سيرة حياة(حياة) وسيرة مكان

بغداد وقد انتصف الليل فيها

 فى روايتها البديعة  ( بغداد وقد انتصف الليلُ فيها) التى صدرت نسختها الاولى عام 2018 ، عن دار نشر ميارة بتونس ، والطبعة الثانية عن  دار الورشة الثقافية بالعراق سنة 2021 والطبعة الثالثة ، عن  الهيئة المصرية العامة  للكتاب 2021 ، وطبعة رابعة  في تونس مرة اخرى عن " دار الكتاب " 2021   للأديبة التونسية حياة الرايس التى تتخذ من  مذكراتها / المادة الخام ، مرجع لسرد سيرتها الذاتية ، متوسلة بجنس الرواية ، فى  فترة من الزمن ؛ تعد من اخصب واهم مراحل حياتها ، وهى مرحلة التعليم الجامعى الذى شاء القدر ان تكون فى بغداد ، بلد الرافدين ، والحضارة العربقة ، وكانت الطالبة التونسية الوحيدة التى تحصل على منحة تعليمية فى اطار معاودة التبادل الثقافى بين تونس والعراق ، بعد قطيعة دبلوماسية بين بلدها تونس والعراق دامت سنوات .. وقد لعب القدر معها ادوارا كثيرة فى حياتها ، اذ يوافق والدها المحافظ والحريص على الاعراف ، والعادات والتقاليد ، والتى كانت سائدة فى اواسط العائلة ، وهى عدم تكملة البنت تعليمها الجامعى ، فيضرب الاب بتلك العادات عرض الحائط ، اذ لا يسمح لها بتكملة تعليمها وحسب بل ايضا  بالسفر  خارج البلاد .
تستعيد الكاتبة حياة الرايس سيرتها خلال فترة تلقيها تعليمها الجامعي في بغداد ، والتى واكبت حقبة تاريخية شديدة الخصوصية فى تاريخ العراق ابان حكم صدام حسين ، والحرب العراقية الايرانية فى بداية الثمانينات من القرن الماضى .
تستهل الرايس روايتها السيرية حسبما تسميها ، او تجنسها -وسوف نعود لهذا لاحقا- بمقولة تستعيرها من الكاتبة التشيلية ايزابيل الليندى :
"حياتي تتجسّد حين أرويها وذاكرتي تثبت بالكتابة، وما لا أصوغه في كلمات وأدونه على الورق، سيمحوه الزمن حتما” (الرواية، ص 2)
حيث تعبر تلك العبارة عن قناعة الرايس ، فتؤكد بتعبيرها الخاص :
 “لا أستطيع أن ادون جملة في أيّ نص إلا إذا شعرت أنّ روحي استقرت بها واتّخذتها مسكنا… لأطمئن أن القارئ يمكن أن يطيب مقامه بها. النص لا يستطيع أن يتخلص من روح صاحبه أبدا”
تهدى الكاتبة الرواية الى ذاتها التى تسللت منها ، فى عبارة بليغة تشى بأننا سنقرأ سردية نسوية على نحو ما ، ليس لانها سيرة لامرأة وحسب  ، ولكن لنص. الاهداء الاول والثانى  كما كتبتهما
 تكتب فى الاول " الى تلك المرأة التى تسللت بتواطؤ منى لتكتبنى كما تشتهى وتريد ..لان حياة واحدة لا تكفى لنعيشها كما نريد ...فليست الكتابة غير حياة ثانية تشتهى ان تكتبنا كما تريد" وفى الاهداء الاخير الذى تهديه الى والدها الذى خالف تقاليد العائلة والقبيلة وتركها لتسافر ، وما اركز عليه فى هذا الاهداء ما كتبته لنساء العيلة
" الى نساء العيلة اللاتى اودعننى حلمهن بالسفر والدراسة والمغامرة والحياة الطليقة ..التى حُرمن منها بفعل الكبت والممنوع "
وحين نترك عتبة النص تفاجئنا الكاتبة بالعنوان تتصدر به الفصل الاول ،" بغداد وقد انتصف الليل فيها " تكرره ثمانى مرات فى الفصل ، فقد اخذها سحر ووقع ونغم الجملة التى سمعتها عبر المذياع  وطربت لها  لحظة وصولها بغداد فى الليلة الفاصلة بين 6و7سبتمبر عام 1977.
