الرواية العربية ورهان التجديد

سعد محمد رحيم المصدر جريدة المدي

استحوذت فكرة التجديد على أذهان الروائيين ونقاد الرواية العرب، لاسيما بعد حزيران 1967. وبقيت الفكرة تلك طازجة، تُعاد صياغة أطرها وأسسها ومقولاتها، وتُرسم آفاقها مراراً، عقداً بعد آخر. وهي عموماً تدخل في ضمن نزعة الحداثة التي طبعت جانباً من الثقافة العربية المعاصرة بطابعها، بدءاً من النصف الثاني من القرن العشرين وحتى يومنا هذا. مع ما صاحبتها من أوهام وعقبات وقصور وسطحية من جهة، وحماس ودينامية ومنجزات لا تُنكر أهميتها من جهة ثانية.

يعالج الناقد المغربي د. محمد برادة هذه الموضوعة الحيوية في كتابه الصادر حديثاً عن دبي الثقافية ( مايو 2011 ) بعنوان ( الرواية العربية ورهان التجديد ).وما يميّز الدكتور برادة في كتابه هذا هو أنه يلقي الضوء عبر رؤية منهجية رصينة على مناطق مستحدثة، وأخرى معروفة لكن لم يتطرق إليها النقد العربي بهذا الصفاء في الطرح والدقة في التحديد والوضوح في المقاصد. وهي خصائص عُرفت بها الكتابات النقدية لمحمد برادة وقلة آخرين من النقاد العرب. وأول ما يُدخله الناقد في متن أطروحته هو علاقة الأدب بالسوق. وهذه الموضوعة من اختصاص سوسيولوجيا الأدب؛ وهي حقل معرفي لم ينضج كفاية في الفضاء الثقافي العربي. والمقصود بهذه العلاقة هو المؤشرات الإحصائية الخاصة بالإنتاج الأدبي واستهلاكه؛ «عدد القراء والمتلقين والموضوعات التي تحظى بالرواج وتثير الجدال». وهذا لا يدل، بطبيعة الحال، على جودة الإنتاج، «ولكنه يبقى، مع ذلك، عنصراً مسعفاً في تصنيف الإنتاج واستبار مفعوله». أما الأمر الثاني الذي يناقشه فهو مدى تعبير النص الروائي العربي الجديد عن تحوّلات الواقع السياسية والاجتماعية والاقتصادية. وهنا تُطرح قضية استقلالية المؤلف عن السلطات التي تحرّف رؤيته إلى الواقع،وأخطرها سلطة الإيديولوجيا.. يقول؛ «لا يتحقق الإبداع إلا من خلال استقلالية تحمي المبدعين من التبعية لمحافل سلطة أخرى، وتتيح لهم أن يصوغوا رؤاهم وفق تفاعل وتجارب تكون الذات المبدعة فيها هي عصب الموضوع وحامله». يسعى الدكتور برادة إلى إعادة صوغ الإشكالية عبر مساءلة «وجود الإبداع والفكر ضمن شروط معينة داخل المجتمعات العربية، وتستجلي إمكانات الإبداع في تطوير الوعي، وكذلك في قدرتها على الاستمرار ضمن شروط مضادة تعرقل انتشار الإبداع على نطاق واسع». فالأمة تعيش أزمة سياسية واقتصادية في خضم أزمة اكبر ذات طابع عالمي تشمل القيم والثقافة أيضاً، مما يضفي على الإشكالية طابع الازدواجية والتعقيد. وإذن فإن حركية التاريخ هذه لابد من أن تؤثر، بالضرورة، على أشكال الكتابة الروائية وإستراتيجياتها والرؤى والأفكار التي تتضمنها. ثمة فرق في نظر د. برادة بين رواية تستهدف القبض على الواقع من خلال إستراتيجية المحاكاة «وتحقيق تخييل يبعث على التماهي»، وبين رواية تنشغل بالكتابة التي توظف «عناصر السرد والتخييل ضمن تذويت للكتابة ينطوي على تخصيص اللغة والشكل والرؤية إلى العالم». وذلك لارتياد مناطق واستشراف أبعاد تستطيع الرواية وحدها، بما تمتلك من مقومات، ارتيادها واستشرافها. فما مفهوم الكتابة وإجرائيته في هذا السياق؟. هنا يستعير د. محمد برادة مفهوم جاكبسون لـ «التلفظ»، والذي يعني «أثر الذات ( الكاتبة ) على نص ما»، فتمثل الكتابة عندئذ «جماع تفاعل وعي الكاتب مع شروطه التاريخية وأسئلة ذاته المنقسمة داخل مجتمع يمور بالفوارق والصراعات والاستلابات». فيتخذ الكاتب موقفاً من عصره «عبر الاستتيقا وإعادة تأويل القيم من زاوية تزاوج بين توضيع الذات، وتذويت المجتمع، بين التمثل الواعي ومكنونات اللاوعي». ثمّ يعرّج إلى ما يسميه «استقلالية النص الروائي وتذويت الكتابة». وما يقصده بالتذويت هو «ربط كتابة الرواية بإسماع صوت الفرد العربي الذي ظل أمداً طويلاً غائباً، مضيّعاً في ثنايا الخطاب الإجماعي واللغة المتخشبة الرسمية، وتمجيدات الوطنية والقومية».