Translated from the Arabic by William Maynard Hutchins

خطوة والموت قصة قصيرة لمحمود سعيد

تقديم الكاتب:
أعرف أني لن أعود ثانية، لن أعود إلى حقول الفستق والتوت والرمان، ولن أرى مرة أخرى دوالي العنب، وأشجار اللوز والبندق، ولا قطعان الجاموس، أو الأغنام قادمة من المراعي كل يوم، لا أتذوق بعد اللحظة هذه قشطة القيمر، ولا اللبن الخاثر، ولا جبن الأغنام الذي لا مثيل له على وجه الأرض. لا وجود بعد اليوم لأطيب بقلاوة في العالم، ولا أفضل سجق، لن أعود لأني لا أجد بيتاً ولا حتى غرفة لي. دمّر القصف كل شيء يعلو عن الأرض، كل الأبنية عادت حطاماً، لم يعد هناك آجر، ولا مرمر، ولا أعمدة من رخام ملوّن، لا أستطيع أن أتمشى وسط حقول لا نهاية لها من ورود الأقحوان الصفر، أو زهرات البيبونك الأبيض، ولا حتى شقائق النعمان. هل سينبت النرجس والقرنفل والورد الفواح في ساحات المدينة مرّة أخرى، مع الكراث الطبيعي؟
لم تعد المدينة قائمة، قذفت بعشرة أضعاف القنابل التي دمرت برلين في الحرب العالمية الأخيرة. كانت الموصل في الجانب الأيمن فقط، بعد الخمسينات بني الجانب الأيسر. لم يبق من الجانب الأيمن إلّا مجموعة أنقاض لا يعلو منها فوق الأرض سوى أكوام من الحجارة والآجر، لم يعد هناك عمارات، بيوت، مخازن، حتى شوارع، أصبحت المدينة غابات من ركام وتلالاً من حديد معقوف كشعرات شيطانية سوداء في كل اتجاه.
كتبت عن موصل الجانب الأيمن، رواية كاملة. ذكرت في روايتي أسطورة يرويها العجائز، عن قطعان من الذئاب هاجمت المدينة، في ليلة باردة جداً، التهمت كل شيء أمامها، ولم يوقفها سوى أحد المتصوفة وقف في طريقها فأنقذ المدينة، لكن لم يتصدَّ أحد للذئاب البشرية الآن، فانتهت المدينة بالكامل .
قبل أشهر كتب الصحفي المشهور James Verini كتابا عن الموصل بعد قصف التحالف:
they will have to die now
ووصف كيف تجمع أعداء المدينة كلهم، على تدميرها، وأنهم كانوا كالذئاب الذين وصفتهم في كتابي.
مئات الآلاف دفنوا تحت الأنقاض، اصبحت البيوت كلها قبوراً لأهلها، أصبحت طائرات العالم كالعقبان لا تفعل غير نهش جثث جريحة لا تستطيع الدفاع عن نفسها.
قصدت البيت الذي ولدت فيه، قبل 78 سنة، البيت ملاصق لجامع باب جديد، بقي في ذاكرتي كل شيء عن الجامع، بابه الحديد العريض، المنارة، القبلة المزخرفة، حائطه الملاصق لبيتنا، حتى صورة المؤذن وأنفه الضخم، أتذكر طائرات الحلفاء الحربية تطير من فوقه، ربما كان ذلك سنة 1944، في الطائرات دوائر حمر في وسطها بؤرة رمادية مدوّرة، سمعت بعدئذ أنها كانت تذهب إلى طهران، وموسكو،.أصبح البيت، الجامع، المئذنة، بيوت الجيران، كومات حجارة وأسياخ حديد.
