القومية العربية وهم والإسلام السياسى استبداد

 
أيمن عبدالهادى في حوار مع سمير أمين المصرى اليوم ٢٢/ ١٠/ ٢٠٠٩

ينتقد سمير أمين، المفكر الماركسى، بشدة فى كتابه الأخير الصادر حديثاً بعنوان «فى نقد الخطاب العربى الراهن»، مجموعة من الخطابات السائدة: خطاب الرأسمالية، خطاب القومية، خطاب الإسلام السياسى.

ورغم أن عدد صفحات الكتاب لم يتجاوز ١٥٠ صفحة فإن مضمونه يستحق التأمل والمناقشة، خصوصاً فى ظل حالة واضحة من التراجع الفكرى على المستويين العربى والمصرى، كانت انعكاساً لحالة واضحة أيضاً من التردى العام فى مجالات عديدة على المستويين السياسى والإقتصادى، وأيضاً على المستويين الاجتماعى والثقافى.

«المصرى اليوم» التقت د. سمير أمين، أبرز منظرى الماركسية العرب، أثناء زيارته الأخيرة لمصر لتوقيع كتابه، وسألته عن أهم أفكار الكتاب ورؤيته للواقع المصرى الراهن..

وإلى نص الحوار

* من يقرأ كتابك الأخير «فى نقد الخطاب العربى الراهن» يستشعر نوعاً من الإحباط أو التشاؤم بعد قراءتك وتحليلك المستفيض لخطابات الرأسمالية والقومية العربية والإسلام السياسى.. هل تتفق معى؟

- أتفق معك تماماً. كان هدفى من الكتاب أن أُظهر أن الخطاب السائد عن الرأسمالية مثلاً، ليس فقط على المستويين المصرى والعربى بل على مستوى العالم، هو خطاب أيديولوجى بالمعنى المبتذل للكلمة أى خطاب يسعى للتوظيف السياسى لا غير. وهذا الخطاب هو هروبى بالأساس، يهرب من مواجهة التحديات الحقيقية ويحل محلها تساؤلات خيالية لا علاقة لها بالواقع.

على سبيل المثال عندما يتحدث هذا الخطاب السائد عالمياً عن اقتصاديات السوق أو الأسواق المعممة، وحقيقة الأمر لا يوجد شىء اسمه اقتصاد السوق، الأسواق ظاهرة موجودة فى نظم اجتماعية اقتصادية مختلفة وستظل فى إطار نظم، الحديث عن الأسواق سطحى جداً وفارغ بلا مضمون ولكى يكون ذا معنى لابد من ربط الأسواق بالطابع الرئيسى للنظام الذى تعمل فيه الأسواق.

* لكن النظام السائد عالمياً الآن هو النظام الرأسمالى؟

- الاقتصاد الموجود رأسمالى، لكن لا يكفى أن نصف النظام بأنه رأسمالى، لأن الرأسمالية موجودة على الأقل منذ ٥ قرون ومرت بمراحل تطور مختلفة وتكيفت مع كل مرحلة، والمهم التركيز على ما هو جديد فى هذه الظاهرة، لكنها تشهد الآن مرحلة تتسم بعدد من السمات أبرزها أنها احتكارية، احتكار الأقلية تحديداً، وهو ما يعرف بالـ«أوليجوبول»، وهى أيضاً احتكارية معممة، لأول مرة فى تاريخ الرأسمالية نجد أن عدداً محدوداً نسبياً من التكتلات الرأسمالية الكبيرة، وهو ما يسمى باللغة الدارجة الشركات المتعدية للجنسيات، هى التى تسيطر بالفعل على الاقتصاد الوطنى والعالمى، قراراتها هى التى تتحكم، تسيطر أيضاً على السياسة بمعنى أن نظم الحكم على الصعيد العالمى مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بمصالح هذه الطبقة.

السمة الثانية أن هذه الاحتكارت معولمة: أى نشاطها متنوع عالمياً فى التجارة والاستثمارات وأنماط الاستهلاك، خذ مثلا بسيطا: يرتبط سوق التليفونات المحمولة فى أى مكان فى العالم بعدد محدود من احتكارات الأقلية الكبرى التى تسيطر على هذا القطاع العام من النشاط الاقتصادى ذى التأثير الكبير فى الحياة اليومية. أما السمة الثالثة للنظام الرأسمالى الراهن فهى أنه مؤمول أى يرتبط بالمال، يُغلب الجانب المالى على أى جانب آخر عند اتخاذ القرار، وهذه ليست ظاهرة عرضية، التكتلات الكبرى مؤمولة، معنى ذلك أنها تتمتع باحتكار التوصل للأسواق المالية، هى الوحيدة التى تسيطر على الأسواق وتظل الأخيرة فى خدمتها.

