رن جرس الهاتف في وقت متأخر من الليل. انتفضت كالملسوع. أوقدت الأباجورة حذراً من أن أزيد في إزعاج زوجتي. تمتمت وأنا أرتدي الروب الرمادي فوق البيجامة المخططة بالسواد:
«- خيراً إن شاء الله!..« ألصقت السماعة الباردة بأذني فإذا بالصوت الأجش يأتيني متدفقاً كالوثب: «ألو. السي أحمد!..» .
«- نعم أنا هو..»
ثم قطعتُ الجملة مخافة أن أستشاط غضباً وأفجر فوْرتي في أذن اللعين الذي تجرأ على إيقاظي في هده الساعة ونحن في عز النوم. بيد أني تماسكت عن الانسياق وراء الفورة عقب الهنيهة التي تمكن عقلي خلالها من استعادة توازنه وتمييز صاحب الكلمات الثلاث .ثم تابعت في شيء غير قليل من الانشراح:
«- أنت ألَملعون!..«
«- هاتفتك إلى الثابت لأني أعرف أنه الأقرب إليك في هذه الساعة..أوَليس من عادتك
أن تُبعِد عنك المحمول خلال النوم انسياقاً مع رفضك للتكنولوجيا الجديدة؟..»
كان الأمر يتعلق بعبد القادر تاجر الحرير؛ صديق الحارة زمن الشباب المولي، ونديم المقهى خلال أمسيات العمر الرذيل. ولم يترك لي الصديق الباش فرصة طويلة للتردد فالتقط رأس الخيط وعاجلني بالخبر الجديد:
«- آسف على الإزعاج، فالوقت غير مناسب. ثم إنك أدرى الناس بسلوكي الفوضوي وترك الأمور إلى آخر ساعة. لكن الطارئ جديد وهو عذري الوحيد. وفي جميع الأحوال فقد فكرت فيك بمجرد أن جاءت فرصة السفر. غداً صباحاً سأطير إلى القاهرة..هو سفر طارئ أمْلته طوارئ الحرفة.. وأنت أعلم بطوارئ الحرفة..وقلت أن أسألك إن كنت تريد شيئاً من هناك.. أنت و المدام.. وحتى الأولاد..»
أجبت دونما تردد:
«- كان بإمكانك أن تهاتفني من القاهرة في وضح النهار لو أنك تفكر في راحتي حقاً!..»
«- فكرت في راحتك الغالية ياعزيزي، لكني خفت أن أنسى وأنا هناك غارق في بحر البيع والشراء. تضاريس مخي ليست غريباً عنك..»
انتزعني السؤال من بحر النوم اللذيذ بصورة تامة وطهرني من بقاياه. لكن السؤال رمى بي في نفس الوقت في دوامة من الحيرة. كيف لي أن أحسم فيما أريد خلال هذه الهنيهة الدقيقة؟. ما الذي يمكن أن أطلبه من عبد القادر؟. وكيف لي أن أسأل المدام السادرة جنبي في نوم ثقيل عما تريد من هناك؟. أما الأولاد فمن المؤكد أن الصديقَ الشيخَ رجلٌ غير مناسب لكي يحمّلوه طلباتهم. ثم قررت أن أحسم الحيرة لأعود من جديد إلى نومي:
«- لايخطر لي الآن أي طلب..يكفي أن تسلم لي على عايدة!..»
بيد أن عبد القادر عمد إلى أن يمعن في أرقي فسألني من جديد:
«- وماذا بعد؟..»
خفتُ من أن تغضب عايدة إن سلمت عليها وحدها دون سائر أهلها فأردفت:
«-لا تنسى كذلك أباها السيد شداد، وأمها المحترمة، وحتى أخاها حسين والصغيرة بدور..»
«-مبَلَّغ إن شاء الله. وماذا بعد؟..»