عبّرت هذه الجملة عن لحظة فارقة فى حياتها ، اذ تصف تلك اللحظة بأنها تنقل حياتها من زمن الى زمن ، ومن بلد الى بلد ، اذ كانت لحظة زمكانية  - ان صح التعبير -  والمعنى المباشر  الصريح  لهذه اللحظة هى  مُّضى يوم - بنهاره وليله - واستقبال يوم  بفجرٍ جديد ، وتعبر ضمنيا عن حياة الكاتبة الى خلفت وراءها ماضى فى تونس ، ومستقبل ينتظرها فى العراق  .. ارض المتنبى ، والتوحيدى ، والجاحظ  ..بلاد شهر زاد ، وعبق ألف ليلة وليلة ، وتتوسم الرايس فى ذاتها (شهر زاد) اخرى تكمل الحكاية ..
 تواصل الكاتبة ، بغواية الجملة الطربية ( بغداد وقد انتصف الليلُ فيها) التى تنعش خيالها فتتوحد ب  ( عشتار ربة الحب والخصب )  وتحلم باقتفاء ، آثار جلجامش فى البحث عن عشبة الخلود .. وتحلم بأن تصير كاتبة تطبع كتابها الاول فى بيت الحكمة ..
تستدعى الرايس تاريخ العراق ، وميثولوجياته فى صياغة شاعرية ، لتؤكد انها تسرد رواية محملة بالتخييل ، رغم واقعية الحدث ، وهذا يحيلنا الى تجنيس تلك السردية بأنها رواية سيرية ، لانها تجمع بين السيرة الذاتية والرواية بما فيها من عناصر الرواية ، من صور وتخييل ، وهذا يسمح لى بأن أُفند تلك العناصر فى السطور اللاحقة .
تحدثنا سالفا عن عتبة النص ، وعن اقتناعنا بأنها سيرة ذاتية فى ثوب رواية ، وتؤكد الكاتبة انها سيرتها ، حيث تتولى السرد بضمير المتكلم ، وتذكر اسمها ، واسماء عائلتها واقاربها ، فذكرت اسمها فى اكثر من موضع بالرواية ..واتكائها على التخييل وجماليات الصياغة ، واستدعاء الميثولوجيات ، واستخدام الشعر ، و الفلكلور .. وما الى هذا ..يحيلنا الى تجنيس تلك السردية بأنها رواية .
تحتوى على شخوص ، وصراع ، واحداث ، وخاتمة.  جاء الصراع فى الرواية على اكثر من مستوى  - خاص وعام - فيتمثل الخاص فى صراع حياة الرايس/ الساردة البطلة ،  مع الواقع المعاش فى تونس والذى تتبدى فيه عادات شديدة التمييز  بين المرأة والرجل ، وتتمرد على هذا الواقع  الذى تزدريه ،  وفى العراق تقرر عدم الخضوع لسلطة فوقية سواء كانت ذكوريّة أو سياسيّة، فتنتصر لذاتها ، التى تسلحت بالادب والفلسفة لمواجهة الواقع الذى عايشته فى ايام مجد وتوهج حزب البعث ، ومحاولة استقطابها من قبل الشاب السورى (فارس) العضو النشط بحزب البعث ، والذى مالت اليه ، فتحدت كل هذا الاستقطاب بالحب والشعر ، هذا من ناحية ، وهناك صراعها النفسى مع طموحها وجموحها لتأكيد ذاتها التى تبغيها تقول :" كنت اريد  ان انجب ذاتى باستمرار ، كما انجب الاولاد  ...ابحث عن مشروع ابداع  يخرجنى من محدودية الوظيفة الجنسية الى افق الانسان"  
 اما الصراع العام فقد جاء ايضا على اكثر من مستوى ؛ الاول بين السلطة التى تقوم   بالالتفاف حول القضايا الكبرى (الوحدة، النهضة العلميّة، المد القومي…) وحملت في الوقت ذاته بذور الخراب (استبداد الأنظمة البوليسيّة) فكان الصراع بين السلطة والشعب الذى لا يجد احتياجاته الحياتية ، ولكنه صراع غير متكافئ القوة ، وتأتى الحرب ، ليتولد صراع بين دولتين - العراق وايران-
الشخوص .