* هذه السمات تحديداً هى التى يتجاهلها خطاب الرأسمالية.. أليس كذلك؟

- نعم.. هذا ما يسكت عنه الخطاب الرأسمالى العالمى السائد، هو لا يتحدث عنه على الإطلاق. من وقت إلى آخر يتكلم عن الاحتكار بصفته استثناء. أحياناً يتكلم عن أن الأمولة تنتج عن بعض أخطاء القطاع المالى، نعم الأخطاء موجودة لكنها ليست السمة الأساسية. معنى ذلك أن هذا الخطاب يسعى إلى محو القضايا والتحديات الحقيقية والهروب إلى كلام مطلق عن الأسواق وآليات الأسواق. وهذا هو النظام الذى دخل الأزمة. الأزمة الاقتصادية ليست مالية، الجانب المالى للأزمة الذى تجلى فى انهيار الأسواق المالية فى أكتوبر ٢٠٠٨، ليست إلا قمة جبل الثلج تحته الرأسمالية بسماتها الثلاث السابقة: الرأسمالية هى سبب الأزمة.

* وهل أغفل الخطاب العربى والمصرى عن الرأسمالية بدوره التحديات الناتجة عن سيادة النظام الرأسمالى بصورته التى أشرت إليها؟

- الخطاب العربى والمصرى سطحى جداً جداً وتبسيطى وضعيف كالعادة. وللأسف الشديد الاقتصاديون من ذوى النظرة النقدية تأثروا واقتنعوا بالخطاب السائد عالمياً.

* والخطابات المضادة؟

- فى مواجهة هذا الخطاب السائد توجد خطابات مضادة أيضاً سائدة عالمياً، على سبيل المثال خطاب البيئة، خطاب الديمقراطية، وهى تشير إلى أمور صحيحة لكنها منفصلة عن بعضها البعض، تتكلم عن أزمة الطاقة، تتحدث عن التأثير السلبى لزيادة استخدام الطاقة، الخطاب عن أزمة الزراعة..

كل ذلك صحيح لكن لابد من ربطه بعضه ببعض لكن لا يمكن أن يحدث ذلك إلا فى إطار النظر إلى السمات الحقيقية لما هو جوهر مرحلة الرأسمالية الحالية. أنا أحاول أن أفعل ذلك وهناك محاولات فردية أخرى لحسن الحظ، كل من يفعل ذلك ماركسيون أو لهم علاقة بالماركسية.

* ننتقل إلى خطاب القومية، كيف قرأتم هذا الخطاب؟

- خطاب القومية قديم، هو خطاب طرح هدفاً يتمثل فى إنجاز الوحدة العربية وتجاوز القطرية فى دولة عربية واحدة كبيرة. هذا هدف سليم فى حد ذاته لابد أن يتمتع بأولى القوى السياسية العربية وهذا هدفى، أنا لست عدواً للوحدة العربية، لكن ما هو المنهج لهذا الخطاب القومى وهل يستطيع إنجاز هذا الهدف. أنا أركز فى الكتاب على نقد الخطاب ولماذا هو خطاب عاجز.

أولاً الخطاب نفسه خيالى وهمى غير واقعى. الخطاب يكتفى بإعلان أن الشعوب العربية كلها تكون قومية موحدة كونتها منذ الأصل الذى ربما يكون الفتح الاسلامى. هذا غير صحيح بمعنى أن المنطقة العربية لها تاريخ سابق للإسلام والعروبة وبعد إسلامها وتعريبها وبعد تغيرها وتحولها إلى مجتمعات عربية وخلال هذا التاريخ الطويل كانت عناصر التفتت والتباين إلى جانب عناصر الوحدة، كانت موجودة.

نمط الإنتاج نفسه، نمط التكوين المجتمعى وأشكال الإنتاج والأنماط الثقافية تغيرت عبر التاريخ، أى أن القطرية لها جذور أيضاَ. إنكار كل ذلك لصالح تأكيد العروبة بشكل مجرد، كلام خيالى.

* إذن لا وجود للقومية العربية؟

- القومية العربية مشروع مستهدف، مشروع لابد أن نناضل من أجل إنجازه لكن هو ليس واقعاً. هناك أمثلة: من ينطق باللغة العربية الفصحى قليل، اللغات الدارجة تسود وإنكار هذا الواقع غير الواقعى. عندما ننظر إلى الاستراتيجية السياسية التى تتماشى مع هذا الخطاب السائد المبسط، عندما يشير إلى أولوية إنجاز الوحدة العربية وما عدا ذلك لا يهم أو يأتى فى مرحلة لاحقة أى يلغى صراع الطبقات، يلغى النضال من أجل الديمقراطية..

