسطين تضيع، قبل أن تضيع، واستشرفَ – منذ أكثر من نصف قرن من الزمان - ما آلت إليه أحوالُنـا الآن. ففي سنوات دراسته بالجامعة العبرية، كان على صلة بالنادي القومي الإسلامي في (يافا)، الذي كان يتلمس أيَّ مناسبة ويقيم حفلاً لبثّ الوعي بخطر الصهيونية. وفي مناسبة إحياء ذكرى (ابن زيدون) في ذلك النادي، بالعام 1943، أنشدَ ظاظا قصيدة، جاء بها :
إيه يا شــعرَ، تلك أندلسُ الإســلام في عـزها الســنيِّ الرفيع
أأنادي الثـرى، فتنتفضُ الأرضُ، فتروي أخبارَ تلك الربوع ؟
أم هنـاك الثرى، كذلك، أمسى قبضة في يد الزمـان الوضيع ؟
أم تراني أسـتنفِـرُ العـرب للمجد، وهُم بين ضـائع ومضيــع ؟!