تعج الرواية بالعديد من الشخصيات ، العامة ، بالاضافة للشخصية الرئيسية / الساردة / البطلة ، والشخصيات الثانوية التى لعبت دورا فى حياة البطلة ، وقد اتقنت الرايس رسم هذه الشخصيات وتجسيدها ، ونحتها لتصبح من لحم ودم ، وساهم  دقة الوصف والرسم ، فى جعلنا نكاد نشعر اننا قابلنا تلك الشخصيات وعايشناها ؛ فهى نماذج مالوفة ، ابرزها الام الاسطورية ( بيّة) التى شبهتها بعشتار ربة الحب والخصب والجمال، فهى التى لم تتزوج ولم تنجب ، ربت ثلاث اجيال من الابناء واغدقت عليهم حنانا فائضا ، وهى الخالة الكبرى للكاتبة ، ومن الشخصيات التى ذكرتنى بشخصية ( سى السيد) المتجبر شخصية الجد من الام (  على بن عثمان ) ، بالاضافة لوالد حياة / الراوية  الذى مثل امتدادا لهذا الجد فى صرامة تمسكه بالعادات ، وشدة تحفظه ؛ فلا يسمح لزوجته الخروج الا لأبيها ، وهى مغطاة من رأسها حتى قدميها بالزى التونسى السّفسارى .. ومن المفارقة ان يسمح لابنته/حياة ، ان تسافر بمفردها لتلقى التعليم الجامعى خارج البلاد  ، وهناك شخصية العمة دوجة التى تعاطفنا معها حين فقدت صغيرتها الوحيدة ،  ومن الشخصيات الكاريكاتيرية شيخ الكُتاب المدبّ ، وقد رسمته  ، كما يرسمه مخرجو السينما ..هذا بعضا من الشخوص فى تونس ..
اما الشخوص التى قابلتهم الرايس فى بغداد ، فهم زميلاتها فى القسم الداخلى ، تحديدا من قاسمتهن الحجرة التى اقامت بها ( نوال الفلسطينية ، صباح السورية ، نهى العلى  اللبنانية ) وكانت اقربهن اليها  صباح ، وقد قدمت من خلالهن بعض القضايا الاجتماعية ، ونفذت الى الأنثروبولوجية الكامنة وراء الفوارق الهائلة التي راحت ترصدها في مجتمعها الجامعي الضيق، بوصفه نموذجاً مصغراً للمشهد العربي ، فراحت تعقد المقارنة بين سمات المغاربة والمشارقة ، مبدية اعجابها واستحسانها بأسلوب المشارقة فى الحديث ، والتعامل ، واستخدام الكلمات المجاملة اللطيفة ، فى حين ترى ان لغة المغاربة فاقدة للحياة بفعل تجفيف منابع الرقة والخيال في التواصل بها عند أهلها بشكل عام، ما جعل وقعها يتراوح بين الحِياديّة والحِدَّة،
من خلال بعض الشخوص ، والحوار الجيد الذى اتسم ، بالعذوبة والفكاهة فى بعض الاحيان طرحت اكثر من قضية ، نرصد بعضها :
