المجهول والمعلوم في سيرة البياتي


" استرسلت في مدح نفسي ولم أترك لغيري رأياً"
محمد دكروب - 28/9/2001 - السفير الثقافي


عام وبعض العام، في أواسط الخمسينيات، عاش عبد الوهاب البياتي في بيروت، بما يشبه البؤس، مبتعداً عن جحيم العراق الذي لا يكاد يتخلص من جحيم الا ليقع في سعير جحيم آخرأيام البؤس هذه، في بيروت، أسست لصداقة دائمة مع البياتي على مدى حياته المضطربة.. يهاجر البياتي بين مختلف المدن والعواصم وفي مختلف القارات، وكلما كانت تتاح لنا فرصة اللقاء، في بلد ما، نشعر بأن الصداقة تحتفظ بنضارة لا تزول.
عندما جاءنا البياتي، في ذلك العام، تاركاً جحيم الوضع السياسي القامع والمتقلب في العراق، كان يحمل معه مجد ديوانه الثاني والاشهر <<اباريق مهشمة>> ويحمل انتماءه، الواضح والصريح جداً، في ذلك الزمان، الى تيار اليسار العراقي والعربي إجمالا، وبما يشبه الانتماء الى الحزب الشيوعي العراقي والنشاط السياسي في اطاره.. فكان من البديهي ان نسعى لتأمين بعض متطلبات وجوده في بيروت.

كان يسكن في غرفة صغيرة ضيقة، كل ما فيها من <<اثاث>> يمكن ان يضعه البياتي في حقيبة ويرحل في اية لحظة يضطر فيها الى الرحيل.
في ذلك الزمان، كان عندنا في بيروت اسرة ادبية شبابية سمت نفسها <<اسرة الجبل الملهم>> وكان من اعضائها الكتاب، الشبان في ذلك الحين: الدكتور علي سعد، وأحمد ابو سعد، ومحمد عيتاني، ومصطفى محمود، ومحمد دكروب، وآخرون.. وكان يشجع الاسرة ويدعم نشاطاتها ويحضر اجتماعاتها كل من: العلامة الشيخ عبد الله العلايلي، والمفكر حسين مروة، والباحث الأب طانيوس منعم.
... فصار عبد الوهاب البياتي واحداً من الاسرة، ظريفاً، وحزيناً، ونشيطاً.

وكان عندنا مجلة ثقافية شهرية اسمها <<الثقافة الوطنية>> تحمل جديد الفكر السياسي العربي، والادب الحديث، ولها انتشار واسع في البلاد العربية.. فصار البياتي، عملياً، واحداً من اسرة تحريرها، وذلك ليس فقط من حيث إنه ينشر فيها قصائده الجديدة، بل ايضاً من حيث الاسهام في التحرير: سواء في اقتراح المواد أو في الكتابة في ابواب المجلة، والإسهام في المتابعات الثقافية وعروض الكتب الجديدة، باسمه الصريح حيناً، او بالحرفين الاولين من اسمه (ع. ب) غالباً، او بدون توقيع، وأحياناً كنا نضع اسم <<الثقافة الوطنية>> تحت المقالة التي يكتبها.
وهكذا، فإن محلة <<الثقافة الوطنية>> بالنسبة للبياتي لم تكن فقط المكان الاثير لنشر اشعاره في ذلك الزمان، بل كان يعتبر نفسه واحداً من المسؤولين عن تطور المجلة وازدهارها، وكان يعمل في هذا السبيل، سواء كان في بيروت او دمشق او القاهرة او بغداد او في اي مدنية اخرى.. وكان يحرص على ان يزود المجلة بمواد يطلبها هو، وبالتوافق مع المجلة، من كتاب آخرين، حيث يكون.. وغالباً ما كان يتولى هو إرسالها إلينا في بيروت.

(ومن يراجع أعداد المجلة العائدة لتلك الفترة، يكتشف ان اكثر قصائد ديوانيه <<أشعار في المنفى>> و<<المجد للأطفال والزيتون>> هي تلك التي نشرها في <<الثقافة الوطنية>> تحديداً بين 1954 و1959).
رسائله إليّ، خلال تلك الاعوام، هي من الوثائق الثقافية والانسانية العزيزة جداً على نفسي. كان يحرص، في هذه الرسائل، على ان يكتب رأيه في بعض المواد المنشورة في المجلة، ورأيه في التكوين العام لهذا العدد او ذاك.. ولعل اهم ما كانت تتضمنه الرسائل، تلك الاشارات الموجزة جداً بصدد ما هو جديد، في البنية والايقاع او الموقف الذي تحمله هذه القصيدة او تلك من قصائده.. وفي الرسائل عديد من الاحداث المهمة التي لم يشر إليها في سيرته الشعرية المنشورة.. وقد ازعم: ان اوائل شرارات المعركة البياتية مع بدر شاكر السياب، ثم الإقذاع في توصيف سلوكاته، إنما تظهر في بعض هذه الرسائل.

