ترجمة نجاح الجبيلي

هل يستمر الشغف بالسينما ؟

سوزان سونتاج

ترجمة: نجاح الجبيلي

المصدر :كتاب ورشة سينما

تبدو السينما بعد مرور اكثر من مئة سنة عليها أنها تمتلك شكل دورة الحياة , ولادة محتومة ثم الحصاد المستمر للأمجاد ثم بداية التدهور الشائن والمتعذر تغييره في العقد الأخير وهذا لا يعني أنك لا تستطيع أن تتطلع بعد إلى أفلام جديدة يمكنك الإعجاب بها , لكن مثل هذه الأفلام يجب ألا تكون روائع فقط – وهذا يصدق على الإنجازات العظيمة في أي فن بل يجب أن تكون أيضاً اختراقات فعلية للقيم والممارسات التي تسيطر الآن على صناعة الفيلم في كل مكان من العالم الرأسمالي والرأسمالي المقبل – أي في كل مكان .

والأفلام العادية ، وهي التي تصنع خصيصاً لأغراض التسلية أي التجارية هي أفلام حمقاء على نحو مدهش؛ والأغلبية الواسعة منها تفشل جداً في الانجذاب إلى جمهورها موضع السخرية وبينما هدف الفيلم الكبير الآن أكثر من أي وقت مضى ، هو أن يكون إنجازاً فريداً من نوعه فإن السينما التجارية ترسخت من أجل صناعة سينمائية ثانوية منتفخة ، وهي فن وقح نتاج الجمع وإعادة الجمع من أجل إعادة إنتاج نجاحات الماضي إن السينما التي توجت كونها فن القرن العشرين تبدو الآن بعد أن انطوى القرن رقمياً كونها فناً منحطاً .

ربما ليست السينما التي انتهت لكن الشغف بها فقط وهو نوع خاص من الحب الذي تثيره السينما. كل فن يولّد متعصبين له غير أن الحب الذي تثيره السينما هو من نوع خاص لقد ولد من العرف بأن السينما كانت فناً يختلف عن أي فن آخر : حديثة جوهرياً ؛ سهلة الوصول على نحو مميز ؛ شعرية وغامضة ومثيرة وأخلاقية – كل تلك الأمور في الوقت نفسه كان لدى السينما رسل ( إنها تشبه الدين ) كانت السينما حملة عنيفة وبالنسبة للشغوفين بها فإن الأفلام تحتوي كل شيء كانت السينما كتاباً للفن والحياة .

وكما لاحظ العديد من الناس كانت بداية صناعة الفيلم قبل مئة سنة هي بداية مزدوجة على نحو ملائم. فحوالي عام 1895 صنع نوعان من الأفلام ، صيغتان قد يبدو أن السينما ظهرت بهما : السينما كنسخة من الحياة الحقيقية غير المنتجة ( الأخوة لومييه ) و السينما كاختراع وبراعة ووهم وفنتازيا ( ميليه) لكن هذا ليس تعارضاً حقيقياً. والأمر ككل هو بالنسبة لذلك الجمهور الأول هو أن النسخ ذاته لأغلب الواقع العادي – فيلم الأخوة لومييه " وصول القطار إلى محطة لا كيوتت " – كان تجربة فنتازية. بدأت السينما بالعجب ، العجب من أن الحقيقة يمكن أن تنسخ بمثل هذه البداهة ( المباشرة). والسينما برمتها هي محاولة لتخليد حس الإعجاب هذا وإعادة اختراعه .

يبدأ كل شيء في السينما بتلك اللحظة قبل مئة سنة حين دخل القطار المحطة حضر الناس الأفلام بأنفسهم تماماً كما صاح الجمهور بصيحات الإعجاب وقد انحنوا حين بدا القطار على وشك الحركة نحوهم وإلى أن حل التلفزيون مكان السينما كنا نتعلم من الزيارة الأسبوعية للفيلم ( ونحاول أن نتعلم ) كيف نمشي وندخن ونقبّل ونكافح ونتألم وكانت الأفلام تعطينا أفكارا مفيدة عن كيف نكون جذابين مثلاً : يبدو من الأفضل أن ترتدي معطفاً مطرياً حتى لم إذا لم يكن هناك مطر. لكن ما تحصل عليه فهو فقط جزء من تجربة أكبر في الانغمار في حياة هي ليست لك. الرغبة في أن تغرق نفسك في حياة الآخرين .

