يوميات امرأة مشعة

( نزلتُ ، وسرت فى ردهات مركز الأورام متجاهلة أننى أنا " نعمات البحيرى " بلحمها ودمها ، زاعمة أننى شخص آخر خارج دائرة الورم الخبيث ، يرى الأطفال المرضى المحمرة أحمراراً مصفراً ، ورؤوسهم الخالية من الشعر من آثار العلاج الكيماوى ) .

منذ الصفحات الأولى تشعر بثقل وكآبة العالم الذى تصدره لك ( يوميات امرأة مشعة ) رواية الكاتبة المصرية نعمات البحيرى التى صدرت منذ أيام عن مكتبة الأسرة .
أنت هنا فى قلب أكبر مركز لعلاج الأورام فى مصر ، تنتقل من زحام وسط القاهرة الخانق الزاعق ، إلى صمت مبنى يشبه فى تصميمه مركبة فضائية كبرى ، هكذا تصفه لنا نعمات البحيرى وهى تمشى متساندة بين صديقتيها ( هالة البدرى وسهام بيومى ) ، وهكذا يجد القارئ نفسه وقد راح يتبعهم خطوة بخطوة ، فى شعور متضارب بين الإثارة والحذر ، بين الخوف والرجاء ، فيمضى فى دهاليز باردة ، وأروقة بيضاء معقمة ، وممرات صامتة مفعمة برائحة المطهرات والمحاليل ، وأخرى تسمع فيها هسهسة الأجهزة الطبية وهى تعمل على أجساد المرضى بلا توقف ، فيما تتناثر أنات مكتومة هنا وهناك ، فترغب مثل نعمات البحيرى فى تجاوز أشباح المرض الكامن فى زوايا وأركان المركز ، على الأرض والمقاعد وفى الحدائق .. فى كل مكان .
إنه عالم كثيف وقاتم حقاً ، تنجح الروائية الموهوبة ( نعمات البحيرى ) أن تدخلنا فيه ، بلغة فنية حاذقة ، تعرف متى تضرب على أعصاب القارئ ، وتبلغ به زروة التوتر ، ومتى تمهله لالتقاط الأنفاس ، لحظات قلية هى التى تدرك فيها أنك قارئ ، مجرد قارئ لعمل أدبى لم تكتبه أنت ، ولم تعش تجربته إلا على مساحة من بياض الورق ، مع كل هذه التفاصيل الحية المؤلمة ، لحظات قليلة هى التى تتمكن فيها من الهروب خارج التجربة الموجعة ، لكنه هروب ـ أيضاً ـ مؤلم ، يمر عبر لحظات من خفة الروح .تتوزع هنا وهناك مثل جرعات الأوكسجين فى غرف الإنعاش، توزعها الكاتبة بحنكة كأنما تغوينا بأن نبقى معها وقتاً أطول ، ألا نتركها تخوض رحلة الألم وحدها، ابتسامات واهنة تحررها من صدرها الموجوع ، تبثها مواطن دقيقة داخل السرد وربما الحوار :
" وكأنه الغيم تصعب الرؤية من خلاله ، ثلاث ترولات معدنية ملقى عليها ثلاث جثث ، أقصد أجساد ملفوفة فى ملاءات بيضاء خرجت لتوها من غرفة العمليات لغرفة الإفاقة ..وضوء شحيح وأصوات ممرضات يتحدثن عن الطبيب الفلانى والعلانى ..وصوت الجثة اليمنى ، صوت رجل .
ـ أنت عاملة عملية أيه ..؟
ـ سرطان ثدى ، وأنت ثدى برضه ..
ـ لا سرطان معدة .
وصوت الجثة الثالثة يطفح بالتعب : " وطوا صوتكم شوية .. مش عارف أموت " .