أجمل ما في المدينة ساعة كنيسة اللاتين، والمنارة النورية، الساعة كبيرة فاخرة يسمع صوتها في معظم المدينة، أهدتها زوجة نابوليون الثالث “الفرنسي”، لبعثة راهبات اللاتين، آه كم كانت رسوموات الكنيسة في الداخل جميلة! وجوه الملائكة والطفل أسرني. وصفتُ ذلك في رواية أخرى. دخلتها مرة مع صديقي توما، لكنه لم يرافقني بعدها قط، يهتف بي غاضباً: إذهب وحدك. الكنيسة تجاور أشهر جامع في الموصل، شقيقة صغيرة يرعاها أخوها الكبير، منارة الجامع حدباء، أعلى منارة في المشرق العربي، محدودبة فوق منارة الكنيسة كأنها تحرسها، لا يوجد في العالم كله نقوش رائعة في منارة كما في المنارة الحدباء، رأيت شبيها لها في المغرب، لكن بحجم أصغر. عندما أصادف في طريقي كومة أنقاض أبتعد وأسد منخري كي لا أشم رائحة من قُتل تحت الركام. لم تقم السلطة بإزالة الأنقاض ودفن الجثث، يقولون ليس عندنا مخصصات. إذن كم سيبقى الركام يجثم فوق صدور الضحايا؟ كان عليّ زيارة ما تبقى من اسواق المدينة التاريخية “سوق العتمه ي”، باب الطوب، باب السراي، باب البيض، باب… الحدائق، السينمات، المدارس المشهورة، الجوامع بقبابها ونقوشها الفاتنة، المكتبات التي قضيت فيها مراهقتي وشبابي. أدركت أنني سأزور ركاماً برائحة القتلى، ركام بخلايا إنسانية كانت وستبقى تئن إلى قيام الساعة. اقتربت من الثمانين، وشاخت مدينتي معي، وانتهت تحت القصف، وسأنتهي أنا أيضاً بعدها.

عند زيارة الجانب الأيمن، في الموصل،
ورؤية جرائم داعش وقصف التحالف.
تشرين الثاني.2017

خطوة..والموت
الطّفلان قربهما على حشيّة، في الظّل، قدّرا أن شمس آب ستصلهما بعد ساعتين. رفضتْ أن تنزل إلى السّرداب، نظرت إليه بعينين مذعورتين دامعتين: السّرداب قبر، مظلم، رطب. إنزل إن شئت، أنا لا، أتمزّق هنا كالآخرين بالقصف، حين يأتي القدر، خير من أقبر نفسي وأنا حيّة.
“قدرنا معاً، لن أنفصل عنك”.
ارتجّ الكون كلّه، لم يشعرا إلّا وهما يخطفان الطّفلين المرعوبين من الأرض، يتعانقان، يرميان نفسيهما حول بعضهما، يصبح الجميع جسداً واحداً. كانا يجلسان على حشيّة وسط الحوش، بعيداً عن أيّ جدار بمسافة كافية تحميهما إن انهار الحائط. وضعا الكراسي في الغرف، جلسا على الأرض، منذ ثلاثة أيام يتحينان فرصة للهروب إلى نقطة اِسعاف على بعد مئتي متر فقط. لم يخرجا ليريا ماذا بقي سالماً من بيوت الجيران. يحسّان بضعف شديد، لم يتناولا أيّ شيء منذ أيام. الطّفلان يبكيان، وضعت طه قرب أخيه في حجرها، قال وهو يعاني صعوبة بتحريك لسانه من العطش: لو عندك قطعة من الململ لاستطعت تنشيف خزان الماء، لعلي أحصل على بضع قطرات ماء.
“وماذا عن قناص داعش، في بيت أبو أمجد، إنّه في العليّة، يسيطر على دروب “الثّلمي” بكاملها.”.
“إن كان بالعليّة، فسيحجز بيننا الحائط الشّرقي، وإن تحرّكتُ بحذر سلمت”.
“أجيء معك”.
“لا، الطفلان يبكيان، جائعان، عطشانان، لا تتركينهما وحدهما، يستطيعان صعود الدرج زحفاً وراءنا، سنة وثلاثة أشهر، هما في غاية الضّعف من الجوع، إن سقط أحدهما من ثلاث درجات مات. أذهب وحدي”.