«- اطلب من عايدة رقم محمولها..قل لها إن التواصل معها عبر الهاتف الثابت أضحى في المدة الأخيرة غاية صعبة. أُكلمها في رقمها القديم وأسمع رنين الهاتف ولا أحد يجيب. أسمع الرنين المتتالي يتردد في فراغ قصر أبيها من دون أن يبادر أحد إلى الإمساك بالسماعة رغم وفرة الخدم. هل هو أمر من أبيها أم إن عايدة شاخت قبل الأوان وثقل سمعها؟. لست أدري..المهم أن تحصل على رقمها الشخصي بأية وسيلة كانت..ربما نفعت الرسائل الإلكترونية القصيرة بعد أن فشلت تجربة الرسائل المكتوبة باليد على الورق وبالمداد الأسود ..حتى البريد الجوي المضمون لم يعد ينفع، بل إنه السبب في افتضاح أمري مع المدام..»
كنت قد أفلحت بعد جهد جهيد في إقناع عشيرتي بأن عايدة مجرد امرأة مثقفة تهوى تبادل الأفكار بواسطة المراسلة مع عامة الناس وليس معي وحدي. وفكرت في إخبارها بحقيقة تعرفي إلى بنت القاهرة أول مرة، إلا أني تراجعت ليقيني بأنها لن تستطيع استيعاب ذلك ، فعنّ لي آنذاك اختراع فكرة حصولي على عنوان عايدة من مجلة مصورة. ومع ذلك كم مرة رجعتْ رسائلي إليها مطبوعة بأختام شتى وقد كتب عليها "مجهول" فتتسلمها الزوجة باهتمام مرتاب..وحينما تفتحها وتقرؤها تنتابها أكثر من علامة استفهام. ومن حسن الحظ أني لا أضّمن رسائلي كلمات الغرام الصبيانية كما في العهد القديم. فقد تولّى ذلك الزمن إلى الأبد، وإنما هي كلمات الشوق التي لا تشيخ أبداً، أضمخها بعبير سنوات ماقبل الألفية الثالثة. عبد القادر يفهمني بالطبع لأنه عجوز مثلي، معنيّ هو الآخر بنفس الشوق، أما المدام فلا تكاد تفهم الجمل السديمية التي أنحتها لعايدة من قبيل:" أنتِ المطلق الأصيل الذي لا تحده حدود "، و " أنتِ الصمت نفسه وقد عبَر المسافات الزمنية والمكانية حتى غدا صمتاً ناطقاً ". تقرأ تلك الألغاز وتعيد قراءتها فتسألني بحسن نية عن دلالاتها. وحينما أشرح لها المقصود مستعيناً بنفس الكلمات الواردة في الرسالة لا تصل أبداً إلى مرحلة الإدراك التام.
وعاودتُ الطلب برغبة جامحة:
«-ألح عليك ياشريكي في المغامرة كي تحصل على رقم هاتفها المحمول لعله ينفع في تفادي موقفي الشائك!..»
«- سأبذل قصارى جهدي وإن كنت لست متيقناً بالنتيجة. أنت تعرف أن عائلة عايدة غيرت مقر سكناها في المدة الأخيرة حسب معلومات بعض المقربين منها ومن قصر آل شداد، ثم إن فروع العائلة الكبيرة تشتت في البلد، وحتى عايدة نفسها لا أدري إن كانت قادرة على مغالبة إغراءات فرنسا من أجل التردد على القاهرة خلال العطل ..وفوق هذا وذاك أنت على علم بكمِّ البشر الذين تعج بهم القاهرة، وزحمة المواصلات، وتعقد الحياة الجديدة..ومع ذلك سؤحاول..»
«- بل يجب أن تنسى كل شيء إلا الحصول على رقم المحمول. ثم إن القيمة العظيمة التي أضحت تمثلها عايدة بالنسبة إلى من هم في مثل سننا وظروفنا لا تخفى عنك يا عبد القادر..قم بالواجب باسم صداقتنا المقدسة!..»
«- اطمئن ياسيدي..أنت أدرى بي كيف أتصرف في مواقف الحصار..»
«- والآن دعني أنام الله يرحم الوالدين ..وسافر مع السلامة..»
وحينما شكرني عبد القادر وقال لي إن سلامي مبَلَّغ بإذن الله تخيلته يقهقه عالياً وهو يضع السماعة..