رسولية
ولعل اكثر ما احبه في رسائله هذه، كونها تعبّر بالملموس وليس بالكلام عن رسولية البياتي في جهوده التي كان يبذلها في كل مكان حل به لمساعدة <<الثقافة الوطنية>> ومدها بالمادة الثقافية منه هو، وعبره من مختلف الكتاب الآخرين.. فكان، في تلك المرحلة، عنصراً أساسياً متطوعاً متجولاً في هيئة تحرير المجلة.. كان يرى في <<الثقافة الوطنية>> مجلته، وحاملة تطلعاته، وموصلة صوته الى الناس، اضافة الى كونها مجلة للحداثة العربية الكفاحية، في الفكر والابداع، وهو <<صوت الفقراء>> حسب التعبير الاثير للبياتي.
وهذا سلوك متميز فكرياً وأخلاقياً ولا يمكن ان ينسى.
في ثلاث فقرات، من هذا الحديث، سأورد ثلاثة معالم للبياتي في هذه الرسائل (التي تصل إلى 39 رسالة، أكثرها في أكثر من صفحة واحدة).. ولا بد لي من عودة متأنية، مستقبلا، للقيام بقراءة دراسية لها، تضيف الى سيرة البياتي بعض ما أغفله، أو غفل عنه، لدى كتابته سيرته.
الفقرة الأولى عن جهوده في دعم <<الثقافة الوطنية>> ومدها بالمواد، سواء كان في بغداد، أو في القاهرة، أو دمشق:
من بغداد: <<أخبرت جميع الأخوان، في أسرة مجلة <<الثقافة الجديدة>> بلزوم مد <<الثقافة الوطنية>> بما لديهم من دراسات ومقالات، وقد أبدى الجميع استعدادهم.
 أيضا: هذا مقال كتبه الصديق يوسف العاني، سكرتير فرقة المسرح الحديث، والمقال هذا كدفعة أولى من المقالات التي وعدنا بها الإخوان، وهناك مقالات أخرى للإخوان: إبراهيم كبة، الدكتور صلاح خالص، شاكر خصباك، الدكتور صفاء الحافظ، وعبد الملك نوري، سوف أرسلها لك تباعا>>.
.. وبالفعل فإن أكثر هذه المقالات وصلت تباعا، ونُشرت تباعا...

وأيضا، فقرة ألفت النظر إليها: <<طي رسالتي قصيدة للشاعر سعدي يوسف، وسعدي من شعراء البصرة الموهوبين، فقد سبق له ان أصدر مجموعة شعرية عنوانها <<أغنيات ليست للآخرين>> وقد نشرت مجلة <<الأديب>> بعض قصائده>>.
الرسالة هذه مؤرخة في 26/10/1955.. وكان سعدي في بداياته الأولى.. وابتداءً من هذه القصيدة توالت قصائد سعدي في <<الثقافة الوطنية>> وفي غيرها.
ويهاجر عبد الوهاب الى القاهرة، ويواصل من هناك جهوده ورسائله:

القاهرة، في 18/8/1957: <<لقد كنت ممثلا أمينا (للثقافة الوطنية) هنا، فقد كتب عن أعدادها الصادرة منذ أن جئت الشيء الكثير في أغلب الصحف وخاصة <<المساء>> و<<الجمهورية>>، ولقد حتمت على الأخوان واجبا ان يكتبوا عن كل عدد جديد يصدر وطي رسالتي هذه المواد التالية...>>.
.. وكان المغلف يضم مقالات لكتاب مصريين معروفين، وكتاب موجودين في مصر.. وقد وجدت هذه المواد طريقها إلى النشر في أعداد المجلة.. إضافة الى هذا كان البياتي يزودنا بالصفحات الثقافية للجرائد ليتاح لنا كتابة تغطية الأخبار الثقافية للبلاد العربية في أبواب المتابعات.

دمشق، في 10/12/1957: <<ها أنا أرسل إليك صفحة جريدة <<النور>> الأدبية، متمنيا ان تكون القصاصات السابقة قد وصلت إليك، وبعد أيام أرسل لك ما تحصّل لي من مقالات للإخوان هنا>>.

