ممدوح عدوان أو فضيلة احتراف الكتابة

نبيل سليمان - أخبار الأدب

يتم فصل الظهور الأدبي لممدوح عدوان (1941­2004) مع هزيمة 1967، إن تجاوزنا ما نشر في الدوريات قبل ذلك بثلاث سنين. ففي سنة الهزيمة صدر الديوان الأول للشاعر (الظل الأخضر) وصدرت مسرحيته الأولي (المخاض). بين ذلك المفصل وبين مفصل الألفية الثالثة ستبلغ اعمال ممدوح عدوان ثمانية عشر ديوانا وأربعا وعشرين مسرحية وروايتان وثلاثة وعشرين كتابا مترجما وكتابا من المقالة وأربعة عشر مسلسلا تليفزيونيا.

اثنان وثمانون عملا إذن خلال أقل من أربعين سنة، وكل ذلك ما عدا المقالات والترجمات التي لم تجمع في كتاب، مما يرسم لممدوح عدوان علامة كبري هي، إلي غزارة الإنتاج، الشغل المحترف. فمن بين ندرة من مبدعينا يبدو ممدوح عدوان، كما كان هاني الراهب، شغيلا محترفا بامتياز ، وأغلبنا، سواء تعلل بالتفرغ أم بالإلهام، ينقصه ذلك الشرط الأساسي للإنتاج: الاحتراف، وتعتوره العلة والتعلة الكبريان: الكتابة كهواية في أوقات الفراغ وحسب.

ممدوح عدوان شاعرا

منذ (الظل الأخضر) يرمي ممدوح عدوان باختياراته الأساسية في الشعر، وإن يكون بالطبع قد عدل فيها أو حذف منها أو أضاف إليها من ديوان: لي ديوان، وبخاصة في العقد الماضي. ففي (الظل الأخضر) حدد الشاعر انتسابه إلي الحساسية الشعرية التي جاء به جيله، جيل الستينيات من القرن الماضي، جيل محمود درويش وأمل دنقل وعز الدين المناصرة وفايز خضور وسواهم. ولئن كانت السنون قد رمت حساسية ذلك الجيل في دروب شتي، تتنوع وتتنافر وتتقاطع، فقد ظل ممدوح عدوان مخلصا للتفعلية، وللإيقاع، فلم تأخذ قصيدة النثر مأخذها إلا في شهوره الأخيرة ولم تأخذه مأخذها أيضا الصوفية أو السيريالية أو الغموض أو تفجير اللغة وسوي ذلك مما خاض فيه آخرون من جيله وممن تلا، مما وسم التجربة الحداثية الشعرية العربية، وعقد أمرها أيضا خلال العقدين الماضيين. لكأن قصيدة ممدوح عدوان مع قلة، ظلت تشايع قصيدة الرواد من بدر شاكر السياب إلي أحمد عبدالمعطي حجازي وصلاح عبدالصبور وفدوي طوقان وعبدالوهاب البياتي ومحمد الفيتوري ، مع الابتعاد منذ البداية عما اختط أدونيس والماغوط من بين أولاء الرواد.

بالاحري، لم يبد أن ممدوح عدوان يهجس باختراق تجربة الرواد، ولا بالتجريبية التي اندفقت في التجربة الحداثية عبر العقود التالية، وهي تتقصي حداثات وتجريبيات شتي من الشعر الغربي بخاصة. وربما كان ذلك جراء اشتغال ممدوح عدوان في حقول إبداعية، سردية ، بقدر ماكان جراء انعقاد شعره علي الشأن العام. ولعل ذلك أيضا ماحمي تجربة عدوان الشعرية من مأزق الحداثة الشعرية، وأكبرها مأزق التتقين. يذكر إخلاص شعر ممدوح عدوان للموسيقي عبر التفعلية والإيقاع، يقول أفلاطون: 'أظن أنك تعرف المظهر الحقير الذي يظهر به الشعر إذا تجرد عن صبغته الموسيقية'. والحق أن شأن قصيدة ممدوح عدوان، كشأن الصورة فيما قال هوراس في (فن الشعر): 'واحدة تعجبك لو وقفت بالقرب منها، وأخري تأخذك لو وقفت بعيدا عنها. هذه تحب أن تري في زاوية معتمة، وهذه تؤثر أن تري في الضوء، لأنها لاتخشي تفحص الناقد، وهذه أرضت الناس مرة واحدة، وهذه ترضيهم كل مرة'.