وأطفأت ضوء الأباجورة وأسلمت رأسي للوسادة. آنذاك تمكن مني الأرق. حضرتْ صورة عايدة وتسلطت على مخيلتي إلى أن بدا لي كأن الفجر بدأ يبزغ. تذكرت كيف رأيتها أول مرة مرأى العين وأنا بعد شاب يافع أيام اشتغالي مساعد كُتْبي في مكتبة منغرسة بين دروب تطوان العتيقة. وفي زمن اشتد فيه انصراف الناس إلى الآجرّ والإسمنت لاحظت بحسرة كيف أن رواد المكتبة يتناقصون يوماً بعد يوم، وشهراً بعد شهر..ومع تناقصهم تزايد خوفي من أن أطرد من عملي فأحرم بذلك من مصدر رزقنا الوحيد أنا والأم الأرملة وأختي اليتيمة. وكنت أزجّي لحظات الحسرة وانتظار الزبناء بتصفح الروايات ودواوين الشعراء المحيطة بي من كل جانب. وذات أمسية من أمسيات الخوف انبعثت من بطن الكتاب الذي بين يدي فتاة فاتنة الجمال، رشيقة وعصرية، كلها ضوء وبهجة. وقفتْ قبالتي ونورت ابتسامتها كل الدائرة المحيطة بها. قالت لي:
«- اسمي عايدة بنت آل شداد..فتاة من القاهرة في عمر الزهور.. أنا السحر نفسه.. أنا الثراء والحياة الوديعة الناعمة.. أقرأ عليك السلام العطِر وأهبك مفتاح السعادة الأبدية.. وكلما ضاقت بك السبل وشعرت بالتشتت تَذكَّرني وتذكَّر عائلتي الصغيرة والكبيرة ومقر سكناي وهالة الضوء المحيطة بها دوماً!..»
ومند تلك اللحظات المضيئة انطبعت صورة عايدة في أعماقي إلى الأبد. وحدث بعد ذلك أن المكتبة بارت فأُقفلت ثم تحولت إلى متجر
أحذية فحرمت من عملي. ومع ذلك لم أتقاعس وإنما شمرت على ساعد الجد وخضت عباب الحياة الجديدة مع الخائضين الجدد. مارست التجارة واشتريت العقارات فتحسنت أحوالي. ثم تزوجت و أنجبت. وفي لحظات الشدة كنت أتذكر ابتسامة عايدة وقد غدت مع توالي السنين بلسماً شافياً وحافزاً معيناً. وبعد أن شخت واستطبْتُ جلسات الراحة مع خلاّن العمر الفتي وأصحاب التجارة بحت لهم بالسر الدفين حتى عرف الجميع علاقتي بعايدة وألفوها. والطريف في الأمر أن وجه بنت القاهرة ظل دوماً فتياً ومثيراً رغم سمات الهرم التي توالت عليّ مع مرور الأيام، ومن المؤكد أنها توالت عليها كذلك. لذا لم يكن من الغريب في هذه الفرصة السانحة أن أطلب من عبد القادر قراءة سلامي على بنت الضوء وهو يعرّج على القاهرة، وأن يعمل كل ما في وسعه من أجل الحصول على رقم محمولها، إذ ربما تمكنتُ عن طريق هذا السبيل العصري من تجديد العهد الغالي، ربما..
بلِّغ سلامي إلى عا يـدة
بقلم: محمد أنقار - في: الجمعة 17 نوفمبر 2017 - التصنيف: قصص
فعاليات
مناقشة رواية النباتية لهان كانج الحاصلة على جائزة نوبل للأدب
نوفمبر 08, 2024
شاركنا في ندوة لمناقشة رواية النباتية عبر تطبيق ZO...
Art Auction: Support Palestinian Families in Gaza
أكتوبر 18 - 20, 2024
Join us on October 18th for Art for Aid, an online...
مناقشة نصف شمس صفراء لشيماماندا نجوزي أديتشي
سبتمبر 28, 2024
تمت مناقشة رواية نصف شمس صفراء للكاتبة النيجيرية ش...
إدوارد سعيد: الثقافة والإمبريالية
يوليو 27, 2024
تمت مناقشة كتاب الثقافة والإمبريالية لادوارد سعيد...