هذه فقط عينات خاصة بالفقرة الأولى من هذا الحديث. وهي تدل بوضوح على رسولية عبد الوهاب البياتي بالنسبة لمجلة <<الثقافة الوطنية>>، ولحركة الحداثة الثقافية والأدبية العربية، التي كانت <<الثقافة الوطنية>> توليها اهتماما استثنائيا.

نرجسية
في الفقرة الثانية من هذا الحديث إشارات الى خاصية من خصائص عبد الوهاب البياتي تميز بها منذ ذلك الزمان وحتى أواخر حياته.. هذه الخاصية هي: افتتان البياتي بشعره وبنفسه الى حدود غير معقولة أحيانا! ونحن، في هذه الفقرة، نحاول أن نستعير من البياتي نفسه طريقته الساخرة اللاذعة في الحديث عن الشعراء الآخرين.. ولكن الفرق أننا سنستخدم هنا كلمات البياتي نفسه عن نفسه، مع تدخلات منا بسيطة، فلا نكون قد تجنينا على هذا الصديق الكبير، بل نكون موضوعيين في الكشف عن هذا الجانب الهام من شخصية البياتي، والذي يفسر الكثير الكثير من سخرياته بمختلف الشعراء الآخرين الكبار منهم وغير الكبار.. وكلمة <<الافتتان>> بالنفس استعرناها من نجيب محفوظ عبر البياتي بالذات.
ففي سيرته الشعرية <<ينابيع الشمس>> يروي البياتي ان نجيب محفوظ أهداه رواية <<الشحاد>> وكتب له هذا الإهداء الظريف: <<إلى البياتي المفتون بعبقريته>>.. ويعلق البياتي: <<وكان محفوظ صادقا كل الصدق في إهدائه هذا>> (البياتي ينابيع الشمس/ السيرة الشعرية دار الفرقد، ص 70). ونحن بدورنا لن نزيد على هذه الصفة شيئا، بل نترك الكلام للبياتي:
من القاهرة: <<.. وما زال الإخوان جميعا في القاهرة بل الشعب المصري يحتفون بي، وهم سعداء جدا لوجودي بينهم...>>!
من بغداد: <<ديوان <<المجد للأطفال والزيتون>> يصدر بعد أيام، في القاهرة.. وإني لأحسدك لأنك ستراه وتطالعه وتتمتع به دون أن أراه أنا.. (ثم يضيف): على كل حال فإني أعتقد أن صدوره في هذه اللحظات الحرجة الحاسمة من حياتنا جاء انتصارا لشعوبنا العربية وتحية لها ولمواقفها البطولية الرائعة في هذه الفترة التاريخية>>!

من بغداد أيضا يقول: <<.. ومن خلال الرسائل الواردة إليّ من القاهرة (يقول البياتي) شعرت أن أدباء مصر على الإطلاق متحمسون للديوان حماسا منقطع النظير، وأن فرحتهم به لا تقل عن فرحهم بأي حدث في حياتنا الراهنة>>!

رسالة من دمشق، بتاريخ 26/1/1958، فيها فقرة لها عدة دلالات...
منها ان عنوانها الأصلي كان: <<رسالة الى حزبي>> والبياتي، في وصفه لهذه القصيدة التي تمجد الانتماء الى جماعة، يصل الى ذروة الافتتان بالذات.. على ان القصيدة هذه نُشرت في <<الثقافة الوطنية>> تحت عنوان <<رسالة الى شعبي>> وهي مؤلفة من 12 مقطعا، فنشرها البياتي لاحقا في ديوانه تحت عنوان <<12 أغنية الى العراق>>، وعندما يعود القارئ الآن الى القصيدة يلمس بوضوح انها موجهة الى حزب هو فصيل طليعي في الشعب.. ولعلي أرجّح: اننا نحن، بالتوافق معه، قد غيّرنا العنوان الأصلي، لأسباب أمنية بالنسبة للبياتي.. على كل حال ليس هذا هو موضوعنا، بل الموضوع هو هذا النص من الرسالة:
<<اكتب اليك هذه الراسلة بعد انتهائي من قصيدة طويلة كتبتها بعنوان <<رسالة الى حزبي>> وقد وضعت في كل حرف من حروفها فلذة من روحي.. لن اتحدث إليك عنها، وأنا اتركها إليك لتقرأها أنت>>.
(ومع هذا، فهو يتحدث عنها وعن اعجابه بها، بالكلمات المفتونة التالية:)
<<.. أنا شخصيا اعتقد انني قد استعدت فيها <<عافيتي الشعرية>> ان صح التعبير، ففيها تحفّز وثورة وعفوية. صدقني إذا قلت لك انني أنا شخصيا قد تأثرت بها وأنا اكتبها.. وعلى كل حال أتمنى ان يسامحني الله لأنني استرسلت في مدح عملٍ من أعمالي دون ان أترك لغيري حرية إبداء الرأي.. انني اشعر بالخجل.. وهذا يكفي.. ولكن ما العمل إذا كنا لا نملك غير ان نحب...>>.