فعرضت لقضية طمس الحضارات من خلال زميلتها المسيحية ، نيڤين المصلاوية من اصل آشورى ،  حين عرفت الاخيرة  شغف  الرايس بالتاريخ وهى تتحدث عن الاثار الحضارية للعراق ، فى لقاء معا بنادى الكلية اتت نيڤين بمرجع تاريخى ( الكنائس والديارات المسيحية ) تأليف محمد سعيد الطريحى   يثبت طمس الحضارة ومئات  الكنائس والديارات المسيحية فى الكوفة ، وقد فوجئت الكاتبة بهذه المعلومات ، ويحسب لها البحث فى هذه القضية ، لتعرض موقفها منها ، فهى تقول دائما " ان الكاتب لابد ان يكون له موقف من القضايا الانسانية "
كما عرضت لقضية الأكراد والتمييز ضد الاقليات من خلال زميلها الكردى ( سرحد قادر ) الذى كان مع جماعته من الاكراد يتنحون جانبا ، بسبب الاحساس بالاقصاء والتمييز الذى يمارسه النظام ضدهم آنذاك .
ايضا عرضت الاديبة لحياة شخوص عامة كانت تعيش فى بغداد  ، لها شهرتها وتفردها فى المجال الادبى والفلسفى ، مثل الاديب والفنان التشكيلى الفلسطينى جبرا إبراهيم جبرا ، والاديب السعودى عبد الرحمن منيف ، وافردت لسيرهم صفحات ، واعطت للقارئ معلومة نادرة ، وهى اشتراك الكاتبين فى تأليف رواية بعنوان ( عالم بل خرائط) لتضفى تلك المعلومة تفردا للرواية ، كما افردت فصلا خاص بالفيلسوف الحكيم الدكتور صالح مدنى الذى يسميه تلامذته سقراط بغداد ، وقد عنّونت فصله بهذا الوسم ، لتقدم لنا (بروفايل ) لشخصية شديدة التميّز ، غزير العلم ، والذى قبض على مبادئه ولم يفرط ابدا ، رغم تضيبق الخناق عليه من قبل السلطة المستبدة .. فكان يكتب رأيه فى الصحف فى صورة تهكمية لاذعة  ، حتى كتب مقالا بعنوان (حقوق الحمير ) مقال ساخر يطالب فيه الحكومة بضمان حقوق الحمير وليس ( حقوق الانسان) ... بعدها مُنعت مقالاته تماما فى الصحف العراقية ..وتم محاصرته ، وافقاره ، ومع هذا لم يهاجر ولم يترك العراق ، حتى اضطر الى بيع بيته واثاثه وسيارته وكتبه ، لتوفير لقمة العيش لعائلته ، ومات فى عام 2007 شامخا زاهدا ، لم ينكسر ابدا ..
 ومن الشخصيات العامة التى تركت اثرا وذكرى جيدة لديها أحد أعلام الفلسفة الدكتور ياسين خليل... تقول عنه " وقد استفدنا كثيرا من مؤلفاته وابحاثه ، وكتبه حول آخر التطورات الحديثة فى علم المنطق والفلسفة المعاصرة ، وكنا نعلم انه اضاف الى المنطق الرياضى ، ( برتراند راسل),  وكنا نفخر  بذلك كون استاذنا ليس مجرد مدرس فلسفة ، وانما هو فيلسوف "
ومن الشخصيات التى اثرت فى مسيرتها المهنية ، وفتح لها اول باب للأحتراف الصحافى ، وهى مازالت طالبة ، ماجد السّامرائى الكاتب والناقد فى دار الجماهير للصحافة ، المشرف على ملحق آفاق ، الاسبوعى لجريدة الجمهورية اليومية ، كلفها فى اول مشوارها بإجراء حوارين مع الكاتبين الكبيرين  ( جبرا ابراهيم جبرا ، وعبد الرحمن منيف ) .
