قراءة فى رواية " أنت وحدك السماء " للكاتبة هيام صالح

بقلم/ محمود عرفات

" أنت وحدك السماء .. لا يُظلِّلُنى إلا أنت " . هكذا اكتمل العنوان فى ذهنى قبل أن أبدأ ، لقد تم ذلك بشكل تلقائى ، وبعد انتهائى من القراءة لم أجد فى نفسى الحاجة إلى تعديله . للوهلة الأولى تبدو هيام صالح منحازة إلى عالم النساء والأنوثة ، لكنها ليست كذلك ، لقد حاولت أن تعبر بشجاعة عن أحاسيس الأنثى ونظرة المجتمع لها فى أطوارها المختلفة ، سواء كانت بنتا أو امرأة متزوجة أو مطلقة أو مهجورة أو باحثة عن الاكتمال . وأظن أنها نجحت فى ذلك . استعانت هيام بنصوص لأمل دنقل وفاروق جويدة وعفيفى مطر وابراهيم الكونى وغيرهم من كبار المبدعين القدماء والمحدثين ، لقد استثمرت بلاغة هؤلاء المبدعين الكبار فى تكثيف رؤيتها والتعبير عن المواقف التى صورتها فى إبداعها. كما استخدمت الأساطير والرموز الشعبية للتعبير عن ملامح الشخصيات التى رسمتها ، مثل أسطورة جنيات البحر ، والغراب ، وظهور أشباح القتلى فى الحوادث ، كما استخدمت الجبل استخداما جيدا ، فصورت حكاياته وظله للتعبير عن قسوة الواقع وغرابة تصاريف القدر . كما استخدمت فكرة إقامة شخوص موازية لشخوص الرواية توضح وتفسر وتكبح وتلوم وتحفز ، وجعلت هذه الشخوص الموازية تتكلم مفسرة وساخرة وتبدو أحيانا كأنها الصدى ، أو كوخزات الضمير المتوفز فى أحيان أخرى : كانت تقف عارية ورجل فى مواجهتها عارى الصدر .. و .. ( يا عارك يا منصور !! ) ص21 تبكى عمتى رجلها الطاهر الذى كان يصادق الأكابر ( الله لا يرحمه سرقنا لعنة الله عليه حتى نومى وأحلامى يسرقها منى .. سرقنا وهى حى ويسرق منا أحلامنا ونومنا الهادئ بعد وفاته ) ص 46 جسدك العفى أصابه الوهن ( فيمَ أبليته ؟ ) ص 66 كلنا غرباء يا منصور ( طوبى للغرباء ) ص 74 انتو سمتونى منصور ليه يا مى ؟! ( يام كل هذه الهزائم وسميتونى منصور!) ص155 أجلس لأشدهما لحضنى بقوة ( لا أعلم أننى أحبكما كل هذا الحب .. أموت والله لو فقدتكما ) ص 157 أظن أن الفصل رقم 33 من ص 84 إلى ص 88 يمثل ذروة التعبير فى الرواية حيث تسامت اللغة إلى آفاق عالية من الدقة والشاعرية والتكثيف . "دائما لا أجيد الجمع وكثيرا ما يطرح منى وفى النهاية أرضخ للقسمة " ص84 رصدت هيام هموم بيئتها ومشاكلها ، وحاولت أن تحيط بكل مظاهر الخلل الذى يكتنفها وأشهد أنها استطاعت أن تعبر عنها ببراعة : • سرقة الآثار والاتجار بها . منصور وعمته . • القتل دفاعا عن الشرف دون تمحيص وتأكد ، منصور وتفكيره فى قتل أخته طاهرة لأنه تصور أنها تخون زوجها ، كما فكر فى قتل أخته الأخرى . • الشعر يتبدد أمام سطوة المال . ضاعت شاعرية منصور أمام إغراءات نهب الآثار. • ممارسات الشرطة فى مواجهة المشتبه فيهم . • الفراغ الذى يدفع البنت أمل لمعاكسة الرجال هاتفيا ، كما أنها تحب زميلها لكن التقاليد تمنعها من التعبير عن حبها والبوح به . • سفر الزوج خارج البلاد بحثا عن المال ، وترك