في رسالة أخرى من دمشق، يتحدث عن ثلاث قصائد له نشرتها <<الثقافة الوطنية>> فيثني جدا على إخراجها الجميل، ثم ينتقل الى القول:
<<.. وأقول لك، مع تواضعي الجم وخجلي الشديد: ان هذه القصائد أحدثت أثرا طيبا جدا لدى كل الأوساط الأدبية وجاءت بمثابة رد غير مباشر على كل التفاهات التي يسمونها شعرا وينشرونها في المجلات.. ذلك كان شعور كل من قرأ قصائدي الثلاث هذه، أعود مرة أخرى فأكرر إليك اعتذاري لحديثي عن نفسي، ان بعض من قرأوها قالوا لي إنها أحسن ما كتبتُ، وأنا مسرور لهذا القول لأن هذه العملية قد أصبحت تتكرر كلما نشرتُ قصائد جديدة>>.
وكجزء من هذا الافتتان بالذات، كان البياتي في رسائله يستثير نخوتي في سبيل ان أولي اهتماما جماليا خاصا بالاخراج الفني لقصائده في مجلة <<الثقافة الوطنية>>.. فيمتدح اهتمامي وذوقي الفني من رسائله العائدة الى العام 1955، هذه الفقرات:
<<اشكرك على اهتمامك بقصائدي الأخيرة (رسالة حب الى زوجتي أغنية خضراء الى سوريا بريد أنقرة بغداد) فقد جاءت آية في الإخراج والجمال..>> وفي رسالة أخرى: <<إخراج قصيدتي (ثلاث أغنيات الى أطفال وارشو) كان رائعا، اعجب كافة الاخوان..>> وأيضا: <<قصيدة (أغنية انتصار الى مراكش وتونس والجزائر) أعجبني كثيرا إخراجها على هذا الشكل الرائع، فأشكرك من أعماق قلبي..>>.
.. فهل كنت، أنا أيضا، أستزيد من المدائح لذوقي التشكيلي، عندما كنت أزيد في جماليات اخراج قصائد البياتي؟.. أم ان البياتي الذكي كان يعرف، مسبقا، النتائج الجمالية لمدائحه؟

ويدخل في هذا السياق، حرص البياتي على اعلام القارئ العربي بمجريات انتشار أشعاره في العالم، فكان يُنهي بعض رسائله بأخبار مصوغة، صحافيا، للنشر.. فأدرجها في باب <<أخبار ثقافية>> بدون أي تعب في الصياغة. ففي رسالتين منه، تعودان الى العام 1955، هذان الخبران:
<<قامت الشاعرة التشكيلية (بيلوفا) زوجة الشاعر التشيكي الكبير (بيبل) الذي مات منتحرا قبل بضع سنوات، بترجمة قصيدة <<بورسعيد>> للشاعر العراقي عبد الوهاب البياتي الى اللغة التشيكية، ونشرتها في جريدة (رودي برافو) وهي من أوسع الجرائد انتشارا في تشيكوسلوفاكيا>>.
 

تُرجمت قصيدة (بطاقة بريد الى دمشق) الى اللغة الروسية ونشرتها مجلة <<أوغنيوك>> السوفياتية في عددها الخاص الذي أصدرته بمناسبة افتتاح مهرجان الشباب العالمي في موسكو>>.

.. وبالتأكيد، فإن أكثر من خدم البياتي وشعر البياتي، إعلاميا، هو البياتي نفسه!
ولعلي أرى، في عمق هذا الافتتان بالذات، وبأصداء قصائده، وأخبار ترجماتها، تعبيرا عن و اقع وحقيقة.
وأشهد اننا، في ذلك الزمان، كنا نتغنى بأشعار البياتي، ونحفظ بعضها غيبا، ونرددها، ليس فقط كرمى للمعنى الذي تحمله والموقف الذي تعلنه، بل بالأخص للجديد الشعري الذي تقترحه وتشكل هي احدى أهم بشائره.

