العجوز إبرين

جلس إبرين إسحاق، وهو مقيم متقدَّم في العمر من بلدة عَيل أدّو، على طاولة في المطعم المتواضع حسنو والذي يقع على الطريق الرئيسية التي تعتمد في تجارتها على المسافرين. منذ اندلاع الحرب القبَلية لم يعد هناك سوى القليل من المسافرين، ولم تتوقع إدارة المطعم حضور أى عملاء لمدة لا تقل عن ثلاث ساعات. كانت الشمس على وشك الغروب وكانت ترسل أشعتها الصفراء المعتادة عبر البلدة بأكملها. قام نادلٌ برش الماء خارج باب المطعم. والرجل العجوز كان يسند عُكّازته على حُضنه ويحملق أمامه متأملاً. كانت شفتاه جافتان ومضمومتان. وكان يرتدي قميصاً أبيضاً قصير الأكمام مع مئزرٍ مقلم.
"يوسف" صاح العجوز منادياً أمين الصندوق، "تعال إلى هنا وأحضر معك ورقة وقلماً".
في تلك الأثناء كان أمين الصندوق، وهو شابٌ يقارب العشرين من عمره، يعُـدُّ بعض الأموال على مكتبه، فقام الشاب تلبية لنداء العجوز، ودفع الدرج داخلاً وأحكم إغلاقه. كانت له بالعجوز صلة قرابة، فقد كان إبن إبن عمٍ لجـدِّه.
"ما فائدتك بالنسبة لقومك؟ كم هم أغبياء أولئك الذين أرسلوك إلى المدرسة، هلُمّ إلي، دعنا نستفيد مما تعلّمت واكتب لي رسالة موجهة إلى إبني رشيد." قال العجوز ذلك ضاحكاً. اتّخذ يوسف موضعه مقابل العجوز إبرين وكشف صفحة بيضاء فارغة.
"أكتب ما أُملي عليك، وبالطريقة التي أقولها، هل تفهمني؟"
"حسناً " قال يوسف.
بدأ العجوز:
"السلام عليكم. كيف حالك يا إبني الحبيب؟ أما فيما يخصُّني، فأنا على أحسن حال؛ وأدعو الله أن تكون كذلك. والدتك تهديك أجمل التحيات؛ إنها تفتقدك كثيراً. قد مرَّ الآن أربع سنوات يابُنيّ. ولا أعتقد أنك قلق بشأننا بمقدار قلقنا عليك. يقول قومنا يا بُني ‘شخصٌ أنجَبْـتَه أنت لم يُنْـجِبْـك هو’. وهذا هو الحال بالنسبة لك ولنا: نحن أكثر قلقاً منك.
"لديك الكثير من النِّعم. ومامن أبٍ يمكن أن يكون لديه إبنٌ أفضل منك. جزاك الله خيراً على الأموال التي أرسلتها إلينا في العيد الماضي. لقد اشتريت بها ماعزاً وأقمنا وليمة كبيرة. أخوك سَمو سيقدِّم امتحاناته النهائية خلال أسابيع قليلة. هاهو يجلس في البيت معنا منذ خمسة أيام، أي منذ أن أعاده معلِّموه إلى البيت بسبب زِيِّه المدرسي الذي أصبح رثّاً قديماً، وبالتحديد القميص الذي فقد لونه الأزرق الفاتح وأصبح الآن أبيضاً. لن يسمح له المعلمون بالعودة إلى المدرسة إلا إذا ارتدى الزي الرسمي بألوانه الصحيحة، وأنا في الواقع لا أفهم مدى أهمِّية ذلك؛ لماذا يجعلون من لون القميص قضية طالما أن الطفل يتعلم؟ تأمل والدتك أن يتسنّى لها جمع مبلغ من المال لشراء قميصٍ جديدٍ قبل يوم الامتحان. وفي الوقت الراهن سيبقى أخوك معنا في البيت. لا يسعنا أن نعيده إلى المدرسة مرتدياً ذلك القميص بعد أن ساطوه بصورةٍ مؤلمةٍ في المرة الأخيرة لدرجة أن مؤخرته كانت لا تزال تدمي عندما عاد إلى المنزل.
"عزيزي، ليكن لديك علمٌ أن أمورنا على خير ما يُرام، ولكن والدتك ذهبت البارحة إلى المستشفى وأخبروها أنها لا تملك كفايةً من الدم. لابد أن ذلك بسبب البعوض. فيما عدا ذلك فليس لنا أي شكوى ولله الحمد.