الاحداث
جاءت الأحداث  فى  الرواية فى مسارين متوازيين ، اذ تحكى الرايس عن حياتها السيرية من ناحية ، وعن سيرة المكان والزمان والشخوص من ناحية اخرى ، اذ جاء السرد منقسما بين الحديث عن مسيرة الساردة ، وعن شخصيات واحداث ووقائع تاريخية ، ومن هنا تحقق نوع من التعالق بين السرد الذاتى والسرد التاريخى ، داخل فضاء الرواية ، فى تمازج شكلى لا يؤثر على بناء الرواية ، التى اتخذت من آلية الاسترجاع ( الفلاش باك) ركيزة تتكئ عليها فى السرد ، ولان الاحداث  بدأت من لحظة فارقة فى حياة الساردة ، وهى على اعتاب مرحلة الشباب ، نجدها تستخدم الاسترجاع مرتين ، حين تحكى وهى فى لحظة الكتابة (2018  ) ثم حين تسترجع مرحلتى الطفولة والمراهقة ،من داخل الرواية ،  فنجد انفسنا امام ، استرجاع على استرجاع  - ان صح التعبير - كما اتسمت الاحداث بمشهدية عالية ، اذ تستخدم الكاتبة الوصف بدقة وتفصيل ، حتى ان الاحداث تتحول الى مشاهد ، وليس هذا وحسب ، ولكنها مشاهد ديناميكية ، وكأننا نشاهد فيلما من نوع افلام الحركة ( الاكشن ) وليس ادل من مشاهد الحرب ، وخاصة مشهد ضرب المفاعل النووى العراقى اثناء احدى غارات ايران، وقبلها مشاهد السمر التى تشارك فيها البطلة مع زميلات السكن ، ومشاهد   التنزه على نهر دجلة ، ويبدو ان تجربة الكاتبة فى العمل المسرحى ساعدها فى تقديم هذه المشاهد .
المكان
كان للمكان فى الرواية وجودا طاغيا ، فكما اسلفتُ ، ان السرد توزع بين تاريخ البطلة الراوية ، والمكان ، فالرواية مفعمة بالتاريخ وسيرة المكان فقد تحول فضاء بغداد عندها الى حياة ثرية ، فبين مدرجات الجامعة ، والقسم الداخلى بالوزيرية ، وحدائق كورنيش دجلة بشارع ابى نواس ، ووصفها ورصدها لأهم المدن و الامكنة ذات المرجعية التاريخية ، والحضارية  تأخذنا الرايس لنتجول معها ، لتنعش ذاكرتنا حول العراق  ، ذو الحضارة العريقة ،   فتحاول الروائية إعادة كتابة سيرة هذه البلد ،  كي تنتشلها من واقع الدمار الذي طمس حاضرها، بفعل توالي الحروب والنكبات، وتُخلّد صورتها المتوهّجة بوصفها حاضرة للعلم والمعرفة.
 كما كان  لتونس حضورا جميلا ، حين تجولنا مع الرايس فى المدينة العتيقة حيث منزلها ، ومدرستها الابتدائية ( مدرسة الحبيب ثامر ) ، ومدرستها الثانوية ، ( نهج الباشا ) ، وذهبنا معها المدينة  العصرية الحديثة ، ذات الطراز المعمارى الغربى ، والمبانى الجميلة ، والمحال الراقية ، والتى بناها الفرنسيون .
وفى كل من بغداد وتونس كان المكان يعبر عن عادات وشخوص الرواية .
الزمان
جاء الزمان على اكثر من مستوى ، اذ تبدأ الراوية من لحظة وصولها بغداد فى منتصف الليل بين  يومى السادس والسابع من شهر سبتمبر 1977، ثم تسترجع طفولتها ، وصباها .. فقد لعب الزمان فى حياتها لحظات فارقة ، تحديدا لحظة عودتها ابان الحرب الايرانية على العراق فى السنة النهائية لها بالجامعة ، وتحديها لتلك الظروف التاريخية الصعبة .
