الزوحة المكسيكية : ظل البيضاء وظل يوسف إدريس

ظل "البيضاء" ، وظل يوسف ادريس ، كاتب ومبدع تلك الرواية ، نجدهما فى الرواية التى نحاول تفكيكها ، لنطل من خلالها  على واقع وتاريخ مضى لم نعشه ، وواقع عشناه وكنا فاعلين فيه .. بين هذا وذاك اكثر من خمس وستون عاما .
(الزوجة المكسيكية) رواية الكاتب الطبيب الاستاذ ايمان يحيى ، الحاصل على دكتوراة الطب من الاتحاد السوفيتي ، ومن ثم اجادته للغة الروسية ، وعمله بالترجمة منها ، يقع على كتاب حول الكاتب الذى شكّل وجدانه وذائقته الادبية ، ووجدان اغلب المثقفين والادباء ؛ يوسف ادريس .
تلهم الكاتب معلومة بالكتاب ، فيكتب روايته البديعة ، التى حيرت المتلقى ،- وانا هنا المتلقى-  بين الواقع والخيال .المعلومة هى ان يوسف ادريس احب وتزوج فى بداية حياته امرأة مكسيكية ..ولما كان لدى ادريس ،رواية يعترف بأنها مستوحاة من قصة حب حقيقية ؛  "رواية البيضاء" التى يحكى فيها حبه وارتباطه باليونانية سانتى ،، فيقفز اليها الكاتب من خلال لعبة التخييل ، حين يبتكر بطل روايته استاذا فى اللغة العربية منتدبا للجامعة الأمريكية بالقاهرة ، ويشرف على بحث لباحثة امريكية ، لها جذور مصرية  جاءت الى  مصر لتبحث عن تلك الجذور ، ويقترح ان تكون أطروحتها حول يوسف ادريس ورواية البيضاء .
بلغة سلسة ثرية بالصور البلاغية ،  وتشريح للنفس البشرية بمشرط.جراح دقيق ، لينفذ الى اعماق النفس البشرية ، لثقافتين مختلفتين ، الشرق والغرب ، بل ايضا لنوعين مختلفين ،  الذكر/ الرجل الشرقى ، الانثى/ المرأة الغربية .. ففى حين نجد الرجل الشرقى يراوغ و" يلف ويدور" ليحتوى او يصادق المرأة الغربية ، نجد الاخيرة مباشرة وتستهجن على نحو ما تلك الطريقة المراوغة للرجل .
روث ل يحيى " المسألة ابسط بكثير مما تظن يا رفيق ، تستطيع مصادقتى ، ولكن دون ان تفرض علىّ هذا ، المسألة سهلة ، لا تحتاج الى كل هذه المناورات والخطط" .
بذكاء شديد يُظهر لنا الكاتب نفس الموقف ، بعد اكثر من ست عقود ، الرجل / سامى جميل  يضمر داخله احساسه الحقيقى للمرأة /سامنثا ، فى حين انها تبادر بالفعل بالتعبير عن مشاعرها .. ويؤكد ادريس فى" البيضاء "هذه الفكرة :
يحيى :  يعجبنى فى النساء الغربيات قدرتهن العجيبة على المصارحة  وعدم الالتفاف والمداورة  فى علاقتهن بالرجل ، عندما تريد المرأة رجلا تقول " نعم" بكل وضوح .
يحيلنا نص الرواية الى رواية ادريس ، وسرعان ما يتوجه المتلقى للبحث عن تلك الرواية ، التى يكتشف من فوره ان (الزوجة المكسيكية) ظلها ومرآتها .
