همس العقرب لمحمد توفيق: ماذا جرى للقافلة وركّابها؟

نشرت لاول مرة في 28 أكتوبر 2021 بجريدة النهار
من يقرأ “همس العقرب“، منشورات دار العين –القاهرة، لن يخيّل إليه أن كاتبها محمد توفيق كان سفير مصر في واشطن، وقبل ذلك في لبنان. سيخيّل إليه أن الديبلوماسي الروائي أمضى حياته سفيرا متجولا في صحاري العرب حتى صار واحدا من أهلها. وفي الوقت عينه شاهدا قاده إليها الابداع ليكشف عن شغف الآخرين: شغف روز البريطانية الملتبس مثل زعمها للسكان الأصليين بأنها زوجة رفيق رحلتها حسين باشا المصري، وأن ما قادها من الاسكندرية إلى الصحراء هو حب الاكتشاف ليس إلاّ. ستتكبد الأخطار والمشقات وفي يدها خرائط ودفاتر، تهديها إلى الطريق وتدوّن في تلك ما ستكون شاهدة عليه. وإن ساور أحد الشك في أمر هذين الرحالتين، أبرز له حسين باشا الوثيقة الثمينة التي يحملها من الأمير إدريس السنوسي، مكتوبة بخط يده وممهورة بختمه.”همس العقرب” نواتها تحاكي تراجيديا إغريقية، وثمرتها رواية ثرية لا يقل بعدها الفلسفي عمقا عن الاجتماعي منه أو النفسي. نسيجها المشدود بالألغاز يحفّز فضول القارئ كما حبكتها الدائرية الحلزونية و”حركة الفلاش باك” التي تتلاعب بمخيلة الأبطال تلاعبها بمخيلتنا. رحالة هاربون من ماضيهم وذواتهم، هائمون في هواماتهم. وراء كل منهم تاريخ لا يخلو من صراع. روز البريطانية لا تخفي على شريكها نيتها في أن تكتب عن رحلتها مؤلفا يدهش مثقفي بريطانيا، وإن كانت تخفي، حتى عن نفسها، أن مثل هذا المؤلف قد يفتح لها أبوابا أخرى لا تقل خطرا عن الرحلة ولا شأنا عن المؤلَّف! أما حسين باشا، فهو نفسه لا يدرك كنه اندفاعه لهذه المغامرة المحفوفة بالخطر. يحدس أن غايتها تتجاوز عشقه روز. عشق يهوّن عليه وطأة الانتظار. يأخذه إلى تأملاته الفلسفية التي سينقطع عنها آسفا إنما فخورا بالدور الذي سيغدو فيه كبير موظفي الديوان الملكي في مصر. في استراحة ما بين حقبتين، يرتقي متصوفا إلى عالمه الأصلي الذي أورثه إياه والده الشيخ الأزهري. وبين الأحلام والارتقاء تهون عليه لعبة الصد والإغراء التي تمارسها رفيقته البريطانية. لعبة تعالج فيها جرح عشق مضى أو تحضرها لآخر قاتل تضاجع فيه شابا لوّحته شمس الصحراء. لا همّ إن توارى مع سرابها، ستعرف كيف تداوي سمّ العشق بسمّ آخر. هي من ذاقت لوعة الحرب العالمية الأولى التي أفقدتها حبيبين: شقيقها ورجلا تدلهت به روحها. كثيرات غيرها من القارة الشقراء سبقنها إلى صحراء العرب التماسا للترياق الشافي. يخيل إلى رفيق رحلتها أنه هو من سيمنح الملتاعة الترياق. على أنه حين رآها عائدة والعقارب تملأ فراشها أدرك أن كلّا منهما خسر التجربة.تختلف الرحلات باختلاف الرحالة. إذا ما قُـيّضت لهؤلاء نعمة التواصل مع الذات، فلن تبرأ رحلتهم من تغيير يصيبهم أو يصيب بعض من وفدوا إليهم، فكيف لو كانت الدرب رمالاً مشرّعة على التيه؟كانا قد ركبا الجمال على إيقاع الحداء قبل أن يضل الدليل الدرب. سيهتدي ثانية بقدوم قافلة أخرى تؤكد أن الدرب الصحيح هو ذاك المرسوم في خرائط الأجنبية روز. وفيه ستتابع القافلة السير إلى غايتها: واحة الكفرة. بلدة هي مفترق طرق تتم فيها المبادلات التجارية بين قوافل آتية من الهند وأخرى من بلدان قريبة أو بعيدة. لقاءات موسمية ألِف أهل الواحة تواترها أبا عن جد، إلفة جعلت المقيم يعرف وجوه أقرانه الوافدين ويعرف حتى أنسابهم وأسماءهم. هولاء لا لبس في غايتهم، فالمعلوم غيره المجهول الذي قد يخفي نيات من شأنها الإخلال بالانسجام المتوارث أو هتكه.