و كان أكثر ما تخصصه لنفسك هو تجربة الاستسلام لما كان على الشاشة أو التنقل خلالها إنك تريد من الفيلم أن يختطفك – وكان الاختطاف يعني أن يسحقك الحضور الفيزيائي للصورة إن تجربة " الذهاب إلى السينما" كان جزءاً من ذلك وأن ترى فيلماً عظيماً فقط في التلفزيون يعني أنك لم تر ذلك الفيلم بشكل حقيقي إن المسألة ليست أبعاد الصورة فقط : التفاوت بين الصورة الأكبر منك في شاشة السينما والصورة الصغيرة على شاشة التلفزيون في البيت إن حالات لفت الانتباه في الفضاء المنزلي هي مرفوضة جداً في السينما والآن لم يعد مثل هذا الفيلم ذا حجم قياسي فمن الممكن أن تكون الشاشات البيتية كبيرة بحجم غرفة المعيشة أو جدران غرفة النوم ومع ذلك فإنك لا زلت في غرفة نوم أو غرفة معيشة ولكي تختطف عليك أن تكون داخل صالة سينما جالساً في الظلام بين غرباء مجهولين .

إن جزءاً من الصباح لن يبعث الشعائر ( الطقوس) – المثيرة والمتأملة – للمسرح المظلم إن تقلص السينما إلى صور هجومية والتلاعب المجرد من المبادئ بالصور ( القطع السريع جدا) لجعلها أكثر لفتاً للانتباه ، أنتج سينما منحطة غير ملموسة لا تتطلب الانتباه الكامل للمرء تظهر الصور الآن بأي حجم وعلى مختلف السطوح : على شاشة المسرح ، على جدران قاعات الديسكو وعلى الشاشات العملاقة المعلقة على ملاعب الرياضة إن الحضور الكلي الشديد للصور المتحركة قد أخذ يحط بصورة مطردة من قيمة المعايير التي كان يحملها الناس مرة للسينما كفن من جهة وكتسلية شعبية من جهة أخرى .

في السنوات الأولى لم تكن هناك أساساً اختلافات بين هاتين الصيغتين وجميع الأفلام من الفترة الصامتة – من روائع فويلاد و د.و. غرفيث و زيغا فيرتوف و بابست و ومورناو وكنغ فيدور إلى الأفلام الميلودرامية والكوميدية – كانت على مستوى عال من الفنية إذا ما قورنت بما لحقها ومع ظهور الصوت فقدت الصورة الكثير من بريقها وشعريتها وأحكمت المعايير التجارية الطوق سيطرت هذه الطريقة في صناعة الأفلام – نظام هوليود – على صناعة الفيلم بما يقارب 25 سنة ( تقريباً من 1939 – 1955) أغلب المخرجين العريقين مثل أريك فون ستروهيم و أورسون ويلز هزمهم النظام ورحلوا أخيراً إلى منفى فني في أوربا – حيث تقريباً النظام نفسه الغالب على النوعية هو الآن يؤسس بميزانيات قليلة. وكان في فرنسا فقط عدد كبير من الأفلام الرائعة التي انتجت في هذه الفترة ثم ترسخت أفكار طليعية مرة أخرى في منتصف الخمسينيات وتأصلت في فكرة السينما كصنعة والتي مهدتها الأفلام الإيطالية لفترة ما بعد الحرب مباشرة وقد صنع عدد مدهش من الأفلام العريقة العميقة ذات الأهمية الكبيرة .

وفي تلك الفترة بالذات من تاريخ السينما الممتد 100 سنة أصبح الذهاب إلى الأفلام والتفكير بها والحديث عنها مثالاً للشغف بين طلاب الجامعة وبقية الشباب إنك لا تقع في حب الممثلين وفقط بل في حب السينما أيضاً وبدأ الشغف بالسينما أولاً مرئياً – ملموساً في الخمسينيات في فرنسا : ومنتداه كان المجلة السينمائية الأسطورية " دفاتر السينما" التي تبعتها مجلات شبيهة متوهجة في ألمانيا وإيطاليا وبريطانيا والسويد والولايات المتحدة وكندا) وكانت معابدها المنتشرة عبر أوربا والأمريكيتين هي عدد من النوادي السينمائية المختصة بأفلام من الماضي والمعارض الاستعادية للمخرجين التي برزت آنذاك. وكانت الستينيات وأوائل السبعينيات العصر المحموم في الذهاب إلى السينما مع متحمس للسينما متفرغ تماما ويأمل دائماً أن يجد مقعداً قريباً ما أمكن إلى الشاشة الكبيرة وبالأخص في مركز الصف الثالث. تقول إحدى الشخصيات في فيلم بيرتولوتشي " قبل الثورة – 1964 " لا يستطيع المرء العيش دون روسيلليني" وهي تعني بها .