"لست أدري إذا كان قد بلغك أننا فقدنا سبعة من قطيع جِمالنا المكوّن من اثني عشر جملاً لصالح القبيلة الأخرى؛ أنت تعرف من أقصد يابُنيّ، فلا داعي لذكر أسماء. كُنتُ في ذلك المساء وحيداً مع الإبل عندما ظهر لي عن بُعدٍ ثلاثة رجالٍ مسلّحين، وأطلقوا عياراتهم النارية في الهواء ليتحققوا ما إذا كان رعاة القطيع مسلّحين بدورهم. شعرتُ بالعجز عن الدفاع عن نفسي بسبب تفـوّقهم العددي، فاختبأتُ خلف أجَمةٍ قربية. طلقاتهم أصابت بعض الجِمال بالفزع فهربوا، وهكذا لم يبق لدينا سوى خمسة منهم. وربما قد سمعت أن رجال الجيش قد صادروا بندقيتي. في البداية قمت بدفنها، ولكنهم انهالوا علي ضرباً، وأرغموني على إخراجها من مكانها تحت التراب. كان التخلّي عن سلاحي أمراً شديد الصعوبة. ربما لا تزال تذكر كم كلّفني شراء تلك البندقية.
"لقد استخدمتها مرة واحدة فقط، وذلك بعد عدّة أيام من نهب جمالنا حيث أني أطلقت عياراً نارياً على مجموعة من القبيلة الأخرى. عندئذٍ أخبرت زعيم القبيلة أنهم كانوا مسلحين، ولكنهم لم يكونوا كذلك يا بنيّ. لا أعلم كم واحداً منهم أصيب من جرّاء عياري، ولكنني على يقين أني قتلت بعضهم. إنهم لا يُبقون على ثرواتنا وعائلاتنا يابنيّ، فكيف نُبقي عليهم؟ أرجو أن لا تخبر أحداً بذلك.
"الأوضاع لا تزال قاسية يابنيّ. لقد علمت للتو أنه تم إطلاق النار على حافلة قادمة من جهتكم في الليلة الماضية. وقيل أن شاباً من قبيلتنا قد قُتِل، وشخصين آخرين جُرحا من جرّاء هذا الطلق الناري. سوف تنطلق سيارة الإغاثة من هنا بعد فترة قصيرة، يقودها سائق الحافلة التي تم إطلاق النار عليها يوم أمس، فهو نفسه الذي نقل الخبر إلى عَيل أدّو. وقد بلغني أن المصابَين يتلقيان العلاج في مستشفى مقاطعتكم في حال رغبت في زيارتهما. لديّ إحساس أنك سوف تكون على ما يُرام. منذ أسبوعين راودني حلم لليلتين على التوالي، رأيتك في منامي تأتي لزيارتنا ممتطياً صهوة حصان طائر.
توقف العجوز لبُرهة. وشرد بأفكاره بعيداً، فبدت له صورة واضحة جليّة لابنه رشيد قبل أربعة أعوام، كان حينها إنساناً هزيلاً، أنهى دراسة الثانوية العامة بتقدير متواضع. أصبح يائساً تماماً وشديد الإحباط في وقتٍ ما. على أية حال، كان للتو قد بدأ يمارس بعض العادات السيئة كالتدخين ومضغ القات واستخدام أنواع أخرى من المخدرات، ولكن هاهو الحظ يتبسَّم في وجهه. فقد افتتحت إحدى منظمات الإغاثة قاعدة جديدة في بلدة عَيل أدّو. وكان رشيد هو الشخص الوحيد من عشيرته الذي يمكنه أن يأمل في الحصول على تلك الوظيفة حيث أنه -على أقل تقدير- قد أنهى المرحلة الثانوية من دراسته. كانت المنافسة شديدة بين قبائل وعشائر أخرى. ولكن رشيد، ولله الحمد، كان الممثل الوحيد لقبيلته، فتم توظيفه.
"الفتاة التي اقترحتها لك للزواج في رسالتي السابقة قد تزوجت." تابع إبرين، "يالها من فتاة جميلة؛ كان لديّ يقين بأن حياتك معها ستكون ممتعة. على أيّة حال، يبدو أن تلك الفتاة لم تكن من نصيبك. وكما قلت لي يجب عليّ أن أحترم حرِّيتك؛ ولسوف أفعل ذلك، ولكن أرجوك أرجوك لا تتزوج أي فتاة من قبيلة أخرى، فأنت تعرف كم هي عصيبةٌ هذه الأوقات. في العام الماضي تزوج ابن جارنا إسماعيل فتاةً تنتمي لقبيلة خصومنا؛ وأنجبا طفلاً. ومنذ عدة شهور، وبالتحديد مع بداية النزاع الحالي، قامت زوجته بزيارة قومها ومعها طفلها. في تلك الليلة قام أخوها بالتسلل بعيداً مصطحباً الطفل معه حيث قام بقتله، لأنه واحداً منا. لذا يابنيّ العزيز، أرى أن تلتزم ببني قبيلتك.