وضعت التّوأمان قرب بعضهما على الحشّية، ودخلت الغرفة، ثم خرجت وبيدها ابريق الشّاي الصّيني، وقطعة بيضاء من الموصلين مطويّة.
“اذهب، سأدعو الله لك”.
ابتسم بألم: “نعم، ليس بيدنا غير الدّعاء”.
أخذت تهزّ الطّفلين في حجرها، وهما يبكيان، ثم رفعت يديها ووجهها نحو السماء، ودعت بقلب محروق وهي تبكي:يارب عَظم البلاء،واشتد ظلم الأعداء،وضاقت الحياة بنا،وأنت الأمل والرّجاء،أرحمنا برحمت كيارب.
لم تهدأ، كانت تنتفض ودموعها تخرّ، وهي تمسحها بكفها، ثم تعيدها لتسند بها رأس أحد الطّفلين.
التفتتْ نحو الدّرج متلهّفة، حين سمعت صوت أقدامه نازلاً، لكنّها استدارت نحو اليسار رغماً عنها باتجاه الانفجار الشّديد: هل حصلت على كثير؟
وضع الإبريق على بعد قدمين منها، ثم اسرع يترنح من التعب، نحو المطبخ، جاء بملعقة وصحن. اجلست التوأمين بين ركبتيها، وهي تراقب الملعقة بما فيها من ماء، ترجّت: “دير بالك وأنت تسقيهما كي لا يُبددان الماء بحركة طائشة”.
“لهذا جئت بالصّحن”.
شرب طه، لكنّه ظلّ يبكي، وهو يحرّك يديه نحو الإبريق. لكنّ أباه سقى أخاه، وأمّه، ثم وضع آخر ملعقة في فمه.
ابتسم: قياس بالتّمام.
ابتسم لأوّل مرّة منذ لا يتذكّر: يا لها من مصادفة.
ابتسمتْ: إنّه دعائي، وسأدعو مرّة أخرى.
نظرت نحو السّماء: ، اللهم فرّج همنا،واكشف غمّنا ياربّ.
سمعا خرخشة في الباب على بعد بضعة أمتار. فتحت عينيها مذعورة: ما هذا؟
“لا بدّ أنّه هوش، نظرتُ إلى الشّارع، رأيت في فمه قطعة خبز بحجم الكفّ”.
“لماذا لم تقل.سآخذها منه، هو يألفني، لطالما داعبته، وأطعمته”.
“أخشى أن يعضّك”
تجاهلته، هرعت إلى الباب، فتحته قليلاً، نبرت بصوت رقيق: “هوش حبيبي تعال”. أدخل الكلب قليلاً من رأسه، وفي فمه كسرة الخبز. أسرعت ضربتها بقوة أسقطتها من فمه، دفعته، أغلقت الباب. ابتعدت بخفّة. تلمع عيناها انتصاراً. علا في الجو دفقة رصاص، أصابت أسفل الباب، والعتبة المرمر، بينما سمعت أصوات طلقات أخرى مكتومة تنقر الحائط. مع صرخة نباح ألم شديد من الكلب المصاب.
نظرت إلى زوجها بعينين مغموستين بتأنيب ضمير شديد، ظنّها ستبرر عملها، لكنّه لم يسمع شيئاً. فتح التوأمان أعينهما فرحين بالخبز. تساءلت: هل ينقل الكلب أيّ مرض؟
“لا، إلّا إن عضّ وجرح”.
“الحمد لله”. اتسعت عيناها باهتمام وهي تنظر إلى زوجها شاكية: الخبزة قويّة كالعظم.
رمتها إليه، تلقفها، حركها ليكسرها، قال: نعم، قطعة حديد.
بكى الطّفلان وهما يمدّان إيديهما نحو الخبزة، ووضع أبوهما طرف الكسرة في فمه، فاستعصى قضمها. قالت: الله وحده يدري أين عثر عليها؟
ثم هتفت: ألم يبقَ في الخزان بضع قطرات لننقعها؟
“لا”.
“كيف سنطعمها الطّفلين؟”.
“دعيني انظر إلى بئر الحديقة، فلعلّ شيئاً من الماء نبع.