وعلى مدى خمس عشرة سنة كانت هناك روائع جديدة كل شهر. كم تبدو بعيدة الآن تلك الفترة. لا شك أن هناك دائماً نزاعاً بين السينما كصناعة والسينما كفن ، السينما كروتين والسينما كتجربة لكن النزاع لم يجعل من المستحيل صناعة أفلام مدهشة أحياناً داخل السينما السائدة و أحياناً خارجها والآن يميل التوازن بصورة حاسمة نحو السينما كصناعة.لقد جرى التبرؤ من السينما العظيمة لفترة الستينيات والسبعينيات بشكل كامل. في السبعينيات كانت هوليود انتحلت وقدمت بشكل مبتذل الإبداعات في المنهج السردي وفي تحرير الأفلام الأوربية الجديدة الناجحة والأفلام الأمريكية المستقلة والهامشية دائماً. ثم حصل الارتفاع الهائل في تكاليف الإنتاج في الثمانينيات التي أمنت إعادة فرض معايير الصناعة على نطاق عالمي في صنع الأفلام وتوزيعها بشكل إكراهي. تكاليف الإنتاج العالية هذه كانت تعني بأن الفيلم يجب أن يحصل على إيرادات كبيرة مباشر�� في الشهر الأول من إطلاقه إن كان قابل للربح على أية حال- الاتجاه الذي فضل الأفلام الضخمة على الأفلام ذات الميزانية الصغيرة على الرغم من أن أغلب الأفلام الضخمة كانت متخبطة وكان ثمة دائماً بضعة أفلام "صغيرة" تفاجئ كل شخص بسحرها أصبح وقت إطلاق الأفلام في الصالات أقصر فأقصر ( مثل حياة الكتب في رفوف مخازنها)؛ والعديد من الأفلام كانت مصممة لعرضها مباشرة في الفيديو استمرت صالات السينما بالإغلاق – وبعض المدن حتى لم يعد فيها صالة واحدة – لأن الأفلام بصورة رئيسة هي واحدة من تشكيلات التسلية البيتية المعتادة .

في هذا البلد ، فإن خفض توقعات النوعية وزيادة توقعات الربح جعل من المستحيل فعلياً على المخرجين الأمريكان الطموحين فنياً مثل فرنسيس فورد كوبولا و بول شريدر أن يعملوا بأفضل مستوياتهم وفي الخارج يمكن رؤية النتيجة في المصير المحزن لبعض أكبر المخرجين في العقود الأخيرة.فأي مكان اليوم يمكن أن يكون على الفيديو لمشاكس مثل هانز يورغن سايبربرغ الذي توقف عن صنع الأفلام تماماً أو العظيم غودار الذي يصنع الآن أفلاماً عن تاريخ الفيلم ؟ خذ مثلا بعض الحالات : عولمة التمويل ومن ثم الكادر جاء مدمراً لأندريه تاركوفسكي في آخر فيلمين له بصنعته المذهلة ( والمختزلة على نحو مأساوي) وكيف سيجد ألكسندر سوخوروف المال للاستمرار بأفلامه المهيبة في الظروف البدائية للرأسمالية الروسية ؟

من المحتمل أن حب السينما قد انحسر. ومازال الناس يرغبون في الذهاب إلى السينما وبعضهم ما زال مولعاً بذلك ويتوقع شيئاً ما ضرورياً من الفيلم ومازالت الأفلام المدهشة تصنع : " العري" لمايك لي و "لامريكا" لجياني إميليو و " القدر" لفريد كليمنت لكنك بالكاد تجد الآن في الأقل بين الشباب الحب المميز للأفلام الذي هو ببساطة ليس حباً بل تذوقاً للأفلام ( المتأصل في الشهية الكبيرة لرؤية وإعادة رؤية بأكبر ما يمكن لماضي السينما المجيد) والشغف بالسينما نفسه أصبح معرضاً للهجوم كونه أمراً غريباً و ومهجوراً و وينم عن الغرور. والشغف بالسينما يلمح إلى أن الأفلام هي تجارب سحرية فريدة غير قابلة للتكرار. يخبرنا حب السينما بأن إشارة هوليود إلى فيلم غودار " اللهاث" لا يمكن أن تقارن بالأصل إن حب السينما ليس له دور في عصر الأفلام ذات الصناعة المهجنة لأنها لا تستطيع أن تمنع ، بمجال وكهربة عواطفها ذاتها ، أن ترعى فكرة الفيلم كونها في الأساس شيئاً شعرياً.ولا تستطيع إلا أن تحث أولئك الذين خارج صناعة الفيلم مثل الرسامين والكتاب ، على الرغبة في صناعة الأفلام أيضاً. إن هذه الفكرة بالضبط هي التي تعرضت للهزيمة .

إذا مات الشغف بالسينما فإن السينما تموت أيضاً لا يهم عدد الأفلام التي صنعت حتى لو كانت جيدة ولو استطاعت السينما أن تبعث من جديد فذلك يكون فقط من خلال ولادة نوع جديد من الشغف بالسينما.

سوزان سونتاج : ناقدة اجتماعية وروائية توفيت في أواخر عام 2004 عن (71) سنة من كتبها " ضد التأويل " و"أساليب الإرادة المتطرفة " " المرض كمجاز" " اعتبار ألم الآخرين" ومن رواياتها " عاشق البركان" و " في أمريكا".