ذُو النون المِصري الذي عرفَ الهيروغليفية قبل شامبليون

جابَ ذو النون المصري الآفاقَ المجاورةَ له حيثُ آثار ما تركه المصريون القدماء ، باعتبار أنَّ أخميم " بيتٌ من بيوت الحِكمة القديمة ، وفيها التصاويرُ العجيبةُ والمثلاتُ الغريبةُ ، التي تزيد المؤمن إيمانًا والكافر طغيانًا " .

الأمر الذي جعله يسعى إلى معرفة لغتهم وفكِّ رمُوزها ، وكثير من الشواهد تثبت أنه كان يقرأ  الرموز الهيروغليفية قبل أن يفكَّها شامبليون ( فيچيك، 23 من ديسمبر 1790 - باريس، 4 من مارس 1832ميلادية ). بألف سنةٍ من على حجر رشيد الذي نقش عام 196 قبل الميلاد . وقد ذكر المسعودي ( 283 - 346 هـجرية  / 896 - 957 ميلادية ) الذي توفي بعد ذي النون المصري بمئة عام  " أنه وُفِّق إلى حلِّ كثيرٍ من الصور والنقوش المرسُومة عليها " . وكان والده  نوبيًّا ، وكان حارسًا لبعض المعابد المصرية في أخميم ، وله ثلاثة بنين آخرين هم : ذُو الْكِفْلِ , وَعَبْدُ الْخَالِقِ , وَعَبْدُ الْبَارِئِ ، و كان ذو النون يَعرف اللغة المصريَّة القبطيَّة ، لغة قدماء المصريين ، تعلَّمها من الكتابة التي على المعابد ، ومن بعض الرهبان الذين كانوا يعرفونها في القرن الثالث الهجري ، حيث ولد وعاش ذو النون في زمن الخلافة العباسيَّة .

وقد التقى ثماني عشرة امرأة من العابدات الزاهدات الناسكات خلال أسفاره وسياحاته في الجبال والوديان والبراري والبلدان والمدائن التي ارتحل إليها ، حيث قضى شطرًا كبيرًا من حياته متنقِّلا وسائحًا ، ولعلَّ العارفة فاطمة النيسابورية وهي من خراسان أبرز من التقى في تطوافه ، وقال عنها ذو النون : " هي ولية من أولياء الله وهي أستاذي " ، سكنت مكة ، وتوفيت في طريق العمرة سنة 223 هجرية .

وهي  أحد أعلام التصوف السني ، وكانت من قدماء نساء خراسان ، قال عنها أبو عبد الرحمن السلمي (24 من أبريل 937 - 11 من نوفمبر 1021ميلادية /10 من جمادى الآخرة 325 - 3 من شعبان 412هجرية )  إنّها : « من العارفات الكبار ، لم يكُن فِي زمانها فِي النِّسَاء مثلهَا »  ، كما قال عنها  أبو يزيد البسطامي :  « مَا رَأَيْت فِي عمري إِلَّا رجلا وَامْرَأَة فالمرأة كَانَت فَاطِمَة النيسابورية مَا أخْبرتهَا عَن مقَام من المقامات إِلَّا وَكَانَ الْخَبَر لَهَا عيَانًا » ، ومن أقوالها : " من لم يكُن الله مِنْهُ على بَال فَإِنَّهُ يتخطَّى فِي كل ميدان وَيتَكَلَّم بِكُل لِسَان وَمن كَانَ الله مِنْهُ على بَال أخرسه إِلَّا عَن الصدْق وألزمه الْحيَاء وَالْإِخْلَاص " . و" الصَّادِق والمتقي الْيَوْم فِي بَحر يضطرب عَلَيْهِ أمواجه وَيَدْعُو ربه دُعَاء الغريق يسْأَل ربه الْخَلَاص والنجاة " .

ومن بين من التقاهن رابعة العدوية ، وقيل إنها تابت على يديه ، حين استمعت إلى إنشاده ، وهما في سفينةٍ ،  إذ كانت مع جماعةٍ تشرب الخمر :

أحسن من قينةٍ ومزمارِ

في غسقِ الليلِ نغمة القاري

يا حسنه والجليل يسمعُهُ

بطيب صوتٍ ودمعه جارِ

وخدهُ في الترابِ معفرٌ

وقلبه في محبةِ الباري

يقولُ يا سيدي ويا سندي

أشغلني عنك ثقل أوزارِي .

وقال ذو النون : من أراد أن يتعلم المرُوءة والظرف فعليه بسقاء الماء ببغداد ، ومن أراد أن يسمع تجريد التوحيد وخالص التوكُّل فعليه بالنساء الزَّمِني " أي الدائمات المرض أو الضعيفات  من كِبَرالسن " .