يوثق الكاتب لمرحلتىن  تاريخيتين، الاولى  مضت منذ ست عقود ، منذ خمسينات القرن الماضى ؛ تحديدا ( 52 -54 )  ، والثانية  بعد الالفين بخمس سنوات ، ( 2005) مرورا 2011 الى 30يونية 2013، وما بعدها زمن كتابة الرواية .. لم يتناول مصرنا ، وحسب ، وان كانت احداثها احتلت المساحة الاكبر . يُطلعنا  الكاتب على حال العالم إثر انتهاء الحرب العالمية الثانية ، وما خلفته من دمار مادى ونفسى شمل العالم  ؛ وذلك من خلال استدعائه لاحداث  (البيضاء )
فى جملة شديدة الدلالة " استقبلت فيينا العالم بذراعين مبتورين وجسد مضمد "
فى خطوط متوازية يسرد  الكاتب  هذا التاريخ ، فنجده يتناول زمن (البيضاء) ؛ قيام ثورة يوليو ، او لنقل حركة الجيش او الضباط الأحرار ، او الانقلاب ، الذى انضم اليه الشعب ليصبح ثورة حقيقية ، غيرت كل الاوضاع التى كانت سائدة ، ومهما كان الاختلاف على ثورة يوليو ، فلا يوجد اى انسان يحمل قليلا من الوعى ينكر التغيير الجذرى الذى احدثتها  ، ولهذا صارت ثورة بالمعنى الحرفى  للثورات .
 لم يتناول الكاتب اى جانب منها -اى الثورة- الا الجانب السلبى والوجه الذى يُصّدره دائما مهاجمو الحقبة الناصرية ، والتى لا يرون منها الا الديكتاتورية ، والاستبداد ، والقمع السياسى لمعارضيها ، فيشير الى المعتقلين السياسيين  الشيوعيين تحديدا !!
وان كان معروفا جيدا تاريخيا ان الحزب الشيوعى المصرى  "حلّ نفسه" لان الثورة حققت اهدافه .
وكما لو كانت مصر ترفل فى الديمقراطية قبل الثورة " فى ظل الاحتلال البريطانى ، وحكم ملكى ارعن" وفى زمن  (الزوجة المكسيكية) يتناول السنوات الاخيرة لحكم مبارك وتغوّل امنه على الشعب وازمة التوريث ، وغليان الشعب والمعارضة ، التى ذكر منها حركة كفاية وغيرها وهذا الصراع الذى افضى الى ثورة يناير ، ثم عام الإخوان ، و30 يونيو  وعودة للرواية التى رأيتها فريدة من نوعها ؛ من حيث المراوغة بين الواقع والتخييل ، وتوسل الكاتب بتقنية النص على النص ، او لنقل رواية على  رواية ، اذ كانت (الزوجة المكسيكية) مرآة تنعكس على سطحها (البيضاء) ،، ويحسب هذا للكاتب .
حين تكتشف سامنثا/ تلميذة بطل الرواية معلومة زواج يحيى طه / يوسف ادريس ..بطل ( البيضاء ) من مهندسة معمارية مكسيكية التقاها فى مؤتمر (الشعوب من اجل السلام ) الذى تم عقده فى فيينا عام 1952..ويبحث سامى جميل بطل الرواية عن صحة تلك المعلومات ، مستخدما ادوات العصر  الحديثة ؛؛ عبر محرك البحث جوجول ، وتتوالى اكتشافات مصداقية تلك المعلومة ، يتجول بنا الكاتب فى ثلاث امكنة هى القاهرة ، والنمسا والمكسيك ؛؛ فى الاولى نرى فيينا مدينة اشباح جراء الحرب العالمية الثانية ، ولا يمنع هذا بطلى (البيضاء) من التجول بشوارعها ، واحيائها التى كانت تحت  وصاية ثلاث دول كبرى وقتئذ ، هى انجلترا ، فرنسا ، وروسيا.