اللعب الفني
لغيري ان يتحدث عن الجوانب التقنية وخصائص الحداثة في شعر البياتي، وعن الجديد الذي حمله وشكّل أفقا مشرعا للتحولات في الشعر العربي الحديث.. فهو، كما أرى، استخدم العديد من الأشكال وابتدع العديد من الأشكال، ليقول جديده عبر هذا الجديد.
ولكني أحب ان أورد، هنا، فقرتين من رسالتين له تكشفان جانبا من اللعب الفني في العديد من قصائد الروّاد في ذلك الزمان.
 في رسالة منه إليّ، عام 1958، حديث عن قصيدته <<القتلة>> وشكل كتابتها يقول:
<<شكل القصيدة كلاسيكي أي انه ملتزم بقافية واحدة وبعدد التفعيلات المتساوية في كل بيت، ولكني كتبتها على هذه الشاكلة (أي: شكل قصائد التفعيلة، والتقطيع غير المتساوي الأسطر) لإظهار القوة في مقاطع الأبيات، ولإظهار المواقف التي تنتهي فيها الجملة، أي: إن تقطيع أبيات القصيدة تم لأسباب فنية...>>.

وفي رسالة أخرى، تعود الى العام 1958، حديث عن قصيدة <<سلام على غوركي>> يقول: <<.. والقصيدة، كما تراها، كلاسيكية النهج (أي ذات قافية واحدة وتفعيلات متساوية) ولكني آثرت تقطيعها أيضا مؤثرا إبراز المعاني ونهايات الجمل والصور>>.
والظريف أنه يورد في الرسالة بعض أبيات من القصيدة مكتوبة كلاسيكيا:

منازل الأحباب في الدرب
مضيئة، فانزل على الرحب
بحارة الفولغا وعمال مد (م)
ريد يغنون من القلب
أما في الأوراق التي للطبع، فالقصيدة مكتوبة بالشكل المقطع، الحديث:
منازل الأحباب في الدرب
مضيئة،
فانزل على الرحب
بحارة الفولغا
وعمال مدريد
يغنون من القلب
.. مما يجعل تأثيرات الأبيات تختلف باختلاف تقطيع الكلمات وعدد التفعيلات.

بعض رسائل البياتي، من بغداد، في العام 1956، كانت تحمل شكوى خفية من الوضع، والضيق الذي يعاني، وكبت الحرية وحاجته الى التنفس في مناخ آخر...
ويبدو أنني بعثت إليه برسالة في هذا الصدد، لا أتذكر مضمونها، ولكن رسالة من عبد الوهاب، تشير الى تلك الرسالة، والى عمق ما كان يربطنا من علاقات أشمل بكثير من أن تقتصر على العلاقة الثقافية، يقول البياتي:
<<شعرت بفخر وثقة واعتزاز وأنا أقرأ هذه العبارة في رسالتك: (نحن ننتظرك، ونرحب بك منذ الآن، ونفتح أذرعنا وقلوبنا وبيوتنا).. وهل بعد هذا شيء أعظم وأنبل وأكبر وأسمى؟
إنني أحترق هنا، ولعل قصيدة <<يوميات عربي في اسرائيل>>، التي كتبتها بدمي تنطبق على حالنا، هنا وهناك، ففيها خير تعبير عن وضعنا الحالي>>.
.. واستطاع البياتي، في ذلك العام، أن يغادر بغداد الى دمشق، ثم الى بيروت، ثم الى القاهرة.. وكان من نتاج هذه الفترة ديوان <<أشعار في المنفى>> 1957.

هذه، بالطبع، مجرد إشارات الى بعض فقرات من هذه الرسائل التي تتطلب وقفات أكثر تأنيا، ودراسة أكثر رحابة واتساعا.. ففي الرسائل فقرات، مفصلة أحيانا، حول بعض قصائد البياتي، وخاصة في ما يتعلق بمحمول هذه القصائد (وهذا موضوع مقال آخر).
لقد نوع البياتي في استخداماته وأشكاله، ووصل الى استخدام عدة أشكال في القصيدة الواحدة.. ولكن شيئا ما ظل يربط دائما بين البياتي والناس القراء. فظل محافظا على موقعه في الشعر العربي الحديث، مدافعا عنه، مقاتلا في سبيله، وموسعا في قاعدته، وممعنا في تطوير أدواته وتنويع مناخاته الشعرية وإغناء مجالاتها: في أقاليم الدنيا ومعترك الحياة، وأقاليم الأسطورة، والانجذابات الصوفية والاستخدامات السوريالية التي، مهما أمعن في غرابتها ولا معقولية العلاقات التي بين الكلمات والأشياء والرؤى، تظل مشدودة الى الجذر، الأرض، واقع الناس والصراع، حيث من هذه الأرض ومن ناسها تتفجر، حسب قول البياتي، ينابيع الشمس أو الثورة.