الزوجه نهبا للجوع بمعانيه المختلفة . • التركيبة النفسية للمرأة فى الجنوب وما تعانيه من قيود اجتماعية صارمة : " أخرج !!! البنت فى قريتنا لا تخرج إلا لمدرسة أو لطبيب حين يشتد بها المرض أو لعزاء أو لعيادة مريض .. برفقة جيش من الرفيقات وبعد إذن وتوسلات . لا نزهة أو زيارة لصديقة أو قريبة . يوم واحد يمكن أن تخرجه دون إذن .. يوم وفاتها . غير مسموح لها بالحديث مع شاب قريب أو جار إلا وألف أذن تنصت وألف فم يسكتها" ص 105- 106 . لقد تحدثت هيام عن الجبل على مستويين : المستوى الأول باعتباره شكلا من أشكال الطبيعة المتجهمة التى لا تعد بالكثير من الخير، والمستوى الثانى باعتباره رمزا للواقع الذى يسود فى الجنوب والذى يعوق حركة النمو الاجتماعى وخاصة بالنسبة للمرأة : " الجبل يضيق الحصار علينا .. لا مهرب .. لا مفر .. الجبل يجثم على صدورنا يا خالد .. يرقد ليلا كجثة مارد ضخم يرمقنا بنظراته المخيفة ندخل الدور ويغلقون علينا الأبواب .. من تتمرد ( انظرن للجبل مخيف ويخرج منه عفريت يلتهم البنات اللاتى يلعبن أو يجلسن خارج الدور ليلا ) نصرخ فارين للدار .. فى النهار يعكس صهده يبعثره علينا نارا تلسعنا وتلفح وجوهنا . أو يبعث ريحه المحملة بالرمال تصفع وجوهنا وطعامنا وفرشنا. يخفى كنوزه ويشهر ذئابه ومطاريده وعقاربه .. لماذا يجلونه كل هذا الإجلال ويقدسونه هكذا قداسة ويحيطونه بهالة من الخوف والحكايات والأساطير ويعلمون أنه كائن بلا قلب يكسر ظهور الرجال ويقتل الحياة فيهم يجعلهم يعيشون أحياء أموات .. لو يملك الجبل فما لوشى بنا جميعا وفضحنا " ص 116-117 • معضلة الكيل بمكيالين ( الازدواجية) فمنصور يحب شمس ويحاول أن ينالها ولا يعتبر ذلك عيبا ، لكنه فى ذات الوقت يعتبر وقوع أخته فى الحب خطيئة " كل امرأة دون رجل هى خاطئة أو فى طريقها للخطيئة " ص 43 • الرجل ( جابر ) الذى هجر الزوجة ( طاهرة ) وسافر ورفض العودة ورفض تطليقها حسب طلب شقيقها منصور ، دون أن يقيم وزنا لاحتياجها لرجل ، بل إنه يطلب قتلها إن أخطأت ، وعندما عاد امتدت جبال الثلج بينهما فأصابهما العجز . • الوصف الدقيق والمؤثر لأحاسيس طاهرة ، تلك المرأة المهجورة التى تشتاق لرجلها. إن الشخوص الموازية لم تكن عبئا على النص ، بل إنها ساهمت فى رسم خلفية المشهد الروائى الذى كاد ينتهى بمأساة ، لقد استطاعت الكاتبة أن تضبط التصاعد الدرامى للرواية ، واختارت ألا تكتمل المأساة ، حيث كانت الأحداث تتطور فى اتجاه أن بقتل منصور شقيقته ، لكن الكاتبة توقفت عند حافة الهاوية دون أن تدفع أبطالها للسقوط فيها ، حيث فضلت الانحياز لعلاقة متوازنة وعادلة بين الرجل والمرأة دون تسلط طرف على الآخر . لقد استمتعت بهذا العمل الإبداعى الذى تنوعت فيه فنون السرد ، وتجاورت أدوات الحكى ، وحملت سطوره لغة تفيض بها روحٌ شاعرة ، مما يجعلنى أقول باطمئنان أنها رواية تمثل أنشودةً للبحث عن الكمال والاكتمال .

كفر الزيات فى 5 مايو 2008