وبتفصيل أكبر تتميز قصيدة ممدوح عدوان بامتصاصها لليومي. مما يقود إلي التفاصيلي في الحدث­ وللشاعر ديوان: لابد من التفاصيل .1979 واليومي كما ذهب بودليز: تجريد، فاللغة الشعرية تلاحق التحول ضمن اليومي. وسواء أتأسس ذلك في مفهوم إبليوت للغة الشعرية­ وممدوح عدوان وثيق الصلة بالثقافة الإنكليزية­ أم تأسس بلغة شعر صلاح عبدالصبور­ من بين الرواد­ فقد كان امتصاص اليومي في شعر ممدوح عدوان وامثاله تحديا كبيرا إزاء تفاقم جنوح الشعري الحداثي العربي نحو اللغة النبوية والغنوصية. وربما يسر امتصاص اليومي في شعر ممدوح عدوان أن يلاعب المشهدية كما يلاعب السيرية، وأن يلاعب المطولة كما يلاعب التوقيعة، وأن يلاعب السردية بخاصة عبر ذلك كله. والملاعبة الأخيرة تفتح القول علي مالعله أهم علامات التجربة الشعرية العربية في العقدين الاخيرين، في غمرة التأزم وفي غمرة محاولة الخروج من التأزم، مما سميته منذ سنين بسردية الشعر مقابل العلة الكبري للرواية والقصة: شعرية السرد، كما صنعها الخلط بين وهم الشعري نسبة إلي الشعر، وبين الشعري بمعني أدبية الأدب (روائية الرواية­ مثلا..).

لقد ترجم ممدوح عدوان لميروسلاف هولوب، العالم والشاعر التشيكي التجريبي، ماكتب تحت عنوان (الشعر والعلم: علم الشعر وشعر العلم)، وكان هولوب يريد أن يقرأ الناس قصيدته كأنهم يقرأون الصحف، أو يذهبون لحضور مباريات كرة القدم. فهل كان ممدوح عدوان يستبطن ذلك لقصيدته هو؟ في ديوانه الأول تأتي هذه العلامة السردية : (الحكاية) من قصيدة الراعي الكذاب: عندما تنتحب الوديان في ليل الشتاء/ 'كان.. ياما كان..'/ يطوي الموقدج المقرور أسوار الحكاية./ ومن قصيدة الطاووس تأتي هذه العلامة السردية : (التناص وتهجين اللغة): وشختج ولم أجاوز بعد عشريني/ خسرت ودون أن ألعب / 'ونار' مصيبتي بالجسم لدعتْ/ ولو يشفي بكاي الحزن لدعيتْ/ الإنس والجن يتباكو سوا'/ هاتان العلامتان السرديتان ستواليان اشتغالهما في شعر ممدوح عدوان، كما سيوالي الجذر التراثي العربي الإسلامي . ففي ديوانه الثاني (تلويحة الأيدي المتعبة­ 1970)، وعلي وقع هزيمة 1967، تترامي أصداء حروب الردة وعلي بن أبي طالب والزبير، وتتقدس أمثولة البطل الضحية أو أمثولة العذرية (قصيدة: واتكأ علي رمحه­ قصيدة: سفر الدم والميلاد..) مقابل انهزامية الآخرين وخيانتهم، وهو ما سيلفع شخصية الفدائي (قصيدة :اسكتشات عربية ) شأن أغلب شعر تلك الفترة. وإزاء هذا الفهم السكوني للتاريخ يأتي الحفر المعمق في الناس والتاريخ (قصيدتا: يوميات الخطيئة­ سقطة وحشي).