ويقول صراحة إنه حتى لو حقق شيطان هذه الوحدة فسأتحالف معه، قد يكون برجوازياً، رأسمالياً، اشتراكياً شيوعياً متطرفاً، إسلامياً سلفياً.. وأقول أن لا أحد من هؤلاء سيحقق الوحدة العربية لأن مصالحهم مرتبطة بالقطرية، بالاندماج فى النظام الرأسمالى العالمى القائم بالفعل كما هو، ولذلك جميع هؤلاء لا يتحدثون عما أتحدث عنه من احتكارات الأقلية بل يقبلها، ويقول هذا مجال آخر، ولو تسمع حديث أى منهم فى مصر، السعودية، إيران سيقول أنا لست ضد التجارة. الخطاب القومى هو أيضاً يهرب من مواجهة التحديات، وبالتالى هو خطاب عاجز لا يستطيع إنجاز الهدف الذى يسعى إليه.

* دعنا نتحدث عن الخطاب الثالث الذى أخضعته للنقد فى كتابك وهو خطاب الإسلام السياسى لكن بالتركيز على الحالة المصرية.

- يحكم مصر حالياً كتلة مكونة من ثلاثة أطراف قد تبدو فيما بينها متناقضة ومتصارعة، لكنها فى واقع الأمر موحدة إلى حد كبير أمام عدوها المشترك، وهو احتمال تكوين كتلة بدي��ة شعبية وطنية ديمقراطية. الكتلة مكونة أولاً من نظام الحكم نفسه وهو وريث الفترة السابقة الناصرية لكنه وريث ألغى كل منجزات وأهداف المرحلة الناصرية وظل الكلام فقط بل قليل من الكلام، وكان التغير الفارق فيما آل إليه النظام السياسى المصرى لحظة أن أعلن السادات أنه سيتحالف مع الولايات المتحدة لكى يكون حليفاً للقوى وكان هذا كلاماً خاطئاً، إلى جانب ذلك هناك برجوازية قطاع الأعمال وهى طبقة وسيطة بين الاحتكارات المسيطرة عالمياً وبين الواقع المحلى وتستفيد.

هى طبقة برجوازية كومبرادورية أى وسيطة، بعضهم يُعلن عن نفسه باعتباره ديمقراطياً لكن من دون تحديد دقيق لمعنى الديمقراطية التى يتبناها، الطرف الثالث هو الإسلام السياسى. ونظام الحكم الذى يسعى اليه هذا الخطاب هو ضد الديمقراطية التى تعنى حق الاختلاف العميق فى الرأى. أسلمة المجتمع أصبحت طقوسية سلفية تعادى الديمقراطية ومبادئها الأولى إضافة إلى أنها متعصبة بشكل عام. خطاب الإسلام السياسى هو أيضاً يتفادى مواجهة التحديات، لا يتحدث عن الاقتصاد الحقيقى «الأسواق» ويقبل كل ذلك باسم أن الملكية الفردية مقدسة والإسلام يعترف بها وبالتجارة. القاسم المشترك فى خطاب الإسلام السياسى أنه يتفادى التحديات الحقيقية ويقبل الخطاب الرأسمالى السائد بشكل مبتذل.

الخطاب السائد يهرب إلى ما أسميه الثقافوية، يعلن بها عن وجود صفات ثقافية دائمة عبر التاريخ يتصف بها شعب معين ولا تتغير، قد تكون الصفة عند القوميين هى العروبة، قد تكون الانتماء الدينى فى حالتنا الإسلام، كأن الإسلام نفسه كواقع اجتماعى لم يتغير عبر التاريخ وأنا أنكر ذلك، لابد من التمييز بين العقيدة الدينية والدين المعاش فى مجتمعنا، لست مهتماً بما هو الإسلام الصحيح، أنا لست فقيهاً وأترك الحق لمن يريد أن يبحث عن الإسلام الصحيح، أو المسيحية الصحيحة بل أضفت الماركسية الصحيحة أنا مهتم بالإسلام المعاش، بالمسيحية المعاشة، بالماركسية المعاشة..

