مسجد بن طولون و الفداء الإبراهيمى


لماذا سمى الحى بقلعة الكبش؟
كان هذا السؤال التقليدى الذى سألته لكثير من أهل الحى العتيق وأنا أتجول بين جنباته مترجلا أو راكبا ( التوكتك). الكل قطب حاجبيه متعجبا، فالسؤال ربما لم يجل بخاطرهم على الإطلاق. قلعة الكبش! بالطبع لا نعلم فهذا الاسم قديم أزلى... لا نعرف من أين جاء.
كانت تلك البداية ولكن كان بى إصرار أن ألقى نظرة على الحى القديم بعد أن قرأت فى الصحف أنه قيد الإزالة بعد أن تضعضت البيوت وتهالكت من فرط القدم...رحت لألتقط بعض الصور قبل أن يتم إزالة الحى تماما بعد أن انتقل سكانه إلى منازلهم الجديدة بحى الأسمرات...قطعت جزءا من شارع زين العابدين بحى السيدة زينب وأنعطفت يمينا إلى أن وصلت إلى السلم الذى يُعلم مدخل الحى، السلم عريض متصاعد بارتفاع هضبة عالية تقف أعلاه لتشاهد بانوراما للقاهرة القديمة.
حى قلعة الكبش، الذى يشكل ( جبل يشكر) الشهير جزءا منه، هو الحى الوحيد فى القاهرة الذى يرتفع عن مستوى الأرض فكان دائما معزولا عن مخاطر الفيضان والحرائق...لم يكن مجرى النيل بعيدا عنه...فعلى مسافة قليلة من أسفل السلم كانت تقع ( بركة الفيل) وشارع ( مراسينا) الذى كان فرعا من فروع النيل ترسو عنده السفن.
طبعا انحسر النيل فلم تعد هناك بركة أو مراسى ولكن بقى التاريخ، فقلعة الكبش أوهضبة الكبش يعود تاريخها إلى عهود الفراعنة، فلقد شيد عندها ( تنور فرعون) الذى كان يوقد عند مرور موكب الفرعون فيذهب الناس لتحيته...عند موضع هذا التنور بنى جامع أحمد بن طولون ـــ وهو الأثر الوحيد الباقى فى المنطقة منذ قرون طويلة ـــ بعد أن تهدم كل ما حوله...مسجد عريض فسيح لكنه بسيط يخلو من الزخرف والألوان، يتميز بمئذنته السمرائية التى بنى سلمها من الخارج.
تسمع الأساطير حول الكبش: كان لى أصدقاء يعيشون بالقرب من المسجد فحكوا أن هناك كرامات كانت دائما تظهر من فناء المسجد...هالات من نور أو هزات أرضية خفيفة تصدر من وسط الفناء...لم أنتبه إلى ذلك أو أعره اهتماما لصغر سنى لكننى بدأت أصدق أن تلك الأقاويل ليست عارية تماما من الصحة بسبب ما أسمعه اليوم عن قدسية المكان. تروى كتب التاريخ أنه كان هناك قلعة مكان المسجد عليها رسوم وتماثيل فرعونية قوامها الكبش الذى يرمز للإله آمون.
البعض يقول إن الحاكم بن طولون كان يقوم بذبح كبش أينما حل، عند موضع المسجد ظلت الذبيحة على حالها لعدة أيام و لم تتعفن فبنى الجامع هناك... أحمد بن طولون ــ المملوك ذو الأصول التركية ــ الذى ولاه الخليفة العباسى على حكم مصر ــ كان زاهدا ورعا رغم كونه حاكما حصيفا قوى الشكيمة، حفظ القرآن وكانت له تجليات صوفية...يقال إنه اختفى وهو يصعد بفرسه إلى أعلى المئذنة ولم تظهر له جثة...يقولون إن موسى عليه السلام أعتكف ليناجى ربه عند البقعة التى بنى عندها محراب المسجد. لكن يجمع أهالى الحى على أن هضبة الكبش كان يطلق عليها منذ القدم ( معقل الأولياء)، فأولياء الله الصالحين الذين اعتكفوا بها لا يكادوا يعدون أو يحصون.