من بعد ، وبفعل الزمن والعمل، ستتعمق خمرة ممدوح عدوان، وهي تستثمر أي عنصر في القصيدة، فمن استثمار نمط الإسكتش أو الرسالة في الديوان السابق (رسالة إلي أسماء بنت أبي بكر إلي استثمار السيري في قصيدة (محاولات للاقتراب من الطفولة) من ديوان (وهذا أنا أيضا­ 1982) أو في قصيدة قيرون: مكان في الذاكرة­1996 (مقطع الخيبة أو مقطع المعاصي، مثلا)... إلي استثمار أكثر الأدوات استعصاء علي الشعري، أغني أدوات التوكيد التي تتخلي عن نثريتها وصرامتها إذ يلاعبها الشاعر ومنها (إن) في قوله: إنني أختصر الآن سمائي بين نجمتين/ إن موتي يسترد الصوت للأرض ثم إلي استثمار الأسطورة، كما في قصيدة (هواجس الحوت الصحراوي) حيث يغدو في لعبة الشعر الحوت حوت الرمال وحوت المنافي ويغدو النبي يونس هذا الزمان.. ويلفت في السنوات الأخيرة اشتغال الطبيعة في شعر ممدوح عدوان متمفصلة مع لحظات التأمل، وفيما جعل القصيدة الطويلة تتقطع غالبا إلي توقيعات كما في قصيدة (الحصي) أو في مقاطع الساقية­ الريح من (قصيدة قيرون) وقيرون هي قرية الشاعر التي طوت جسده في نهاية نزاله الاستثنائي للسرطان.

ممدوح عدوان مسرحيا

وكالشعر هو المسرح: أقنوم أول في إبداع ممدوح عدوان. وربما كان ذلك ما جاء بمسرحيته الأولي (المخاض) شعرا، أو ما جعله يعجل إلي ترجمة كتاب رونالد بيكوك: (الشاعر في المسرح). وإذ كان مجايلو الشاعر ممن كتبوا في المسرح الشعري (علي كنعان­ علي عقلة عرسان) قد تنكبوا هذا السبيل وسبيل المسرح بعامة، فقد واصل ممدوح عدوان مشواره المسرحي، من الباب الخلفي للمسرح، من هموم الغرض ومن الحاجة إلي الفرجة، كما يليق بالكتابة المسرحية علي قول علي الراعي، وكما لاتفعل أغلب كتابتنا المسرحية، حيث تغلب الأدبية والمقروئية علي مقتضيات الفن المسرحي. وكما في شعره، حاول مسرح ممدوح عدوان الحفر في التراث العربي الاسلامي، مضيفا الحفر في التراث العالمي، والعين تتطلع إلي اللحظتين التاليتين في التاريخ: الحاضر والمستقبل، كما ستفعل في الشطر الآخر من مسرح عدوان، حيث الحفر في الحاضر.

فهذا هو الحطيئة ووحشي يحفران من جديد مع بلال والزبرقان وأبي سفيان وسواهم في مسرحية (ليل العبيد)، كما سبقهم وكما سيلحق بهم آخرون من هملت (مسرحية هملت يستيقظ أخيرا) إلي جمال باشا السفاح (مسرحية سفر برلك). وإزاء ذلك هذه هي الملكة والمحافظ والعسكري والجهارة وأولوية الكرامة والنظافة ورفض الروح التجارية في مسرحية (زيارة الملكة)، وهذا هو السجن كما في يومنا أو في غدنا المنظور، مما رسمت مسرحية (الوحوش لاتغني) والتي استثمر فيها ممدوح عدوان ما ندر في مسرحه وتواتر في مسرح سواه سعد الله ونوس بخاصة وأعني الراوي الذي يفتتح المسرحية مخاطبا للجمهور، ثم يوالي التعليق من زاويته القصية علي المنصة، كما أعني اختتام المسرحية بالأسلوبية اللغوية التراثية عبر المقتطف الذي يردده الممثلون من قول ابن معصوم المدني في تقديم كتابه (سلوة الغريب وأسوة الأديب)، ومنه: هذا زمان ليس فيه سوي النذالة والجهالة/ لم يرق فيه مساعد إلا وسلمه النذالة.

ومما يلفت في التجربة المسرحية لممدوح عدوان عنايته بالمونودراما التي كتب فيها (الذباب القيامة أكلة لحوم البشر) وإيثاره للقصر في الحوار، بما يعني ذلك من التركيز والحيوية والحلول الحركية لوطأة السرد. من ناحية أخري نجد فيما ترجم ممدوح عدوان ما يعبر عن همومه المسرحية، سواء في ذلك النصوص المسرحية (عاصفة لإيميه سيزار ساعي البريد لانطونيو سكارمينا المهابهارتا لبيتربروك)، أو البحوث والدراسات، ومنها ما كان لغرض تعليمي، فإلي (الشاعر في المسرح) ثمة أيضا (الكوميديا الإيطالية) لبير لوي دوشاتر (بالاشتراك مع علي كنعان) و(تاريخ التمثيل) لتوبي كول وهيلين كريش شينوي و(حول الإخراج المسرحي) لهارولد كليرمان.