مشى متعباً، شبه راكع. رجع، قال بصوت جاف مبحوح: الحفرة يابسة، لا قطرة ماء، ليس أمامنا سوى أن تبولي عليها”.
صرخت مستنكرة: “ننقعها بالنجاسة؟”
“خير من أن يموت الطّفلان، الضّرورة تبيح”.
“لا، لن أبول عليها”.
“حياة أو موت، أنا أفعل”.
نهض، لكنّ قصفاً آخر جعله يرتفع، يفقد توازنه، ثم يقع، هتفت متفجعة: هل أصبت؟
“لا”.
أدار ظهره إليها. التفت بعد دقيقتين، قال يائساً: لم تنزل مني قطرة بول واحدة، إن بقينا كذلك سنموت كلّنا خلال يومين، لا نستطيع أن نقاوم العطش أكثر.
“ولا الجوع”. نظرت إلى السّماء بتضرع: اللهم ارحمنا بالفرج، وأبعد عنا اليأس، يا أرحم الراحمين.
” كل هذا، ونحن في آب”.
نهضت: سنخرج بعد قليل، مهما كانت الظّروف.
لوّحت بقطعة الخبز: سأطحنها، لتذوب بفمهما، ولعلي اخلط الدّقيق بالمنوّم، لن نستطيع تنفيذ خطّتنا إلّا به.
ردّد: نعم لا بدّ من الخروج.
اقترب من الطّفلين، وضعهما في حجره، هدهدهما، آنذاك سقطت القذيفة الحافرة، ارتفع الجميع بالرّغم منهم نصف قدم، ثم هووا، كاد الطفلان أن يسقطا من حضنه، ارتمت عليه فوقع على ظهره، فاجأهما هدير مئة قطار يحتلّ الكون، أحسّا بأنّهما يدوران حول نفسيهما. لهث: الحمد لله وقع رأسي على الحشيّة، وإلا جرحت. ستمحو القذيفة كلّ شيء في دائرة محيطها مئتي متر. أحسّ بالصّمم يكاد يفجّر رأسه. صرخ الطّفلان بأقصى قوّتهما. انتهى الانفجار بتفرقع أخف. استمر صراخ الصّغيرين. قبل أسبوع رأى حفرتين الأولى عمقها في الأقل عشرة أمتار، وقطرها نحو عشرة أخرى. أحالت جامع الشّيخ محمد إلى ركام. ترى أين سقطت هذه؟ لا شكّ أنّها قرب مركز باب الجديد، هل نكبت بيتاً واحدا أم عشرات البيوت؟ من يدري!
خرجت من المطبخ وجهها مخطوف وهي تقول: عثرت، كدت أسقط، كاد ما طحنته أن يتبدد، لطفك يا ربي!
حضنها بحنان، توسّل: بولي عليه إن استطعت، لا يستطيع الأطفال أن يأكلاه هكذا، سيختنقان، إنّهما يتضوران مثلنا، رجاءً.
“سيتسمّمان”.
“البول لا يسمّم، افعلي رجاءً”.
“حسناً، أمري لله”.
قرفصت وهي تدير رأسها، هتفت بتضرّع: يا ربّ عفوك.
بدأت تطعمهما قليلاً، قليلاً والأمتعاض واضح على قسماتها. أخذ، يمسح دموعها بحنان، قال وصوته يتهدّج بحزن: “يا ليتني سمعت كلامك فهاجرنا بعد الزّواج”.
التفتْ إليه غاضبة: “كم مرّة قلت لك لا تندم على ما فات، النّدم حرام، إحمد لله!”.
وضع كلّ منهما طفلاً بحضنه، وأخذ يهدهده، حتى ناما. وضعت عباءتها على رأسها، وتنقبّت، لم يعد يظهر سوى عينيها، قالت: هيّا.
اتّجهت نحو الباب بخطوات واهنة، هتف بعصبيّة: أتريدين أن تموتي؟ اين قتل الكلب قبل ربع ساعة؟
أخذا يصعدان الدّرائج، يحمل كلّ منهما طفلاً، وهما يلهثان. قال: تحرّكي بهدوء، لا طاقة لدينا، حاولي أن تخفضي رأسك.