لكن رغم كثرة الروايات إلا أننى لم أسمع قط من أى منهم أن مكان المسجد قد يكون الموضع الذى جرت عنده حادثة الفداء الشهيرة حيث أُفتدى إسماعيل عليه السلام بكبش من السماء قبل أن تستل عنقه سكين إبراهيم عليه السلام. طبعا تلك فرضية لا أطلب من أحد أن يسلم بها..لكن لها عندى من القراءات ما يشجعنى على أن أبنى عليها ما أعتقد أنه قد يقود إلى صفحة مجهولة من تاريخ أبى الأنبياء...وإذا أقول هذا أشدد قبل أن أبدا أن المسألة تاريخية بحتة ولا علاقة لها بالعقيدة على الإطلاق. العجيب أنه فى تلك البقعة شيد مسجد ( أحمد بن طولون) ليحاكى بعمارته المسجد الحرام فى مكة المنورة. وفعلا لم انتبه إلى ذلك إلا بعد شاهدت صورا عديدة له: اتساعه... الفناء...السور الخارجى الذى يغلفه سور آخر.
الغريب أن المراجع الأجنبية عن العمارة الإسلامية تشير جميعها إلى أن مسجد بن طولون شيد على البقعة التى وقعت عندها حادثة الفداء..أما المراجع العربية فلا تشير إليها..ربما لأن المكان فى حد ذاته لا يعنى شيئا..لكنها ترجع إلى أن موضوع الفداء هو إسحاق عليه السلام لكن هذا خارج موضوع النقاش فالأدلة تشير أنه إسماعيل عليه السلام لأن حتى الاسم ( إسمعيل) تعنى الذى يسمع ويطيع ولقد أطاع إسماعيل عليه السلام أبيه ورضى بما قسمه الله... ونفس الكلمة موجودة فى اللغة المصرية القديمة بمعنى ( القربان)...أما ( إسحاق ) فتعنى الضاحك المسرور.
ما أثار الموضوع مؤخرا عدة كتب أصدرها الباحث المصرى (سعد عبد المطلب العدل) كان أهمها ( أخناتون أبو الأنبياء) و( لوط عنخ آمون) و(الهيروغليفية تفسر القرآن) كان ذلك ما بين عامى 2000 و 2005 وأثارت جميعها جدلا كبيرا،فأما الأثريون فلم يعتدوا بها لإنها تنقصها الأدلة العلمية...رفضها الدكتور جاب الله رحمه الله وأنكر الدكتور زاهى حواس علمه بها...أما الدكتور عبد الحليم نور الدين فقد وافق بعد جدال طويل أنها فرضية مهمة. جميعهم بدأ الكلام بحجة واهية وهى أن اخناتون عاش فى فترة مختلفة عن تلك التى عاش فيها إبراهيم عليه السلام، لكن تسألهم متى عاش إبراهيم؟ لا يعرفون!! إذن على أى أساس يجىء الرفض؟
أما حكومة المملكة العربية السعودية فقد وضعتها على القائمة السوداء...الأزهر أطلق عليه اجتهاد ممدوح لا يمس بالعقيدة..والحق أن هذه الأبحاث أثارت دهشة جمهور عريض من الناس ونقمة البعض بزعم أنها تخرج عما نصت عليه الأحاديث ثم عدم أكتراث البعض الآخر...فلقد جبل الناس على سماع قصة سيدنا إبراهيم عليه السلام قصيرة مقتضبة ما يقارب من الخمس والعشرين قرنا، فإذا سمعها أحد فى سياق تاريخى فربما يصعب عليه استيعابها.
سعد عبد المطلب العدل باحث دقهلاوى عاش عدة سنوات فى ألمانيا فدرس اللغة المصرية والتاريخ المصرى القديم واعتكف ليقرأ فى علوم الدين والتاريخ.
