الإصلاح في فكر زكي نجيب محمود

حمدي المغربي المصدر - الوطن

في الوقت الذي تعالت فيه نداءات الإصلاح من قبل أميركا وإملاء أجندة الإصلاح على دول الوطن العربي فيما يعد السابقة الأولى في تاريخ العلاقات الدولية يجدر بنا نحن أبناء الأمة العربية أن نرفض تلك الوصاية وأن نبحث عن مشاريع مثقفينا التي رسمت الخطوط العريضة للإصلاح في وطننا‚ تلك المشاريع النابعة من عقل ووجدان أبناء أمتنا التي تستهدف رسم خطى التقدم والنهضة والتنوير وفق متطلباتنا نحن ومعالجة لأوجه القصور عندنا‚

ويعتقد كاتب هذه السطور بأهمية إلقاء الضوء على تلك المشاريع النهضوية وبعثها من جديد وتقييمها في ضوء ما تمليه علينا الظروف التي نمر بها في لحظة تاريخية حاسمة‚

ومن بين تلك المشاريع مشروع متكامل الأركان قضى صاحبه عمره كله في تشيده وإحكام بنائه لتنهض أمته العربية من عثرتها الحضارية!!

إنه «مشروع» زكي نجيب محمود‚ فهو من أبرز المفكرين العرب في أواخر القرن العشرين وأكثرهم احتفاء بالعقل والعلم‚ فعلى مدى خمسين عاماً أو أكثر واصل عطاءه وملأ حياتنا الثقافية بآرائه الصادمة للواقع المتخلف الذي يرزح تحت نير الخرافة والجهل ومعاركه التي لم تهدأ ضد دعاة الظلام‚ وهو حلقة متصلة الوشائج بالإصلاحين الرواد مكملاً مسيرتهم‚ وقد ارتبط مجال إصلاحه بالفكر والفلسفة وذلك بطبيعة دراسته ومهنته فصوب منهجه الإصلاحي على ذلك المجال لما له من تأثير قوي في نهضة المجتمع ورقيه‚

فقد عنيّ مفكرنا بقضايا أمته الفكرية والاجتماعية وقام ببحثها ونقدها محاولا إصلاح الخلل فيها وتغيير نمط فكرها لتستقيم الحياة الفكرية لأمته لتحيا عصرها‚ فوجه فكره ونقده إلى العديد من الجوانب الفكرية بهدف إصلاح شأنها وإعادة بنائها بناء يلائم روح العصر في صيغة تكاملية رائعة تمزج بين الأصالة والمعاصرة‚ الجسد والروح‚ العلم والايمان‚

فما من مفكر ارتبطت حياته بأفكاره وكانت تجسيداً لها مثل مفكرنا ملتزماً بقضايا التنوير وبث الروح العلمية في عقول أبنائها متخذاً منهجاً فلسفياً صارماً جعله منظاراً يرى من خلاله قضايا أمته وظل وفياً لذلك المنهج طيلة حياته‚

فكان همه الأول بعث النهضة والتقدم لمجتمعه ولم يمل حتى وافته المنية‚

وكانت اللغة قد احتلت مكانة بارزة في كل التيارات والمذاهب وتحددت القواسم المشتركة والخطوط الفارقة لكل تيار من خلال نظرته للغة فضلاً عن كونها الوسيلة التي تعبر عليها المعاني والأفكار‚ واستحوذت مباحث اللغة على عقول التنويريين العرب وغير العرب ولم تنحصر مباحثها عند اللغويين فقط بل تعدى الأمر إلى نظر ورؤية الفلاسفة‚ وما من تيار فكري قديماً أو حديثاً إلا وكانت له رؤيته الخاصة باللغة وألفاظها وتطورها وقواعدها ومنطقها العام‚

ولكن ظل تيار فكري وحيد أعطى للغة جل اهتمامه وعنيّ بدراستها دراسة مستفيضة لدرجة أنه اختزل وظيفة الفلسفة في تحليل الجمل والمفردات وتوضيح المعاني المستخدمة في العلوم وجعل الفلسفة منهجاً علمياً صارماً‚

هذا التيار أطلق عليه في بداية الأمر «الوضعية المنطقية» ثم التحليلية بعد ذلك‚

ويبرز هنا مفكرنا الذي تبنى هذا التيار وجعل من مبادئه منهجاً ملزماً له‚ وقد أضاف مفكرنا لهذا التيار من عندياته فلم يكن ناقلاً أو شارحاً فقط‚ وانما ايضاً فاض بروحه وفكره على هذا التيار مما جعل له وجودا في الساحة العربية‚