الخاتمة
 جاءت صادمة ، اذ ، تلك الشابة /الراوية ذات الشخصية الجامحة التى تحدت كل الظروف لتجسيد  وتأسيس حياة مستقلة ترسمها وتحدد مسارها ، كما تمنت وقررت منذ طفولتها وصباها ، وعملت لهذا وصارت قدما فى طريقها ، نجدها وقد تراجعت بنكوص لم يحدث ان استشعره القارئ على مدى فصول الرواية ، فبعد ما  اصبحت مراسلة تليفزيونية ، علاوة على عملها بالصحافة ، واختلاطها بالوسط الادبى والثقافى ، واسست لاتحاد الكتاب ، كل هذه الانجازات ، نجدها تتحطم ، يحدث ذلك حين عادت إلى تونس بعد أن أتمت دراستها، والتقت بخطيبها “هشام القروى” الذي بدأ مشروع الارتباط بها ، بمباغتة حين ذهب معها لمقابلة مدير المركز الثقافى العراقى بتونس  (ابو ميسون )، وهو احد اقارب الرايس يسأله  عن خطيبته ، فيشير هشام الى الرايس ، لتُفاجا مع المدير بالخبر ،  ثم تكتشف  علاقته باخرى ، وحين يطلب منها السماح وخطوبتها توافق ، ثم تكتشف عيوبه اثناء الخطوبة ،  كرجل نمطى ؛ يعيد إنتاج الصورة النمطيّة للرجل الشرقي في علاقته بالنساء، وكأنّه شهريار، مسكونٌ بالشك والتوجّس، والسعي لفرض وصايته على المرأة بوصفها كائناً تنقصه الأهليّة ..تتوقف مسيرة حياة الرايس ، ويتعطل مشروعها الذى عاشت له ، وتنهى الرواية بنهاية مفتوحة على فضاء رواية سيرية ، قد تكون باريس محطتها ...ويحسب هذا للكاتبة ، اذ كانت مخلصة وصادقة لسيرتها ، فلم تخف او تسكت عن هناتها او بعض نقائصها ، ولم تُجمل ، بل سردت الحقيقة كما هى ، وهذا يجعلنا نحترم تلك القوة ، والتحلى بالمصداقية .. ونثق انها حتما نهضت بقوة مرة اخرى ، والا ما كانت تلك التحفة التى نحن بصدد قراءتها ، والتى اودعت فيها جل ابداعها .
واخيرا يمكننا ان نقول ان الاديبة المبدعة حياة الرايس نجحت فى تقديم سيرة ذاتية فى صورة مترابطة على اساس من الوحدة والاتساق فى البناء بأسلوب ادبى استطاع ان ينقل الى المتلقى ، محتوى وافيا كاملا من تاريخها الشخصى على نحو  حافل بالتجارب والخبرات الخصبة ، اذ جاء سردها بلغة سلسة جميلة شاعرية ، بعذوبة عباراتها ، مما اضفى على النص الحياة والحركة ، فى تصوير الوقائع والشخصيات ، بصدق ، فلم تسرف فى التخييل فتقع فى فخ المبالغة وتخرج عن صيغة السيرذاتى ، بل اعتمدت الخيال كصيغة جمالية للواقع .. وتوسلت بكل خبراتها ، فكانت احيانا تكتب بصيغة موجزة تقريرية ذات صبغة صحافية ، واحيانا تستخدم العبارات الشعرية ، وحين تصف تفاصيل المواقف والاحداث ، نشعر بمسرحة هذه الاحداث .. وقد وثقت فى الرواية تاريخ العراق ، فأستحقت ان تكون وثيقة تاريخية ، سيرة مكان وسيرة حياة .