قراءة في رواية حافة التيه لمحمود سعيد


 في لقاء شخصي بالروائي المبدع محمود سعيد قال لي عندما صدرت روايتي “الضالان” والتي صدرت لاحقا بعنوان “حافة التيه” (1) اتصل بي بعض الأصدقاء عارضين علي السكن معهم معتقدين أنني بطل الرواية الذي لا سكن لديه ويعيش في خيمة في الغابة! فقلت له أن من اتصلوا به ليسوا من السذاجة بحيث يعدون أي نص يمثل الكاتب نفسه وظروفه. لكن الصدق العالي في تصوير شخصية وحال هذا المهاجر العراقي في الولايات المتحدة هو الذي جعلهم يتماهون معه ومعك ماداموا يعيشون الظروف نفسها. ورواية حافة التيه هي الجزء الأول من ثلاثية شيكاغو ومحورها يتمثل في تقابل شخصيتين مركزيتين يمثلان في الواقع عالمين متناقضين ومتصارعين هما عالم المهاجرين العراقيين خصوصا والعرب عموما إلى الولايات المتحدة الأميركية ممثلا بالعراقي “عمر” (63 عاما) والآتي من البصرة مهاجرا إلى أميركا منذ ثلاث سنوات، وعالم المجتمع الأميركي الحاضن ممثلا بالفتاة “كاثي” (في العشرينيات من عمرها).
ومن سمات محمود سعيد الأسلوبية هو أنه يضعنا في قلب أحداث رواياته وقصصه بعيدا عن الممهدات الوصفية للمكان والشخوص، التي بالرغم من أنها من سمات الرواية الكلاسيكية حيث كان بلزاك مثلا، عندما يريد بطله شراء فرشاة أسنان، فإنه يقوم بوصف جميع المحلات والمقاهي والعربات التي يمر بها (2)، إلا أن بعض الروائيين ما زالوا يلجأون إليها. لكن محمود سعيد يمسك بالتقنية التي تنقلنا مباشرة من الوضع التهيؤي المسترخي للقراءة إلى الإنفعال بهروب كاثي من قوّادها “ج جورج” وانطلاقتها الخلاصية المذعورة عبر الغابة الموحشة :
(ما إن سلمها الكهل خمسين دولارا حتى انطلق مبتعدا كأنه يخشى مداهمة الشرطة المفاجئة. التفتت وحيدة هي على رصيف الشارع .. لم تر سيارة “ج جورج” .. كانت الساعة في حدود الثامنة .. ألم ضرسها العميق القاتل يكاد يصرعها .. لم تدر كيف خطر لها تنفيذ خطة الهروب من ج جورج .. لمحت ضوء سيارة قادمة بسرعة .. توقعت أنه ج جورج . طفرت السياج. اندفعت من دون شعور بأقصى قوتها داخل الغابة … ثم سمعت صوته يتبعها : فكينك بيتش ، قفي – ص 5 و6).
وسيلاحظ القاريء من هذا المقطع ، وعلى امتداد الرواية ، سمة أسلوبية لغوية وتعبيرية مهمة وهي “الجملة القصيرة” التي يستخدمها محمود بصورة متلاحقة لتأتي كضربات توقيعية تلاحق الحدث وتجسده حتى ليبدو للمتلقي وكأن الجملة تلاحق أنفاس كاثي اللاهثة :
(لم تلتفت إليه. جدار من ظلام مخيف، يتفتت ما إن تقترب منه . هكذا حياتها أبدا. ظلام ومجهول. هل سيقودها الهرب إلى برّ الأمان؟ عليها أن تحاول. أن تستمر في الركض. أشجار تنفرج وتلتم. من أين جاءتها تلك القوّة ؟ – ص 6) .
