حمدي ابو جليل :لا اعتبر نفسي كاتبا ولكني امارس لعبة اسمها الكتابة

حوار ياسر عبد الحافظ أخبار الأدب 

لا تشغلني القوالب ولكن مصائر شخصياتي جيل الستينات منحني الجرأة علي الكتابة السخرية هي المسافة الاستراتيجية التي تسمح برؤية موضوعية للعالم البدوي المصري يريد فروسية الصحراء وطراوة المدينة لم اخرج من ذاتي ولكني وسعتها قليلا 

أنجز حمدى أبو جليل فى "لصوص متقاعدون" روايته الأولى شرطًا هامًا غلف به عمله. كتابة ممتعة أولا تأخذك إلى العالم الذى تحكى عنه وهو، مجتمع خليط بين الفنان واللص والمجنون والذى يحيا بين هذا وذاك، مجتمع فى اعتقادى - نعرفه جيدًا غير أنه فى الرواية هنا خاص جدًا بنفسه - أفراده يقيمون فى العمارة 36 لتصبح علامة مميزة فى حياة كل منهم، فهناك صراع خفى يتولد داخل "لصوص متقاعدون" بين الشخصيات التى رسمها المؤلف بحيث تظل مفتوحة على احتمالات عديدة. مثلها مثل النهاية التى - (لماذا لا تقرأون الرواية وهذا الحوار معه).

*"لصوص متقاعدون" روايتك الأولى بعد مجموعتين احتل عالم البدو فيهما مساحة وسعة هذه الرواية تضم أيضاً عالم البدو ولكنه يبدو هامشيًا بجانب العالم القاهرى، دعنى أسألك ، هل توارى عالم البدو هنا لتزايد خبرتك بالكتابة أم تزايد خبرتك بالقاهرة؟ - توارى لتزايد خبرتى بالبدو، ما أسميته أنت مهمش هو كذلك على المستوى الفعلى لأن حياة الإنسان البدوى القديمة بمعنى صرحائه وتقاليده انطوت داخله. الإنسان القديم كان يتعامل بهذا المنطق، إنما فى المدينة - وحتى على حوافها أو فى نجع من نجوعها - فقد توسعت على هذا البدوى، فكان عليه أن يطوى هذا العالم بداخله أو بمعنى أدق يخلص الازدواج وليس بالمعنى السيئ للازدواج وإنما بمعنى أقرب للتعويذة التى بدونها لا يستطيع العيش. لأنه من خلال هذا الازدواج يستطيع أن يخلص بينه وبين نفسه لأصوله ويتجول داخل صحرائه دون أن تشعر تلك المدينة بهذا البداوة، هذا بالإضافة إلى أن البدو المصريين يختلفون عن أى بدو فى العالم لأن مصر ليس بها الصحراء بالمعنى النقى للصحراء فالنيل جعل كل الصحارى بجواره على شاكلته بمعنى ما. وبالتالى فإن الإنسان البدوى المصرى يريد أن يتباهى بفروسية الصحراء. وفى نفس الوقت يجاهد للفوز بطراوة المدينة، بمعنى أنه ليس الإنسان المتوحد مع صحرائه والذى يعتبر أن مجرد النزول منها إلى طراوة الواحة نوعًا من العار، ذلك الإنسان الذى ظهر بجلاء فى أعمال إبراهيم الكونى مثلا. فى مجموعتى الأولى هناك ولع غير واع بالفلكلور، بما حدث ، وبما كان الدافع له هو الرغبة فى نوع من المباهاة، كانت فرصتى الوحيدة فى الإعلان عن أنى بدوى، وأن هؤلاء الناس متميزون عن البشر، ورغم أن هذا أشبعنى على المستوى القبلى أو سمح للصحراء المنطوية داخلى بالخروج قليلا إلى العالم إلا أنه أعمانى بما يعنيه اللفظ عن رؤية المأزق الوجودى كإنسان له جذور