"لقد كِدتُ أنسى أن أذكر لك أن والدتك لا تأكل جيداً، بل إنها تتقيّأ كل ليلة تقريباً. هي بحاجة إلى تناول الكبد، هذا ما قاله لنا الطبيب، ولكن لا يخفى عليك أنه لا يسعنا الحصول على الكبد. كان آخر ماعزٍ امتلكناه ذلك الذي اشتريناه بالمال الذي أرسلته إلينا منذ عدة شهور. أرجو منك يا بنيّ العفيف، إذا كان لديك فائضٌ من المال، فارسله لنا ولاتدع والدتك تموت بين يديّ. أعذرني يابنيّ، كان عليّ أن أخبرك بهذه الحقيقة، على الأقل هذه المرّة فقط. تركتها هذا الصباح نائمة على فرشتها، شاحبة وذابلة و.... " تهدّج صوت العجوز وابتلع غصَّة، ثم هز رأسه وتابع، "أمُّك تريد حليباً يابنيّ، ولكننا لا نملك حليباً. ماذا عساي أن أفعل؟ إن هذا الوضع يذكرني بآخر مرة زارنا الموت فيها. أتذكر جيداً يوم وفاة جدَّتك، كانت تطلب حليباً كل يوم، ولم يكن بوسعنا الحصول عليه إلى أن توفاها الله. كم أنا خائف الآن. أرجوك افعل شيئاً وسأصلّي من أجلك. فلطالما أعطيتك مباركتي، عدا عن كونك إنساناً مباركاً بفطرتك.
"لقد توقفت عن عملي في حفر المراحيض؛ وأعمل الآن كسمسار في سوق الماشية. لا يوجد العديد من المَعز جيدة البُنية للمتاجرة بها. وربما تكون قد سمعت بأنها لم تُمطر لدينا منذ أكثر من عام. بُنيّ، إذا لم يكن لديك شيئاً لترسله لنا، فلا تُرهق نفسك. الله معنا، وهو دائماً معنا ولن يخذلنا أبداً. توقف العجوز مرة أخرى ونظر إلى الخارج عبر باب المطعم حيث كانت هناك قطة تكافح لتحرير رأسها بعد أن علِق بعبوة ماء فارغة. وكان يفكر في ابنه رشيد.
عندما كان رشيد في سن المراهقة أصيب بمرض الحمّى الدماغية – ذلك النوع الذي يؤدي بالناس إلى الجنون. ولكن بفضل الله وكثرة الأمطار في ذلك العام، كان سعر الحليب رخيصاً. فحصل رشيد على كل شيءٍ كان يتمنّاه، مما سارع في شفائه خلال شهور قليلة. خلال العام التالي أصبح رشيد مشاركاً نشِطاً في السياسة المحلية، حيث كان يقوم بحشد الشباب حول مبادئ معينة مجادلاً بأنها سوف تصبح ذات فائدة على مر العقود. وكان الكثير من الشباب يعترضون على خططه. وبكل شجاعة، توسّع رشيد في طموحاته وأصبح أكثر نشاطاً. ولكن في أحد الأيام، ودون إعطاء أي تفسير، لم يعُد يتحدّث عن خُططه وأصبح صامتاً ومنسحباً.
"تابع الكتابة أيها العزيز،" قال إبرين مخاطباً يوسف.
" لقد أخفيت عنك أمراً، ولكن بعد تفكيرٍ طويل رأيت أن من واجبي إطلاعك عليه، فأرجو أن تكون لديك القوة والقدرةعلى تحمُّل هذا الخبر، وأن لا تسقط على الأرض متأثِّراً من وقْعِه. أمرٌ شنيعٌ قد حدث لنا. في نفس اليوم الذي فقدت فيه بندقيتي تحت تعذيب رجال الجيش، عانت زوجتي الثانية بدورها أشدّ معاناة. في البداية لم أرغب في إطلاعك على هذا الأمر لأنك في الأصل لم تكن على دراية بأني قد تزوجت امرأةً أخرى. لم يكن لهذا الزواج أن يتم لولا المال الذي أرسلته إلينا في العام الماضي. ولم نقُم بذبح ذلك الماعز - الذي شَكرتُك من أجله في بداية رسالتي - إلا بمناسبة هذا الزواج. زوجتي الجديدة امرأة في مقتبل العمر، وقد تزوجتها لأني في أمَسِّ الحاجة لمن يرعاني عندما أفقد قدرتي على السير. أرجو أن تتفهّم هذا ياعزيزي.