ويعد شقران العابد هو شيخ ذي النون المصري ، وقبره موجودٌ بمصر  كما جاء في كتاب " مرشد الزوار الى قبور الأبرار " لزين الدين بن الموفق ( توفي في سنة 615 هـجرية ) عند رأسه من الغرب ، قال القضاعيّ  في كتابه الخطط : هو شقران العابد ، أستاذ ذي النون ، توفي قبل ذي النون ، لا أعلم في أيّ سنة توفي ، فإنني لم أقف له على تاريخ وفاةٍ ، وقبره شرقيّ التربة التى فيها قبر ذي النون ، بينهما تربتان : إحداهما لأبي جعفر بن حواصل ، والأخرى تلاصقها ، يصعد إليها بدرَج ، وينزل إلى هذا القبر بدرج أيضًا ، وهو أحد القبرين اللّذين في ظهر محاريب ابن حولي القرقوبي ، ذات القبور التى أكثرها منكَّسة ، وهي ملاصقةٌ لظهر أحد المحاريب التي بالتربة المذكُورة ، إلى جانب القبر الذي عليه عمود كدان ، يعرف بأبي الربيع الزبدي   .

وأخذ ذو النون على شقران ، وتأدّب بأدبه ، وتوفى وهو فى صحبته .

قال ذو النون : [سمعت شقران يقول] « إنّ لله عبادا خرجوا إليه بإخلاصهم ، وشمّروا إليه بطيب أسرارهم ، فأقاموا على صفاء المعاملة في محاريب الكدّ ، فساروا في ميادين أنوار ملكوته ، وبادروا لاستماع كلامه بحضور أفهامهم ، فعند ذلك نظر إليهم بعين الملاحظة ، وشاهد منهم نهدات الأسف ، وفي ضمائرهم حرارات الشّغف ، فعندها أسرج لهم نجائبَ المواهب ، وحفّت بهم منه العطايا والتّأييد ، وأذاقهم كأسَ الوِداد ، فطلعت في قلوبهم كواكب مراكب  القلق ، وجرت بهم في بحار الاشتياق ، فوصلت إلى روح نسيم التّلاق ، فكيف إذا رأيت  ثريّا الإيمان قد علقت في قلوبهم ، وهلال التوحيد قد لاح بين أعينهم ، وبحار الوفاء قد تدفّقت في قلوبهم ، وأنهار ماء الحياة  قد تصادمت إلى جوارحهم ، فتنسّموا روائح الدّنوّ من قربه ، وهبّت رياح اللقاء من تحت عرشه ، فوفدت  هواتف الملكوت بألسنة القدرة إلى أسماعهم وأفهامهم ، وشيّعها رُوح نسيم المصافاة إلى أذهانهم ، وأوقدت في أسرارهم  مصابيح الأفكار، وأشتعلت ضمائرهم  ، وزّفت إلى قلوبهم أزواج القلق ، وزجّ بها الشوق في مفاصلهم ، فتطايرت أرواحهم [إلى روح] عظيم الذخائر، ثم نادت : لا براح وذلك أنها لمَّا وصلت إلى الحجاب الأعظم المعظم  أقسمت ألّا تبرح ولا تزول حتى تنعم . فكشف لها الحجاب ، وناداها : أنا الرّبّ الأعظم المعظم ، أنا علّام الغيوب ، أنا المطّلع على الضمائر ، أنا مراقبُ الحركات ، أنا راصدُ اللّحظات  ، أنا العالم بمجاري الفكر وما أصغت إليه الأسماع .

ثم قال لأرواحهم : أنا طالعتك ورفعتك إلى قربي ، وقرنت ذكري مع ذكرك ائتلافًا ، وعرّفتك نفسي وصافيتك إعطافا ، وجلّلتك سترى إلحافا ، فاشكري لى أزدك أضعافا   .

ثم قال : يا قلوب صفوتي التئمي ، ويا أهل محبّتي حافظوا على لزوم مودّتي .

فلما وعت القلوبُ كلامَ المحبوب وردت على بحر الفهم ، فاغترفت منه ريَّ الشراب ، فهلَّ عليها عارض  صدر إليها من محبوبها ، فسجدت له تعظيمًا ، وأذن لها فكلّمته تكليمًا  ، وأفرغ عليها من نوره فزادها تهييما  ، فرجعت إلى الأبدان بطرائف الفوائد  ، فظمئت وعطشت .. فهل تدرى ما أعطشها  ؟ كشف لها عن غيوبه  فطاشت ، وشاهدت قربه فعاشت ، في كل يوم تطالع  علمًا جديدًا، فهو لها يزيد  ، وكيف لا يكون هذا العبد كذلك وأنوار الصدق عليه متراكمة ، ومراتب الحقائق فيه منتصبة ، وروحه قد سارت فى مواكب  التوفيق  ؟  فلو شاهدت سرائرهم وقد وصلت إليه فروّاها من نسيم قربه ، وزوّدها من طرائف علمه المكنون ، " وَفِي  ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