وفى القاهرة تجوب روث بطلة ( البيضاء ) ايضا انحائها لتكتشف القاهرة القديمة ، والقاهرة الخديوية ، وتصعد للهرم ، وتزور اضرحة الحسين والسيدة ..الخ ،  وفى المكسيك حين تعود روث لوطنها وتصير معمارية مرموقة ، يذيع صيتها البلاد ..وفى ( الزوجة المكسيكية) يذهب بنا ايمان يحيى الى اقدس مكان ؛ الى ميدان التحرير الذى صار رمز للثورات ، والاحتجاجات  وشارع محمد محمود هكذا عشنا فى الزمان والمكان لحقبتين يفصل بينهما عشرات السنون .. ومن ثم  اطلعنا على شخوص  احالتنا الى خمسينيات القرن الماضى ، هم علامات تاريخية ، سواء عالميين مثل ، بيكاسو ، ودييجو ريڤيرا ، هذين الفنانين الذين اثرا الفن التشكيلي وكانا لهما اعظم الاثر وقتئذ ، ومازالا ملء السمع والبصر بأعمالهما التى تخلدهما ، الفلاسفة والكتاب ، جان بول سارتر ، الشاعر الفرنسى   لوى  أراجون ،والشاعر التشيلى المناضل بابلو نيرودا والكاتب السوفيتى ايليا اهرنبرج .. والذين ترأسوا (مؤتمر الشعوب من اجل  السلام ) ، يتناول  يحيى قصة الفنان والمغنى الامريكى الزنجى بول روبسون الذى مُنع من السفر الى المؤتمر رغم انه ضمن هيئة رئاسة المؤتمر ..اذ منعته السلطات من السفر ..ويفيض  فى سرد سيرة هذا الفنان الاشهر وقتئذ ويقدم لنا مسيرته فى طريق الشهرة بتفوقه فى العديد من المواهب ، كرة القدم الامريكية ، ثم التمثيل ، والغناء ، ثم النضال بغناءه ، ومن اغانيه الاغنية المستوحاة من الكتب المقدسة ( دع شعبى يرحل ) والتى تلهب حماس المقهورين ، والثوريين ..كل هذا يذكره لكاتب ، ليوثق لحقبة من الزمن وبعض اعلام تلك الحقبة . وفى هذا السياق يشير الى حقبة المكارثية ، والتى كان روبسون احد ضحاياها .
ومن الاعلام المصرية يذكر ايمان يحيى :  عبد الرحمن الشرقاوي ، عبد الرحمن الخميسى ، كامل باشا البندارى ، والفنانة انجى أفلاطون ،  والمناضلة سيزا نبراوى ؛ وهم الذين رافقوا يوسف ادريس رحلته الى فيينا لحضور المؤتمروذِكر هذه الشخوص هى لعبة للكاتب لكسر الإيهام ، والمراوغة بين الواقع والتخييل .

شخوص الرواية
بطلى (البيضاء ) يوسف ادريس ، وروث ، كما صورها ايمان يحيى .
سامى جميل ، وسامنثا ، وكما كانت ( الزوجة المكسيكية ) ظل ( البيضاء ) كان سامى وسامنثا معادل ادريس وروث ، وورد بالرواية شخوصا ذكرتها من قبل مستدعاة من ( البيضاء ) ، من الشخصيات المثيرة دييجو ريفيرا ، ومن هنا ايضا يُحسب للكاتب ، الجانب التوثيقى او التسجيلى ، ويعد سمة من سمات الحداثة بالاضافة الى الاشارات والحيل والتضمينات التى فى الرواية لكسر الايهام تارة ، وادخالنا فى عالم الاحلام وانمحاء الفاصل الزمنى والمكانى فى الحلم الذى رآه سامى جميل.  
اتسمت الرواية بأنها رواية اصوات ، اذ تعددت وجهات النظر ، حول العديد من الامور ، من ناحية ، نرى الحدث من عدة زوايا ، فحين يحكى يحيى طه عن حبيبته او زوجته سانتى ، اليونانية  نجد سامى جميل يكتشف انها روث المكسيكية ، ومن ناحية اخرى نجد حماس سامنثا وحثها سامى على البحث ، و تصدير  الآراء المُتناقضةِ عن «البيضاء»، خصوصًا عندما يسمعُ الدكتور «سامى جميل» أقوالًا من قبيل: «البيضاء... هى خطيئةُ يحيى الذى ظل يحاول أن يُبرِّرها طوال عمره. أراد يحيى أن يبرِّى ساحته من تُهمةِ الشيوعية نهائيًّا، فنشرَ «البيضاء» فى صحيفةِ «الجمهورية» عَقِبَ حملة القبض الكبرى علي العناصر الشيوعية من اصدقائه. بينما يرى آخر أن يحيي: «استطاع... أن يستشرفَ بانتقاداته ما حدث من انهيارٍ للدول الاشتراكية، وما أصاب الأيديولوجيا الشيوعية من تصدُّعٍ..فيما بعد .
واخيرا استطاع الكاتب ان يقدم لنا معزوفة تداخلت فيها الانغام والموسيقى الحديثة مع الراب والموسيقى الكلاسيكية القديمة ..بالاضافة الى لوحة جمع فيها الفن الحديث والقديم معا فكانت صورة معبرة اتسمت بمشهدية عالية .