ورغم خمود الجلبة حول تلك المؤلفات إلا أنها فتحت بابا أعتقد أنه سيظل موصدا وذلك لأن الباحث لفت الانتباه إلى الفراغ التاريخى الذى تعانى منه قصة إبراهيم عليه السلام، فسليمان وداود عاشا فى فلسطين...وموسى ويوسف فى مصر ومحمد صلى الله عليه وسلم فى جزيرة العرب. لكن أين عاش إبراهيم؟ نحن نعلم أنه ظل متجولا بين الجزيرة العربية ومصر والعراق وفلسطين يدعو إلى ديانه التوحيد...ظهر ذلك فى إشارات موجزة جدا لا يبرز منها إلا مهبطه فى الصحراء وبناؤه لبيت الله الحرام... لكن أين وقعت الفصول الأخرى من حياته؟ ثم أين كان المنشأ؟
جاء كتاب ( اخناتون أبو الانبياء) أخناتون أو الملك أمنتحب الرابع الموثق بتاريخ الأسرة 18 ليروى قصة تتطابق وقصة سيدنا إبراهيم...تحطيم الأصنام...الاعتكاف بعد كفره بدين أبيه...حادثة الإحراق التى اختفى بعدها اخناتون إلى يومنا هذا وهو الشق الأول من حياة أبى الأنبياء الذى لا نكاد نعرف عنه شيئا. قطعا أتفق مع علماء الآثار أنه قد يكون هناك نقص فى الأدلة العلمية ولكن تلك الأدلة لا تختص فقط بعلم الآثار..فنحن نحتاج بجانب الآثار إلى مختصين فى علوم اللغات القديمة والأديان والتاريخ والجغرافيا، فلو كان هناك فرضية كتلك لا يصح أن نضعها فوق طاولة الآثار أو الدين فحسب..تلك عصور قديمة لم يظهر فيها الأنبياء بنفس الأسماء وتحركوا فى أماكن عرفت بأسماء مختلفة.
بداية التوحيد فعلا تبدأ فى مصر القديمة وهى الرسالة التى ظلت تنتقل من رسول إلى رسول إلى أن انتهت بخاتم المرسلين محمد عليه أفضل الصلاة و السلام. إذن فلا نستبعد أن تكون تلك البدايات قد طمست أو حرفت وغيرت التواريخ أو بدلت وفق أهواء وسياسات ومصالح ما تزال تعنى الكثير للبعض إلى يومنا هذا. كانت تلك الحقائق معتمدة موثقة فى مكتبة الإسكندرية التى حرقت و معها أسرار لو حفظت لتغير وجه التاريخ. مسار إبراهيم عليه السلام فى غاية الأهمية لأن التاريخ الصحيح له يثبت مهبطه فى الحجاز وهو الجزء الذى لم يرد فى التوراة والإنجيل.
فلو رجعنا إلى قلعة الكبش وفرضنا أن قصة حياة إبراهيم عليه السلام الأولى قد حدثت فى مصر فلا نستبعد أن الفداء قد وقع عند الموقع الذى بنى عليه مسجد بن طولون، ومن العجيب أن المهندس المسيحى (كاتب بن سعيد الفرغانى) الذى بنى هذا المسجد هو الذى لفت انتباه أحمد بن طولون إلى أهمية تلك البقعة..فلقد كان المسيحيون فى تلك الفترة على دراية كبيرة بالبقاع المقدسة فى مصر ولا نستبعد أن يكون ذلك سر اختص به الحاكم.
المهم أن مسجد بن طولون الوحيد الذى بقى بمعالمه الأصلية، فلقد تهدم مسجد عمرو بن العاص وبنى عدة مرات..حتى جامع الأزهر القديم تغيرت معالمه...لقد بنى المسجد على هضبة الكبش ليكون فى مأمن من غزو الفيضان...بعد بنائه رأى أحمد بن طولون فى منامه أن النار تلتهمه فقال له المفسرون إن هذا لا يعنى إلا قبول القربان...ومن العجيب أن تظهر كلمة القربان فى الرواية وكأن الحاكم قد خلد تلك البقعة المنورة بأن رفع عليها هذا الصرح المقدس.