صحيح نعمات البحيرى كاتبة موهوبة ، محتشدة بالتفاصيل الثرية ، مفعمة بروح الحكايات الساحرة / لكننى ـ أنا ـ القارئ المدرب ، الناقد الخبير بحيل السرد وأساليبه ، أعرف كيف أترك مسافة بينى وبين ما اٌقرأ ، أذكر نفسى ـ دائما ـ أنه مجرد عمل أدبى ، أوزع عينى الناقدتين فى كل اتجاهات النص ، أما الآن ، وأمام نص له كل هذا الرصيد الحى من الصدق فى الشعور ، والبساطة فى التعبير ، لامناص أن أبقى أسيراً لعالم نعمات البحيرى .
وهكذا وجدتنى أسير وراءها من ممر إلى آخر ، أراقبها وهى تتساند على صديقتيها ، يرتدن غرف الكشف والتحاليل والأشعة والمكاتب الإدارية للتأمين الصحى ، وكأننى داخل تجربة حية نسجها القدر على طريقة كافكا الكابوسية .
الرواية ذات طابع سير ذاتى ، وهو ملمح وسم كتابات نعمات البحيرى ـ دائماً ـ وبدرجات متفاوتة ، غير أنها هذه المرة توسع دائرة السيرة الذاتية ، فتتكلم عن أدق التفاصيل فى حياتها ، بوصفها امرأة وكاتبة مبدعة ، وتكاشفنا بتجربة حياتية شديدة الثراء ، تتنقل بين الأماكن ، وتشتبك فى علاقات عديدة تدور فى محيط الأسرة والجيران والأصدقاء وزملاء العمل وزملاء التجربة الأدبية ، تقول عن أمها : " كنت أطلبها فى التليفون كل صباح ، وأدعها تحكى وتحكى لتنزاح كل غيمات النفس والروح وفاتورة التليفون تأتينى كل ثلاثة أشهر بمبلغ مفجع ، فأمى حكاءة من طراز فريد ودائما فى جعبتها حكايات ساخرة ومؤلمة وموجعة وكان أبى يجزم لى بأن أمى هى المبدعة وأنا أنقل عنها وكنت أضحك وأوافقه .. " .
وآلام السرطان لاتنسيها آلام وجع أكبر ظل يرافقها طيلة عمرها ويحتدم فى السنوات الأخيرة ، هى آلام الوطن ، ففى لحظات كثيرة تسترد وعيها العام كمثقفة تتألم لوطنها ، تقول : " والأحداث على شاشة التليفزيون على حالها من العنف والقتل والضرب المنظم من جنود الاحتلال فى فلسطين والعراق ، لم أعد أستطيع التفرقة بينهما ، سأستثنى كل أشكال الحسرة والآسى على عمر يستنزف سريعاً بين أشكال صراع ضارى ، تتبدل أرديته بين أبيض وأسود وبال وسيكام .
دعونى لا أخوض فى تفاصيل أخرى موجعة ، لامرأة شابة ، تخلع ملابسها وتلقى على حمالة الصدر والقميص الداخلى نظرة وداع قبل دخول غرفة العمليات ، فلا يفوتها أن تصف الألوان وخامات القماش وزخارف الدنتيلا الرقيقة التى طالما لامست جسدها ، عليها أن تنضد كل هذا الآن، ترتدى قميصاً أبيض واسعاً مفتوحاً من الخلف ، تتمدد على ترولى من الصاج الأبيض البارد ، يدفعونة بين دهاليز الصمت والموت إلى غرفة العمليات ، حيث سيقف بضع أطباء وممرضات بملابس وأقنعة معقمة ، وكأنهم فى مؤامرة صغيرة لاستئصال جزء منها .
عنوان الرواية ( يوميات امرأة مشعة ) ، قد يخلق مفارقة ساخرة عبر التورية بين معنى يتعرض فيه جسدها لجرعات مكثفة من الأشعاعات المميتة ، ومعنى آخر يشير إلى نعمات البحيرى نفسها ، بوصفها كاتبة متألقة ، مشعة بعطاء فنى وجمالى فأيهما المعنى البعيد وأيهما القريب ؟