محمود مختار.. أول من استلم إزميل النحت من الفنان الفرعوني

ياسر سلطان

يعد المثّال المصري محمود مختار واحدا من الرعيل الأول من الفنانين المصريين الذين حملوا على عاتقهم بدايات الحركة التشكيلية المصرية خلال القرن الماضي، وهذا العام يكون قد مر خمسة وسبعون عاما على وفاة هذا المثّال الكبير صاحب التمثال الميداني الشهير “نهضة مصر” الذي يستقبل القادمين إلى جامعة القاهرة، ولم يستمد مختار مكانته الراسخة في وجدان الحركة التشكيلية المصرية الحديثة كأحد النحاتين العظام في تاريخها الطويل الذي يمتد إلى بدايات القرن الماضي لكونه فقط أحد هؤلاء الأوائل الذين التحقوا بمدرسة الفنون الجميلة في بداية إنشائها عام 1908 أو حتى كونه هو أول من إستلم إزميل النحت من أول نحات فرعوني.. لا، لم يكن كل هذا ليصنع له هذه المكانة المتميزة في تاريخ النحت دون إستناده إلى موهبة أصيلة وذكاء فني فذ جعله جديرا بهذه المكانة الرفيعة.

فلقد ولد مختار عام 1891 ببلدة طنبارة إحدى قرى الدلتا المصرية ثم رحل إلى القاهرة مع أسرته عام 1902 حيث عاش ونشأ داخل أحياء القاهرة القديمة، ليلتحق في شبابه البكر بمدرسة الفنون الجميلة ويسافر في بعثة إلى فرنسا لدراسة الفن عام 1911.

ولابد أن كل هذه التحولات قد أحدثت أثرا إيجابيا في تكوينه، فمعايشته منذ الطفولة لبيئات وفئات مختلفة في قريته في قلب الريف المصري، ثم انتقاله إلى أحد الأحياء الشعبية بالقاهرة وسفره إلى باريس لابد أن يكون قد شحذ المؤشر البصري لديه لملاحظة التغيرات والتحولات التي تطرأ على الملامح والسلوك والملبس من بيئة إلى أخرى. ولكن على ما يبدو فإن فترة النشأة الأولى في الريف كان لها النصيب الأكبر في تكوين الذاكرة البصرية لهذا الفنان فهي المرحلة التي أمسك فيها لأول مرة بقطعة الطين المترسب على شاطىء الترعة في قريته محاولا تحويلها إلى مجسم – كما ذكر هو بعد ذلك – ولابد أن هذا المجسم أو المنحوتة الأولى لم تخرج عن إطار المفردات المحيطة به آنذاك.. هذه المفردات التي استمرت قابعة في ذاكرته بعد ذلك، وشكل بها عالمه الخاص الذي تميز به ومثل القسم الأكبر من أعماله الفنية، لقد كان الريف هو العنصر الأصيل الذي إختاره مختار في بحثه عن الخصوصية المصرية في فن النحت.. ولقد امتزج هذا التوجه مع استكشافه لجماليات الفن الفرعوني القديم وتأمله الدؤوب لأعمال أسلافه العظام على ضفاف النيل ليشكل هذا كله المعالم الرئيسية لأعماله المنحوتة التي مزجت بين الخطوط الإنسيابية الرشيقة للفلاحة المصرية والكتلة القوية الراسخة المتحدية للزمن في المنحوتات الفرعونية.

لقد استطاع مختار بحق أن يربط بين التاريخ الطويل والعريق للنحت المصري بسماته المميزة والاتجاهات المعاصرة في الفن بعد طول انقطاع دام عدة قرون ليستنطق مرة أخرى هذه الأحجار التي تجود بها أرض مصر من جرانيت ورخام وبازلت، كي يكشف المخبوء بداخلها من أشكال ومنحوتات ملأ بها الدنيا واستحق عنها الريادة في مجاله عن جدارة رغم عمره الفني القصير.

لقد أثرت نشأة مختار على أعماله ذات المفردات والإشارات الريفية من حاملات الجرار إلى شيخ البلد، وحارس الحقول، وعلى شاطىء الترعة وغيرها من المنحوتات التي كانت فيها الفلاحة المصرية بزيها التقليدي مصدر إلهامه وموضوعا شائقا للكثير من أعماله الخالدة كما صبغته هذه النشأة بصبغة شرقية خالصة وإنتماء لا يتزعزع لبيئته ومجتمعه لينعكس هذا الأمر على كل قطعة من أعماله التي أنجزها كما نرى في تمثال نهضة مصر وتمثالي سعد زغلول بالقاهرة والإسكندرية، وكانت هذه الفلاحة الرشيقة الواقفة في شموخ أو منحنية بجرتها إلى النهر تتزود بمائه الصافي، كانت تلك الفلاحة لا تمثل لديه هذه الصورة التقليدية المباشرة إذ أن مختار قد جردها من اللحظة العابرة من الزمان والمكان وتوحدت صورتها مع إيزيس ونفرتيتي وكليوباترا وكل رموز التاريخ القديم حتى صارت هذه المرأة تمثل مصر بكل كبريائها وشموخها، وجرة الماء.. هذه التي تحملها فوق رأسها هي الخير والنماء والعطاء المستمر.

لقد كان مختار مصريا وعربيا حتى النخاع رغم دراسته الأكاديمية في فرنسا واحتكاكه بالحركات الفنية الحديثة النابعة من قيم الفن الروماني والأغريقي وقد أسس مختار لنفسه أسلوبا فريدا استحق إحترام المتخصصين منهم وغير المتخصصين، أسلوبا ينتمي إلى حضارات الشرق القديم، وروحه مشيدة على دعائم الفن الفرعوني مضيفا إليه ومجددا ومتواصلا معه في نفس الوقت.

قال عنه الناقد الفرنسي لويس فوكسيل: “إن هذا المثّال الشاب هو رجل العصر الحاضر الذي يروض الحياة المحيطة به ويختزلها في أشكال محددة محصورة، ولما لا وهو ينتسب إلى أقوى الأصول وينحدر من قومية صحيحة ناصعة”. ومختار جدير بهذا الصرح الفني الكبير الذي أقيم له في ستينات القرن الماضي على شاطىء النيل كمتحف لأعماله، وسيبقى ذلك العمل الرائع “نهضة مصر” هذا الذي يطل على النيل مستقبلا بوجهه العابرين جيلا بعد جيل.. هذا الذي شيد بعرق وكفاح البسطاء، سوف يظل دائما رمزا للكفاح والصمود وباعثا على الأمل الذي يبدو كضوء خافت بين طبقات الظلام وغيوم المحن.