لقد كان الحفر في الحاضر من أجل المستقبل هاجس ممدوح عدوان في مسرحه كما في شعره ومقالاته وروايته، والنقدية هي العلامة الفارقة لذلك الحفر، حيث تبرز الحرب والمؤسسة العسكرية والصراع العربي الإسرائيلي والاستبداد... وهذه العنوانات تطغي علي الذاتي في البدايات، حيث تنتأ أيضا الفردانية والخطابية مما طبع ديوان: (يألفونك فانفر) بقدر ما ستقلص وتختفي هذه النتوءات عقدا بعد عقد في انتاج ممدوح عدوان، وبقدر ما ستحضر الذات والبعد الإنساني ويشفان.

ممدوح عدوان روائيا

أما في الراوية، فبعد ثلاثين سنة من (الأبتر) التي تترجح بين القصة الطويلة والرواية القصيرة، جاءت رواية (أعدائي) لتعلن ممدوح عدوان روائيا بامتياز. لقد رجعت رواية (الأبتر) الصوت التقليدي في الرواية العربية قبل ثلاثة عقود، ليس فقط في هينة الراوي العليم، و في هيمنة ألفاظ التوكيد (إن: ص 12 14 15 مثلا) كفواتح سردية، بل في ملاعبة الفعل الروائي الحاسم: التذكر. ولكن ذلك لايغيب مسرحة الحوار، ولا التهجين بالعامي في الحوار والمونولوجات التي ستؤطرها الأقواس، وكل ذلك ستمضي به بعيدا رواية (أعدائي) التي ستواجه تحديات شتي: التاريخ والوثيقة والبوليسية والتناص وتناظر الشخصية وكون الروائي شاعرا وكاتبا تليفزيونيا. وستدفع رواية (أعدائي) بأسئلة الصراع العربي الإسرائيلي بعيدا من بداية القرن العشرين إلي نهايته، حيث يصخب السلام بالاستسلام. وإلي ذلك يتبقي إلي ما ترجم ممدوح عدوان من روايات هرمان هيسة وجورج آمادو أو من سيرتي جورج أوروبل ونيكوس كازنتزاكيس وروايات آخرين.

لاتنحد خصوبة وتنوع إنتاج ممدوح عدوان بما تقدم في الشعر والمسرح والرواية، فما قدم في الكتابة التليفزيونية تأليفا أو إعدادا عن نصوص لسواه، يستدعي قولا خاصا. وما قدم في المعارك الثقافية وفي سواها من المقالة، يستدعي قولا خاصا، عدا عما قدم في الترجمة، سوي ماسبق ذكره، ومنه (التعذيب عبر العصور) لهروود، و(صلاح الدين وعصره) لسنيوباي، و(تاريخ الشيطان) لويليام رودز و(تلفيق تاريخ اسرائيل التوارتية وطمس التاريخ الفلسطيني) لكيث وايتلام، أما غرة ذلك فهي ترجمة (الإلياذة) لهروميروس، ومشروعه لترجمة (الأوديسة) في غمرة منازلته للسرطان. في هذه الغمرة من الانتاج، كما فيما أحسب من عيش المواطن والمثقف ممدوح عدوان، علي المرء أن يفكر بجدية وعمق بالغين في قضايا عديدة، منها المكر والتعقيد، ومنها إشكالية السياسة والثقافة أو إشكالية السياسي والمثقف، ومنها النقدية والاحتراف، وكل ذلك في حدود ما استطعت معرفته من انتاج ممدوح عدوان ومن أمره، وهو ما ينقصه الكثير بعد كل ما تقدم. وحسبي هنا أن أشير إلي كتابه (دفاعا عن الجنون) وإلي كتابه (حيونة الانسان) والذي صدر في السنة الأولي من منازلة ممدوح عدوان للسرطان (2002). وعلي أية حال لم أبتغ في كل ما تقدم الإحاطة، بل الإضاءة. أما ممدوح عدوان فله هذه الهمسة مما قاله عبدالرحمن لفاطمة في نهاية مسرحية (زيارة الملكة): 'مهما عاملوني هنا علي أنني صغير، أحس أنني أكبر منهم جميعا. وبفضل من يحبونني أصبح أكبر.