وصلوا إلى واحة خليقة بلوحة تشكيلية من ابداع الانطباعيين. أرض غنّاء تحاذي بحيرة لازوردية نبتت حولها خضرة و أشجار مثمرة لامعة الأوراق وخلفها واد سحيق لا يمكن من يحدق فيه ألاّ تأخذه التأملات حول مغزى الحياة وأسرارها. مثلما التي تراود الصبيتين جميلة وسندس في تأملهما مكانا هو دنياهم. ماذا سيكون نصيبهما منها؟ سندس هي قارئة الدلالات ومفسرة الإشارات الآتية من الأصداف أو من زخرفات الفنجان. دلالات تربك قريبتها المراهقة جميلة أكثر مما تريح بالها، لا سيّما سيدي فوزي، والد جميلة، رئيس القرية ومرجعها قد لا تغيب عنه الشكوك في شأن من نزل على ديارهم بلا استئذان. ولا يغيب البيّن من الغايات! الشكوك يقرأها في عيون مجالسين دعاهم للترحيب بالضيفين. يقيم لهما دعوات تُذبح فيها الخراف وتفرش الموائد. ما يليق بالتقاليد التي إنما استلمها ليحافظ عليها: إكرام الضيف.الإرباك الذي حلّ في الواحة منذ أن وطئ أرضها غرباء يخفون لغزا، يؤرق نفوس كثيرين من أهلها لا سيما جميلة. لأرقها سهام. بعضها يتجه إلى المرأة الأجنبية ذات البشرة الحليبية، وبعضها الآخر إلى الشاب الأسمر الممشوق، المفتول العضلات، محبوبها وخطيبها ياسين. شهر من الزمن وتُـزَفّ إليه. لكن يا سندس ما الذي بين الآن والخاتمة السعيدة تخبئه الأيام ؟سندس، على غير عادتها، تعجز عن الاستشفاف. قارئة فنجان وقعت هي الأخرى في ورطة الحب، حتى باتت في حاجة لمن يقرأه لها يوم غدت هي القارئة و”المكتوب لها” في الوقت عينه. قدرها وهي اليائسىة من أنوثتها، أن تقع في هوى هذا المصري القادم من وراء البحار. كل شيء بقدوم هؤلاء الغرباء بدأ يتغير. كما لو أصابته “نداهة”. فكت الحصار عن النفوس كما عن النسق، حتى لتسمح سندس لنفسها بان تكشف رأسها وجزءا من صدرها لمن هواه قلبها. أما غزالة الواحة، جميلة، فستغدو نمرة شرسة تستعد للانقضاض على غريمتها روز. تخطط للإيقاع بها في حبائل المغارة السرية التي إن ولجها مخلوق تعذّر عليه الخروج منها.سيدي فوزي لا يستجيب نوازع ابنته. إرثه المديد يلزمه، في حالة الشك استدعاء اليقين. لا يغيب عنه ما قد يخفيه هذان “الزوجان”. إنما وارث الصبر من الصحراء يعالج الأخطار بالرويّة والحكمة. عباراته الآن تؤرّق حسين باشا. سيتناهى لهذا القصد: روز جنحت. ركبت الأهوال ومن غير المؤكد أنها قد تصل. وإن وصلت فمن غير المؤكد إن كانت سترجع. هي نفسها ليست موقنة من شيء سوى من عجزها عن مقاومة عشقها ياسين. وهذا، برغم حبه خطيبته، سيقع في فخ الغواية. روز، سترجع شبه عليلة ونشوة اللقاء تسري في دمها سمّا تتوق إلى مزيد مستحيل منه. لكن همس العقارب يفعل فعله. شفرات تلك تغرز السائل في أطرافها، ما يذكّر بعناق كليوباترا الأفعى.الكاتب يبخل علينا باستشفاف ما سيكون، مطلقا العنان لخيالنا الذي واكب القافلة وركابها، وعايش عالم الواحة وأهلها وصار يتمنى متابعة المسيرة واللحاق بسيدي فوزي. ها هو يرافق الشاب ياسين إلى حيث لا يعلم أحد وجهتهما. يتركنا نتساءل إن كان سيدي فوزي نفسه يعلم الوجهة. وإن كان سيتسنى له بلوغ الغاية. تطهير ياسين من الدنس. وربما إعادة الفردوس إلى الواحة التي فقدت براءتها.