"على أية حال، لقد أصيبت زوجتي إصابة بالغة من أولئك العسكريين المتوحشين. أنا الذي أوجدت السلاح؛ لستُ أدري لماذا كُتِب عليها أن تُعاني كل هذه المعاناة. أربعة منهم عاثوا بها،" وبحركة سريعة شدّ العجوز عُمامة رأسه وغطّى بها وجهه وبدأ بالنحيب "ياالله! يا الله!"
" قمنا بحملها على ظهر الجمل إلى المستشفى المحلي هنا في عَيل أدّو حيث تلقّت علاجاً لإصاباتها. ومنذ ذلك الوقت وهي لا تستطيع النوم ولا تفارقها الكوابيس المزعجة. كان ذلك كفيلاً بإبقائنا جميعاً مستيقظين. إنها حامل الآن؛ ولست أعلم لمن هذا الجنين الذي في أحشائها. لا توجد طريقة لمعرفة نسَبه إلا إذا رأينا الطفل، فإن كان ابنهم، فإننا سنعرف ذلك حتماً. إضافةً إلى ذلك، كيف أستطيع أن أُنسيها ما مرّت به من عذاب؟ كان لا بدّ من إرسالها إلى والديها حيث تقيم الآن منذ فترة. ما من وسيلة أستطيع بها أن أُبرئ جراحها؛ فماذا عساي أن أفعل؟ ولكن الله معنا بالتأكيد، أدعوه أن يساعدنا جميعاً. ولعلّ الحصان ذو الأجنحة الذي كنتَ تمتطيه في منامي يكون طائرة خاصة بك.
" وفي الختام، لقد ذكرت من قبل أنك قادم لزيارتنا هذا الأسبوع؛ هذا ماقلته لي في رسالتك الأخيرة. تُرى ماذا حدث؟ اعتقدنا أنك سوف تكون هنا بالفعل. مع الكثير من الحب لك يابنيّ. أرجوك تعال لرؤيتنا في أقرب فرصة.
والدك، "إبرين إسحاق"
أخرج العجوز من جيبه ظرفاً بريدياً صغيراً مجعّداً. أعطاه يوسف الرسالة، فطواها ووضعها داخل الظرف، وختمه ثم أعاده إلى يوسف.
قال العجوز ليوسف "عَنْوِن هذه الرسالة باسم رشيد إبرين إسحاق." ففعل يوسف ما طُلِب منه.
"بارك الله فيك." قالها العجوز وسار بعيداً حاملاً الظرف في يده.
عبر العجوز إبرين الطريق إلى حيث كانت تقِف سيارة الإغاثة لتحميل بعض الأدوية للمصابين، واتّجه إلى نافذة السائق.
"عِلواق؟" موجِّهاً سؤاله إلى السائق. فحرّك السائق رأسه بالإيجاب، فناوله إبرين الرسالة ومعها عُملة من فئة عشرين شلنج.
"أرجوك سلِّم هذه الرسالة لابني. إنه يعمل في المستشفى. هو أيضاً من عمال الإغاثة."
حدّق السائق في الظرف، ثم عاد بنظره إلى العجوز وقد عَلَت ملامحه علامات التساؤل.
"مالأمر؟ تساءل العجوز.
"هذا الاسم يبدو مألوفاً جداً،" قال السائق. "كما ترى.. أنت تعلم أني كنت أقود الحافلة التي أصيبت بطلقٍ ناريٍ يوم أمس.
لم يتعرّف أحدٌ في عِلواق على الشاب الذي قُتل في الحادث، إلا أن وثيقة إثبات الهوية تؤكّد أنه من هنا، لقد أحضرت الوثيقة معي وسلمتها إلى رجال الشرطة المحلية. لستُ متأكداً أن اسمه الأخير كان إسحاق، إلا أني متأكد من الجزء رشيد إبرين."
بينما كان العجوز إبرين يسير عائداً إلى بيته في تلك الليلة، قال لنفسه "لو أن القتيل هو ابني رشيد، كان الأجدر بي أن أدرك ذلك عندما رأيته في منامي."