سار أمامها، وإذ شاهدها تكاد تنهار من التّعب، أشار إلى السّتارة: إن هي إلّا خطوتين، أرتاحي تحتها.
إتّكآ على الستارة وهما يلهثان، لفّ ساعده الأيسر، عانقها، وضع خده على خمارها: قال بعد أن قبّل الخمار: تمنيت لو استطعت حملك.
“الحمد لله”.
الحائط مهدوم نحو مترين في الأعلى، عبر، اخذ الطّفل: “اعبري الآن”.
تلقاها كي لا تتعثّر بالآجرّ المتهدّم بقصف الطّائرات. مدّ يده كي يساعدها لتخطو فوق الحطام، لكنّها ما إن وضعت قدمها حتى دوت الرّصاصة. أحسّ بها تسقط مع صرخة عظمى، قطرات ساخنة تبلّل وجهه، النقاب يطير مع جزء من شعرها الأسود الفحم، الذي يحبه. الدّم يتدفّق صنبوراً قانيا. جبهة محفورة. من دون شعور صرخ: “الله، الله”. وضع طه فوق ياسين على ساعده الأيسر. تلقاها بذراعه الخالي كي لا تسقط. أصبحت ثقيلة. تنفسها أشبه بشخير عالٍ. لم يستطع حملها. سحبها بيد واحدة. جلس ودموعه تسحّ بغزارة. هي بين ذراعيه مع طه وياسين. أدرك أنّ عليه أن يتحرّك. لو وضع الطّفلين في الّشمس سيموتان من الضّعف ولهيب الشّمس. تذكّر أن هناك ظلّ شبه دائم بين خزان الماء والحائط. انتزع عباءتها وهو يبكي. أسرع بالطّفلين، وضع العباءة تحت رأسيهما في ظلّ الخزّان. حملها، كانت يداها، ورجلاها ترتعشان بشدّة. دموعه تسيل بالرّغم منه.تكاد تعميه. نزل بها. يهتف من دون شعور: لا تموتي. لم يستطع تركيز النّظر، لكنّ شيئاً ما من جلدة رأسها المفتوحة، اقتحم عينيه، مع فقاعات بيض علت على جرح، فوق عظم أبيض. صعدت الحموضة إلى فمه، كاد يتقيّأ. همدت حركتها، جلس على آخر درجة، وهي في حضنه. دموعه تتساقط على صدرها. بدا وجهها جميلاً بالرّغم من شحوبه، فمها مفتوحاً، لم ينظر إلى الجرح. تذكّر الطّفلين في السّطح. أراد أن يحملها إلى الحفرة، لم يستطع. أمسكها من يديها، سحبها. رأسها يتأرجح. شعرها يمسح الأرض. أشعة الشّمس قويّة كجهنّم فوق البئر، انزلها. هوت. ساقاها في الأسفل. نهض، وهو يلهث. أراد أن يسرع عبثاً، لم يجد قوّة تمكّنه. صعد يترنّح. “الحمد لله لم تصلهما الشّمس”.