أى كما يعيشها الشعوب التى تزعم أنها مسلمة أو مسيحية أو ماركسية. مسلم اليوم ليس كمسلم مجتمع الصحابة، لابد أن نفهم ما هم المسلم المصرى الذى يعيش فى المجتمع المصرى كما هو. كلام الإسلام السياسى الدارج أن فترات النهضة حدثت فى مرحلة ربط السياسة بالدين ليس صحيحاً. المرحلة التى سيطرت فيها العقيدة الدينية شكلياً على الأمور السياسية هى مرحلة انحطاط، مرحلة الدولة العثمانية. لكن فى القرون الثلاثة الأولى التى ازدهر فيها العرب فى ظل الإسلام كانت الدولة إسلامية لكن لم يكن المجتمع إسلامياً كان ثمة تنوع من مسلمين وغير مسلمين وكان ثمة تباين فى استخدام اللغات.

معنى ذلك أنه كلما زاد الربط بين الدين والسياسة يصبح الدين دين السلطة فى نهاية الأمر، يصبح أداة للسلطة لتكريس الاستبداد والقهر وهذا يحدث طوال التاريخ. طبعاً كان ثمة محاولات لتجاوز هذا المفهوم لكنها فشلت وأُجهضت. هذا الشكل يمنع الفكر الحر، العقيدة الدينية تحولت إلى طقوس.

* لكن من يمكنه إذن أن يواجه التحديات التى تهرب منها كما يتضح من تحليلك ونقدك للخطابات الثلاثة التى عالجتها فى كتابك؟

- صراع الطبقات. الصراع الطبقى هو صراع بين كتلة موجودة هى التى تحكم اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً وكتلة غير موجودة حالياً وهو مشروع التحالف الوطنى الديمقراطى الذى أتحدث عنه منذ عشرين عاماً.

* تشيرون فى هذا الصدد دوماً إلى دور اليسار؟ أين اليسار المصرى مثلاً؟

- هم أفراد قد يجتمعون من وقت لآخر فى إطار معين لكن للأسف ليس لهم صدى أو تأثير فى المجتمع لأن فى مراحل أخرى لعب المثقفون المصريون دوراً رئيسياً فى دخول الأفكار إلى الساحة العامة.

أنا لا أقلل من شأن الأجنحة المصرية لليسار المصرى، الأوضاع سوف تتغير لكن لا أعلم كيف، الغالب أن انتفاضات شعبية ستحدث، الإضراب كان إشارة، ستستمر الأوضاع الاجتماعية فى التدهور وبالتالى ستكون هناك ردود فعل وهذه فرصة اليسار للظهور من جديد، عندما يدخل فى هذا النضال الشعبى ليس لقيادة الشعب بل لإعادة الثقة فيهم وبالتالى فتح قنوات لإدخال مشروعات استراتيجية وسياسية.

الجماهير الكادحة لابد أن تدخل فى المعركة، ثورة ١٩١٩ قام بها الفلاحون والطبقة العاملة الجديدة التى استغلها الإنجليز لمساعدة الجيوش البريطانية فى الحرب العالمية الأولى. لقد تعلموا أهمية العمل المشترك قبل أن يتدخل الباشوات وسعد زغلول، المقاربة بين ما حدث فى هذه الثورة وما يحدث الآن هو أن الطبقات الوسطى والطبقات الحاكمة ليست هى من يُنجز أى خطوة إيجابية مهمة دون دخول الجماهير الكادحة فى المعركة.

* لماذا لم تؤلف كتاباً عنوانه «مصر المباركية» كما كتبت عملك الشهير «مصر الناصرية»؟

- لسبب بسيط كنت أعيش فى مصر فى الفترة الناصرية وكنت أرى أن من حقى نقد هذه التجربة بينما بعد ذلك أنا أحيا بالخارج وأعتقد أن هناك من هم أقرب للكتابة عن عصر مبارك. لكن هذا الكتاب ليس موجوداً، توجد أجزاء منه، لابد من الكتابة عن المجتمع المصرى وماهيته، ليس فقط السلطة، ليس فقط حكاية الدستور والتوريث والانتحابات المزيفة.

* لكن بشكل عام كيف ترى وضع المجتمع المصرى حالياً؟

- سيظل الوضع المصرى الراهن كما هو ثابت لن يتغير وهذا فى الأجل القصير، لكن فى المدى الأطول التغير ليس مستبعد، فالشعب المصرى له تاريخه وتجاربه السابقة وشهد تغيرات لم يكن لأحد أن يتصور أن تحدث، عند الحملة الفرنسية لم يكن أحد يتصور أن النتيجة هى محمد على، ثورة ١٩١٩ انتفاضة الفلاحين والعمال، ثورة ١٩٥٢، التغيرات العميقة فى التاريخ ليست متوقعة.