بلدين أحمد يرسم حقل فراشاتٍ وأفاعٍ ملونة

الطيور والاحجار والسفن والبحر ( يقول بلدين) هي مجازات تقود المشاهد برفق نحو خيط الحكاية الذي قد يكون أقل سحرا وغموضا من تلك المجازات . كل شيء هنا هو جزء من ( فخ ) محكم يؤدي مهمة ما في غواية العبور من سطح اللوحة الفاتن الى موضع اسرارها الاقل فتنة .

تبدو هذه المجازات وكانها عناصر واقع مركب بغرابة ، لكنها لا ترتفع بالواقع الجديد الى مستوى المجاز او الرمز، كما نتوقع ، بقدر ما تنفذ الى واقع اخر داخلي أشد غرابة من واقعية السطح . وغرابته تكمن هذه المرة في حجم لا انسانيته وكمية ألالم الطالع منه ، والانتهاكات والبشاعات التي تصاحبها وترسم مصائر البشر المهاجرين ، ( هذه لوحات عن ظاهرة موجة الهجرة في العالم ، يقول بلدين ).
لوحة فنية بلدين أحمد

واقعية السطح هنا مدخل بهيج ( لعالم مليء بالتناقضات والصراعات والحروب ، يضيف بلدين ) .

نحن اذن امام واقعين ، اولهما واقع المسرّة البصرية الملموس والماثل امامنا ، والاخر ، الواقع الافتراضي الذي يغور عميقا في تلافيف اللوحة البعيدة ، الاول تمرين الرسم الذي لابد منه ، والاخر فعل الرسم الذي لابد منه . كلاهما واقع وكلاهما مرتبط بالاخر بحكم اختيار الرسام واتقانه لصنعته . ( تبدو هذه المعادلة صحيحة داخل الرسم ومقلوبة خارجه) .

إن بلدين يحفظ للرسم ممارسة حققت رفعته ورسوخه عبر الزمن وصمدت امام محاولات تجريده منها ، تلك المحاولات التي اتخذت أشكالا شتى في الطريق نحو تحويل العمل الفني الى بيان لا روح فيه ، ينفر من العاطفة ويشمئز من الجمال . لوحاته تعيد الى الجمال حظوته ولمسة الساحر التي تفتح بوابات الروح لكي تلامس الحقيقة وتتفرس بالواقع ( الحقيقة الصادمة هنا والواقع الذي لا مسرّة فيه ) ، الواقع الذي قد يكون ( هبوطا ) ، تلك الكلمة الملغزة التي إتخذها الرسام عنوانا لمجموعة لوحاته .
لوحة سفينة بلدين أحمد

ان انشغال بلدين بالهم العام يجعل الحقيقة وايصال الفكرة هاجسا أساسيا في عمله الفني ، الا انه ، رغم ذلك ، يدرك بحس مرهف خطورة الاقتراب من الصياغات التقريرية وفداحة وسيلة الايضاح في تناول مادته ، فهو يرتفع ب ( الهجرة )، على سبيل المثال ، الى افق أبعد من حدودها العيانية والجغرافية ، بل ويصل بافكاره أحيانا الى حدود الانصاب التي لا زمن لها ولا مكان . ومع ان الفكرة تبدأ خارج اللوحة لكن ذلك لا يحرم لوحته من أن تكون انعكاسا لنوازع شخصية عميقة واحتدام داخلي .

رغم كثافة الخطاب الذي تنطلق منه اللوحة وتسعى باتجاهه ، الا ان لوحة بلدين تبقى بصرية بامتياز ، وهذا في رايي هو سر بقائها الكبير ، وما التنويع على المعنى عنده الا تغييرا في مواضع الكتل وتبادل الاشكال والاضواء والالوان ، تلك المممارسة التي يتقنها .

إن تجربته الطويلة مع الرسم تمنحه القدرة على ان يضع قيودا على حرية تسرّب الأدب والثقافة الشفاهية التي تميز إنتماءه الثقافي الذي طبع طفولته وصباه وتمنح لوحته تميزها البصري ، إلا أن استمرار هذا التفوق للشكل يعتمد على قدرته وعلى صمود انحيازه للبصر ، مع ان بامكاننا ان نلاحظ أن الفنان يتساهل أحيانا ويخفظ حاجز فيضان المعاني وتدفقها فيلجأ الى انجاز أعمال بنائية تشرّع لسطوة المعنى والفكرة المسبقة.

تبدو لوحات بلدين بريئة ، سهلة المنال ، لكني بكثير من الثقة ، أستطيع أن اقرر انني أمام لوحات ( ملغّمة ) ، تحتاج مرانا ومعرفة لمواضع اقدام السائر بين دروبها ، فوادي الزهور والفراشات المسحور هذا يخفي تحت الوانه وكتله واضوائه الدافقة بالحياة قصصا واحداثا وربما أفاعٍ لابد منها لأيقاظ غفلتنا عن المآسي التي تطوق حياتنا .