ونجد مفكرنا قد نجح في تطويع هذا التيار لخدمة قضايا أمته‚ بدرجة كبيرة‚ فزكي نجيب محمود وجد في تياره هذا ضالته لإنقاذ أمته من وهدة التخلف والانهيار الثقافي وكان مقتنعاً بضرورة ( إصلاح ) اللغة وتطويرها فأمسك بمبضع منهجه ليشرح لغته ‚‚ فيعبر عن استيائه لما وصل إليه حال استخدام امته للغة قائلاً : ما ساد مصر في تلك الفترة من الاستهتار في ناحية التفكير والتعبير فاعتادت الألسنة أن ترسل القول إرسالاً غير مسؤول دون أن يطوف ببال المتكلم شعور بأنه مطالب أمام نفسه وأمام الناس بأن يجعل لقوله سنداً من الواقع الذي تراه الأبصار وتمسه الأيدي‚

وهكذا يرتبط الإصلاح بإصلاح اللغة فهو رأي الساحة الثقافية تزخر بالكلام والأقوال غير الدقيقة وأصبحت الألفاظ والجمل غابة من الحروف تحجب عن الناس الحقائق مما جعلها تسبب خلطاً وغموضاً عند الناس‚

فكانت البداية بتوضيحه وظيفة اللغة حين قال إن للغة ميدانين كبيرين تستعمل فيهما بطريقتين مختلفتين احدهما حين تستخدم اللغة لتشير برموزها إلى العالم الخارجي أما الميدان الثاني في استعمال اللغة فهو حيث لا يقصد بها الاشارة إلى العالم الخارجي بل يراد بها أثرها الوجداني أو يراد بها إقامة بناءات ذهنية تقتصر على مجرد التصور ولا تزعم أنها تسمى جانباً أو آخر من جوانب العالم‚ والاستخدام الأول يكون معيار الصدق والتحقق والذي على أساسه تحكم بقبوله أو برفضه هو التطبيق الخارجي في الواقع‚ والاستخدام الثاني معيار صدقه تنظر إلى التطابق بينه وبين نفسك وما يلفت نظرك إلى خبرة داخلية حسية تحسها في شعور أو طريقة تكوينه واتساق المقدمات مع النتائج‚ وهنا حدد اللغة المستخدمة في العلوم التجريبية ومعيار صدقها بالرجوع للواقع والعلوم الرياضية ومعيار صدقها بتحليل بنائها واتساق المقدمات مع النتائج‚

يخرج مفكرنا بنتيجة مهمة شرحها التالي وعليك حين تستخدم اللغة أن تكون على بينة في أي ميدان من ميادينها تستخدمها‚ تشير إلى كائنات خارجية وعندئذ يتحتم عليك الركون إلى تجربة الحواس‚ أم تقصر نفسك على البناءات الذهنية التصورية وعندئذ لا تطالب بالرجوع إلى تجربة الحواس وتكون ملزماً بمراعاة مقاييس أخرى ملائمة لنوع البناء التصوري الذي تقيم أركانه في ذهنك وهذه تعيد نقطة مضيئة في تحليل اللغة‚ فحينما نحدد نوع الكلام نحدد معه المعيار المستخدم للتحقق من صدقه لأننا لو خلطنا بين أنواع الكلام وطرق التحقق منه وقعنا في الخلط واللبس والغموض فتحل الكارثة وتغيب الحقيقة‚

ونتج عن ذلك رفضه للميتافزيقا التأملية‚ لأنها لا تقع في أي نوع من الأنواع الآنفه الذكر وليس لها معيار تحقق يتفق وما يتبناه من منهج وضعي صارم «إن الميتافزيقا كلامها فارغ من هذا القبيل لا يرسم صورة ولا يحمل معنى»‚

ويقلل وزني لوجود المشكلات الفلسفية الكلاسيكية‚ إن المشكلات الفلسفية المزعومة إنما نشأت من طريقة استخدام الفلاسفة للألفاظ والعبارات‚ إذ تراهم يستخدمون الألفاظ والعبارات على نحو يختلف على الطريقة التي اتفق الناس فيما بينهم اتفاقاً مفهوماً بالصرف على أن يستخدموا بها تلك الرموز اللغوية وبذلك تنشأ عبارات ليست ذات معنى مفهوم‚ وبالتالي فقد دعا إلى حذفها من قائمة الكلام المقبول ويعلن صراحة: أنا مؤمن بالعلم كافر بهذا اللغو الذي لا يجدي على أصحابه ولا على الناس شيئاً‚ وعندي أن الأمة تأخذ بنصيب من المدنية يكثر أو يقل بمقدار ما تأخذ بنصيب من العلم ومنهجه‚ ويبسط القول في دور الفلسفة في هذا العصر الذي يتميز بسلطات العلم كالتالي:

1 - أن تترك الفلسفة العلوم لأصحابها‚

2 - أن تضطلع الفلسفة بتحليل الاسس التي تقوم عليها العلوم نفسها‚

3 - أن تقف الفلسفة عند الألفاظ التي تكون أركاناً أساسية في التفكير العلمي وتتناول تلك الالفاظ بالتحليل الذي يحدد معانيها والذي يتعقبها إلى أصولها‚

وبذلك تنحصر وظيفة الفلسفة في هذا العصر العلمي في التقدم والتحليل ونقد وسائل التعبير وتحليل معاني الألفاظ التي يستخدمها الرياضيون والعلماء ليزداد الانسان فهماً لما يقولونه وهذا الدور التحليلي للمفاهيم والألفاظ قام به من قبل سقراط عندما سعى لتحليل المفهومات السائدة في عصره ويرتبط ذلك بالإصلاح في أن السعي وراء مزيد من المعرفة بطبائع الأشياء وحقائق المعاني هو بمثابة الجوهر في حركات التنوير‚ فكلما زدنا أبناء الأمة ادراكاً للمعارف الصحيحة عن دنياهم زدناهم بالتالي نوراً‚ وعكس ذلك هو الظلمة والظلام والظلم نعم ‚‚‚ نعم ‚‚ إن الظلم صنو الظلام لغة ومعنى فاذا رأيت الظلم قد باض وأفرخ فأعلم أن علة ذلك هي أن عتامة قد حجبت النور من الأفئدة لقلة ما يعرفونه ومع القلة جاءت كذلك أغشية من ضباب الخلط والغموض ومن أجل هذا قامت في الناس حركات التنوير كلما دعت دواعيها ولب التنوير هو مزيد من معرفة صحيحة واضحة‚

ويتقدم خطوة أخرى في هذا المنحى قائلاً‚ وهو أن بعض الحل يكمن في تحليل تلك الافكار لتنكشف عناصرها فتفهم فتتحول إلى سلوك‚ وهنا نقله نوعية اذ يستلزم ذلك تعريفه للفكر‚

فليس الكلام نسخة اخرى من شيء وراءه فكر بل الفكر هو الألفاظ نفسها وطريقة تركيبها وفهمنا لتركيبة لفظية معينة هو امكاننا ان نضعها في تركيبة اخرى‚

ويجزم: انني على عقيدة باننا اذا ما درسنا حالة اللغة وطرق استعمالها في أمة معينة أو عصر معين من عصور تاريخها استطعنا أن نستدل على مقدار النشاط الايجابي المنتج في حياة تلك الأمة إلى أن يصل لمزيد من التوضيح قائلاً : صور لنفسك هذا العالم وكأنه صفحتان منشورتان بين يديك احداهما هي الكون بكل ما فيه من كائنات والاخرى هي مجموعة الكلمات التي اثبتها الانسان على طول تاريخه في كتب وصحف وما شئت ان يكون مضافاً إليها من مجموعة الألفاظ التي تدور بها الاحاديث بيننا‚ فعلى يسارك اشياء وظواهر وعلى يمينك رموز لغوية أو ما يشبهها من رموز العلوم‚

ومن هنا تتضح رؤيته الإصلاحية للغة محافظاً على نحوها وما يميزها دون الدعوة إلى التخلي عن العربية كلياً كما يفعل البعض الآن‚

وأثبت ان العيب قد لا يكون في اللغة نفسها لكن في نقص موهبة وقدرة من يتحدثون أو يكتبون على بث روح العصر فيها‚ وأكد أن أصالة العربي تبدأ من كونه يتكلم لغة عربية‚ واذن فلا بديل أمامنا إلا أن نرعى هذه اللغة على ألسنة أبنائها وأقلام كتابها فهي بطاقة الهوية التي تجعل من العربي عربياً‚ ويلخص مشروعه النهضوي في:

فلابد من صب هذا العصر بكل ما فيه من علم وأدب في وعاء اللغة العربية فالأصالة في هذا المجال هي في اللغة العربية التي هي لغتنا لا لغة أحد سوانا والتي هي كذلك ميراث تسلمناه من أسلافنا وأما المعاصرة فهي أن نصب عصرنا في وعائها‚