حملهما بصعوبة، وجه أحدهما مصبوغ بالدّم، بينما انتثرت قطرات دم على جبين الثّاني، وأعلى أنفه. قبل ان ينزل دوت رصاصة القناص ثانية، نقرت الحائط قربه. احنى جسده بردة فعل طبيعيّة سريعة. نزل، جلس على آخر درجة وهو ينهج، نظر إلى وجه الطّفلين، أخذ يمسح الدّماء المتيبّسة بخمار زوجته. سحب الحشية، إلى اعماق الظّل، مدّدهما بعناية. دموعه تنقع وجههما. توجّه إلى الحفرة، القى جسد زوجته، بعناية في عمق ثلاثة اقدام، أخذ المسحاة، بدأ برمي التّراب فوقها بضعف شديد.بكي بصوت عال: يا إلهي عونك! ماذا فعلنا؟
حمل الطّفلين، أحسّ انّهما ثقلا. كانت يسراه تؤلمه بشدّة، حاول ان يسرع عبثاً ليعبر الشّارع. يتوقّع الموت. سمع رصاصة رجّته، لم يشعر بألم. أين أصابته؟ رجع إلى البيت. ما إن دخل حتى تلاشت قوته، جلس على الأرض يلهث. رأسه يدور. تنفّس بعمق. “تمالك نفسك. لا تدع المصائب تقتلك. لأنقذ الطّفلين”. أحسّ ببلل تحت الطّفل المحمول بالذّراع الأيسر.رفعه رآه يقطر دماً، فوق أخيه، وضعهما على الأرض. ذهب إلى الحفرة، تلاشت قوّته. رجع تناول الطّفل، وضعه في الحفرة. فوق ما بدا له أنه قبر أمه، أخذ يهيل فوقه التّراب.
خطر بباله شيء، دخل الغرفة، تناول قمصلة جلد ثخينة، أحسّ بألم ذراعه الأيسر يلسعه كرجة مسّ كهربي، حين ارتداها، تمدّد على بطنه، في الشّارع، وضع الطّفل على ذراعيه كما يحمل الجنديّ سلاحه. بدأ يزحف ومرفقه الأيسر شبه مشلول من الألم، وصل نصف الشّارع، تفادى الرّكام في الوسط. دوت رصاصة يميناً، حفرت الشارع قرب وجهه، شم رائحة القير. مرّ بجثة الكلب، ينظر اليه بآخر ومضة حياة. أزّت أخرى فوق رأسه، ثالثة إلى اليسار، استمرّ يزحف بدأب. الرّصاص يترى حوله. “يا ربّ اقتلني وانقذ الطّفل”. لم يصدّق أنّه وصل الرّصيف الثّاني من الشّارع سالماً. معجزة. ايّ معجزة. لا يغامر القناص بالنّزول لقتلهما. جلس بضع ثوانٍ يستريح. إن هي إلّا بضع دقائق فقط حتى نقطة إلاسعاف.
رأى بعد دقائق أحدهم. ارتفع صراخه محذراً: التزم الحائط. لا تنزل إلى الشّارع. تناول أحدهم الطّفل. رأى قنينة ماء بلاستيك، اختطفها، أنهاها في جوفه. أحسّ بموجة حوامض تقتلع أحشاءه، تقيأ بعض الماء. جلس في مكانه على الأرض. رأسه يدور. شاهد أحدهم ينزعه قمصلته، يسحبها، يسحب روحه معها من الألم. الدّماء تخرّ منها. “أنت مصاب بذراعك”.
أهو يتكلّم معه؟ رأسه ثقيل، يدور. فقد وعيه. فتح عينيه. كم بقي؟ لم يسأل. وجه باسم، يطلّ عليه: داوينا، خيطنا الجرح. ستشفى. تقدّم وجه آخر، تساءل: متى قتل الطّفل؟ لماذا أتيت به وهو ميت؟ لم يعِ الكلمات الّا بعد تكراراها، مراراً.
“من ميت؟”
“الطّفل؟”
قربّ الرّجل الطّفل منه، يلوّث الدّم وجهه، جسده. ساعداه يتدلّيان. ثوبه ينحسر حتى ركبتيه: إلمسه بأصابعك، جسده بارد.
هتف: ابني ياسين حيّ، غير ميت. اعطيناه منوّماً كي لا يصرخ، فيسمع القناصون.
“هو ميّت. حاولنا شتى الطّرق لأيقاظه. المنوّمُ يتنفّس، طفلك لا”.
تسمّرت عيناه على لا شيء وهو يفكّر، تمنى أن يموت هو أيضاً، فجأة اعتدل، بلوثة جنون صاح بأقصى صوته: يا ويلي، يا رب السّموات. دفنت أخاه الحيّ مكانه.
أخذ يضرب رأسه بكفيه وهو يصرخ ويبكي، والرّجلان ذاهلان. لا يدركان ما يقول.