صحراوية. *روايتك هذه تضم عالمًا يضج بالقسوة وهى بشكل ما مرآة لما يحدث فى المجتمع الآن، هذه السمة التى كانت مفضلة عند كتاب جيل الستينيات وبشكل عام سمة الكتابة الواقيعة والتى هى أبعد ما تكون عن خصائص جيل التسعينات التى ظهرت فى الكتابات السابقة حيث كان الاهتمام بالذات ورؤية غير المؤثر فى حركة الحياة.. هل كانت لديك قناعات للكتابة تخليت عنها لصالح قناعات أخرى فى هذه الرواية. - هذا سؤال صعب لأن الواحد حسبما أعرف لا يضغ والأدق لا يستطيع وهو يكتب وضع قوالب ما أو شكلا للكتابة يصب من خلاله تجربته وهذا ليس معناه أنه مغيب لكنه لا تشغله القوالب قدر ما يشغله فهم تجربته أو شخصياته بغض النظر عن كيف سيكتبها: تقليدية أو واقعية، تخالف كتابات جديدة أو تتفق مع كتابات قديمة هذا الترف ليته يكون متاحًا، ذلك أنك تشعر دائمًا فى امكانياته وقدراتك على التعبير أقل من التجربة ومن الشخصيات من هنا لا يتوافر هذا الترف. تجربة الستينيات ثرية بالفعل ، وأنا مغرم بهذا الجيل لسبب قد يبدو غير وجيه بالنسبة للبعض لكنه كذلك بالنسبة لى فتجربة هذا الجيل على المستوى الإنسانى والفنى وربما المهنى هى التى أعطتنى الجرأة لأن أكتب وأتوقع أن هناك من سيقرأ لى ، فأنا كنت أعد نفسى جيدًا لمستقبل أكون فيه مقاولا للأنفار ، وحتى بلغت العشرين من عمرى لم أكفر فى موضوع الكتابة، وبالصدفة قرأت رواية "البؤساء" فأعجبنى الموضوع، ولا أدرى إن كان لائقًا أن أقول لك أننى لا أعتبر نفسى كاتبًا وأن المسألة نوعًا من اللعب دفعنى إلى ممارسته كُتاب جيل الستينيات والقليل من جيل السبعينيات. فى هذه الرواية أنا لم أخرج من ذاتى وإنما وسعتها قليلا، لأن ذاتك ليس معناها الانغلاق ومن هنا حاولت فى "لصوص متقاعدون" أن أفهم نفسى من خلال علاقتى بالآخرين ، فى الرواية أشخاص ليسوا بعيدين عن الواقع إنما همى ليس رصد الواقع وإنما محاولة فهمه لأن الحدث والشخصية مثلا ليس مؤثرين - من وجهة نظرى - فى أى عمل ، لكن المؤثر فى العمل محاولة فهم الشخصية والعمل ، أحياناً ما تصادر محاولة الفهم هذه على القارئ، لكن فى بعض الوقت تتملك الرغبة فى أن تقول له شيئًا بشكل مباشر تمامًا. بما للاعتقاد أنك تقول له ما لم يسمعه من قبل، هى رغبة أحاول أن ألبيها أحيانًا بغض النظر عن أية شروط فنية. * لغة الرواية تناسب شخصياتها إلى حد كبير لكن آخذ عليها استخدامها اللغة الشفاهية فى السرد وليس على لسان الشخصيات .. ألا ترى أنه كان ينبغى التدقيق فى لغة السرد من هذه الناحية؟ - أمنيتى التى لا أعرف إن كانت قد تحققت أم لا هى أن أكتب لغة بين الفصحى والعامية، من هناك كانت هناك جمل فيها كلمة عامية فكرت أغيرها بمرادفها الفصيح فاكتشفت أن هذا نوع من العبث ليس لأهمية ما أكتبه بالطبع، إنما لإحساسى أن هذا قد يسبب خللا ربما يفقد الجملة معناها تماماً. والحقيقة أن مشكلتى أننى دائمًا أشعر أن قاموسى اللغوى لا يستطيع التعبير عما أريد بالضبط، وهذا أشعر به أكثر فى الفصحى، حيث أجد العامية أقرب إلىّ فى الكتابة، وصدقنى لولا الحرج لكتبت هذه الرواية بالعامية، لأنك بالعامية تشعر أنك عبرت بالضبط عما تريد. *الراوى فى العمل ومنذ البداية يختفى فى "شقته" وتبدو تداخلاته مع شخصياتالعمل محسوبة بمهارة لكنه مع ذلك يبدو عليمًا بكل ما يدور حوله .. لكنه فجأة تخلى عن غموضه فى فصل يحكى فيه علاقته الزوجية الفاشلة ثم وهو يخون زوجته .. من قرأ الرواية لم يفهم سر التردد بين الراوى العليم .. والراوى للتورط .. ماذا كان هدفك؟ - الواحد يكتب العمل ثم يفاجأ بأسئلة حينما يفكر فيها يعشر أنه جاهل بالفعل، هذا سؤال أربكنى لكنى فى محاولة الإثبات أننى كاتب له وجهة نظر فيما يكتب وفيما يكتبه الآخرون سأعلن أن المناطق التى ظهر فيها ما أسميته بالراوى العليم فى المناطق اللصيقة بالراوى، تجربته التى لا يعرفها سواء ممارسته للعادة السرية، التلصص، حرصه فى نصب الشرك لذنوبه والحقيقة أن مشكلة الراوى العليم أسمعها عادة من النقاد الجهابذة ولا أفهم معناها، كيف يكون الواحد غير عليم بما يكتبه، بالشخصيات التى يحكى عنها، منا لمفترض أنه يكتب علمه أو فهمه، فهو إذن عليم بتجربة هؤلاء الناس على الأقل بالنسبة له أما الاستناد على لعب شكلية لإخفاء دور الراوى.. لإخفاء علمه بتغيير الضمين أو بالرصد السطحى بغرض إخفاء معرفة الراوى . فأنا أعتبر هذا نوعًا من العبث، أو مجهود قيم جدًا لكنه مهدر فيما لا يجدى. * اختلف معك فى هذا فهناك نوعان من الكتابة الأولى يكون فيها الراوى العليم غير متداخل مع شخصياته يحكى عنها فقط والثانى الراوى المتورط الذى يتقاطع مصيره مع مصائرهم .. أنت خلطت بين هذا وذلك وهو ما أسأل عنه. - يا أخى ليت هناك راويًا عليمًا بالمعنى المطلق، فالمزعج حقًا ليس سطوته ولكن لافتقاده بمعنى عدم امتلاك التجربة، أنت تكتب العمل وتظن أنك قدمت كل شئ، وتكتشف بعد ذلك أنك لا تعرف شيئًا عن التجربة التى كتبتها.. من تحدثت عنهما كلاهما راو عليم إنما هناك من يجتهد لإخفاء هذه الصفة أو التنصل منها، والآخر لا تشغله هذه الصفة على الإطلاق وسارماجوا كان له بحث هام جدًا نشر فى "أخبار الأدب" عن الراوى العليم وهو استشهد بمدام بوفارى وقال أن الراوى ليس مدام بوفارى فقط وإنما كان الشخصيات هى الكاتب وهى الراوية، أعجبنى ذلك لأنه وفر لك وقتًا كثيرًا تهدره فى الراوى العليم وغير العليم، أنا أرى أن إخفاء معرفة الراوى بالعمل جهد قيم جدًا إنما لا أفهمه إذا كان لن يساعد على فهم التجربة. قد تكون دعوة حميدة للقارئ للمشاركة فى قراءة العمل أو تأويله لكن ما دورها فى تجويد تقنيات التعبير عن تجربة ما؟!. * هل ترى أن شخصية "جمال" فى الرواية بأبعادها الفظة تلك يمكن أن يكون كاتبًا كما وصفته بالرواية خاصة أنه لا يكتب مجرد خواطر مثلا وإنما له رؤية مثقف حول الكتابة. - أصدقاء كثيرون استكثروا على جمال أن يكون كاتبًا والبعض اعتبر أفكاره أعمق من الشخصية. والحقيقة اعتبر أفكاره أعمق من الشخصية، والحقيقة أن هناك شخصيات واقعية كثيرة أكثر عمقًا من جمال شخصيات يمكن أن تلتقيها فى البيت الذى تسكن فيه وهم متميزون بثقافة رفيعة ربما لا تسعفهم طريقة التعبير ولكنهم يفصحون أحيانًا عن أفكر فلسفية مذهلة دون غرض، المشكلة أنا لم نتعود على المثقف الذى لا يشوبه الغرض لابد أن يكون المثقف محترفًا لمهنة لها علاقة بالثقافة يكتب يخرج المسرحيات ، ينقد جمال بغض النظر عن أنه شخصية رواية يمكن أن تعتبره من أولئك ، أنا أخطأت فى الرواية فى أننى لمشاركة القارئ أو تحت وهم مشاركته فيما أكتب - لم أذكر أن جمال فشل فى دراسة الآداب اعتماداً على أن تلك المعلومات غير ضرورية بالمرة، فمن الممكن أن يكون هناك دون أن يدرس الآداب ، دون أن يتعلم أصلا، ولكن يبدو أن تلك المناطق التى تسمى خطأ بالهامشية لا يتوقع البعض أن يكون فيها إنسان يحاول التفكير فى حياته البسيطة. * أنت هنا تخلط بين المبررات فى الواقع ومبررات العمل الفنى؟ - الخلط ناتج عن السؤال .. فما هو المبرر الذى يجعل أفكار جمال لا تتناسب معه، فى النهاية العمل ناتج عن الواقع وهذا هو المبرر الأوجه للقياس على الواقع. * الحس الساخر داخل الرواية يضفى على العمل أبعاداً جديدة ربما تغيب عن الكتابات الموجودة الآن .. ما رؤيتك للكتابة الساخرة خاصة أنها فى هذا العمل أحياناً ما تكون غير مرتبطة بالشخصيات والأحداث وإنما وراءها حس الكاتب الساخر؟ - السخرية أتاحت لى الابتعاد قليلاً عن نفسى وعن الشخصيات بعنى أنها وفرت لى - كما أرجو - تلك المسافة الاستراتيجية التى تسمح برؤية الأشياء بنوع من الموضوعية والحقيقة أن الكتابة الساخرة ورغم أنها تمتعنى شخصيًا كقارئ إلا أنها لدينا تعانى من مأزق خطير، مأزق أننا نتعامل مع أصحابها أو كتابها بشكل يشبه إلى حد كبير تعاملنا مع المونولوجست الذى يأتى ليرطب الأجواء وينعش الجماهير بنكاته بعد المدربين الجادين، والمشكلة أنه قد وقع فى هذا المأزق بفضل الترويج لهذا المفهوم وسيادته وقع فيه لدى الكتاب الساخرون أنفسهم بل وصدقوه وتعاملوا مع أنفسهم على اعتبار أنهم أقل من الكتاب الذين يعتمدون على لغة جادة أو رصينة، فمثلاً أنا أرى أن المازنى لا يقل مطلقاً عن العقاد فكرًا وثقافة، ولكنه هو نفسه أحس أنه أقصر منه على المستوى الجسدى والأدبى وذلك لسبب وحيد هو أنه لديه موهبة السخرية ورضى عن ذلك تمامًا باعتباره قدرًا مكتوبًا. والحقيقة أن هلعى من هذا الموضوع هو الذى جعلني أرهق نفسى فى البحث عن مساحات تأمل داخل الرواية حتى لا تصبح المسألة نوعً من الملهاة أو المسخرة. هذا فضلا عن أن السخرية أو الضحك هو الوسيلة المتاحة لتقبل ما يحدث حولنا وينغصنا بشكل شديد الرحابة.