إن اللباس اللغوي الذي صمّمه الروائي لجسد روايته، جاء في غاية الدقة والرشاقة، وكأنه تلك الملابس التي تنسرب بليونة وإحكام رقيق على جسد الموديل الباهر. ويهمني هنا أن أنقل الإدانة المبكرى التي أعلنها العلامة الراحل “علي الوردي” للخطاب “الشعري” الذي يسم ويصم آليات الثقافة العربية كلها. ومن بين أهم ما ذكره الوردي هو طول الجملة في الخطاب السردي العربي . كان يؤمن بـ (الأسلوب التلغرافي) الذي يشبه أسلوب من يرسل تلغرافا أو برقية ، فهو يضع الألفاظ على قدر المعنى لا يزيد فيها ولا ينقص، لأن زيادة الألفاظ تؤدي إلى زيادة أجورها، أما نقصها فيؤدي إلى غموض المعنى فلا يفهمه المرسل إليه. وهذا الأسلوب يتطلب بلاغة خاصة تختلف عن البلاغة القديمة. إنه يتطلب رشاقة لغوية محسوبة ، تحسب حساب جسد المعنى كي تلائم قماشة اللفظ عليه لا العكس حيث يستبد المبنى بالمعنى ويضيعه . ولكن من المهم أن نشير إلى أن الأنموذج الأساس الذي وجه انتباهة الوردي نحو الإهتمام بالمعنى أولا وباللغة الميسرة المفهومة ثانيا هو أسلوب الإمام ” أبو حامد الغزالي “. فالغزالي في الحقيقة هو صاحب ثورة أسلوبية كبرى على اللعب اللفظي وطغيان المبنى على المعنى أولا وعلى ” نخبوية ” الثقافة المتعالية التي لا تفهمها سوى “عصبة” الفلاسفة في وقته : ” فقد ظهر هذا الرجل في زمن كانت الأفكار الفلسفية فيه عويصة لا يفهمها إلا أصحابها ، وهم يتراطنون فيما بينهم ويتباهون . فعمد الغزالي إليها يدرسها ويقلب النظر فيها ثم أخرجها من بعد ذلك إلى الناس واضحة لا عسر فيها. (3)
وقد أفلح الكاتب في “إسقاط” مشاعر الفتاة الهاربة المذعورة على مكونات المكان المادية ، فصارت أضواء السيارات الخلفية حمراء متراصة كرتل عيون خرافية، وأضواء صفر قادمة مرعبة تنتظم في خط طويل (ص 5).
لقد أنقذ عمر كاثي من القواد ج جورج .. فبعد أن قفزت وبقوة خرافية بريكة الماء التي واجهتها وهي منطلقة في الغابة، حاول جورج القفز للإمساك بها لكنه سقط على وجهه، وفي اللحظة نفسها برز رجل يتلفع بالظلام، بيده مصباح يدوي وجهه الى وجه جورج : إنهض ، عد أدراجك، وإلا نثرت مخّك.
هنا تحول جورج من ديكتاتور مخيف إلى شخص آخر ذليل مهزوم (ص 9)
كانت تدعو الرجل الغريب المنقذ إلى قتله لكن الأخير رفض.. وأمره بالمغادرة.. ثم تبعه ليتأكد من تركه المكان. كانت دعوتها لقتل جورج نابعة من روح ثأرية تأسست على جرعات العذاب الخانقة التي تجرعتها على يديه، أما عمر فقد كان موقفه المتسامح نابعا من عوامل أخرى عميقة بُنيت عليها شخصيته وتبلور على ضوئها سلوكه. لقد قهقه عندما سألته لماذا لم يقتله، فهو إنسان مسالم ويؤمن أن القتل لم ولن يحل أي مشكلة. حتى المسدس الذي هدد به جورج كان بلاستيكيا. لقد سلب ج جورج كاثي حرّيتها واعتقل إرادتها ومسخ وجودها من خلال مهنة الدعارة التي زجّها فيها بطريقة لا يمكنها الخلاص منها. فقد حبسها في شقة ضيقة خانقة مع ثلاث فتيات أخريات من ضحاياه. كانت ظروف الشقة سيئة جدا ، وحين دخلها عمر شعر أي مهانة وعبودية وإذلال كانت تعيشها كاثي على يدي جورج الذي كان يصادر كل ما يجنينه من بيع أجسادهن وكرامتهن.
# الكائن الطبيعي :
——————–
وفي هروب عمر من ضغوط الحياة في أميركا لائذا بالغابة، عودة مباركة في الحقيقة إلى رحم الأنوثة / الأمومة المفقود. فالأنوثة – في مفهوم نفسي – تُعرّف بأنها “الإنسان ضمن الطبيعة-nature humanbeing among، وهي حالة الالتحام الحي والمسالم بالطبيعة والكون، والتناغم الخلاق مع حركتها لتنمية عطاياها واستثمارها بصورة أمومية رحيمة. أما الذكورة فهي الإنسان ضد الطبيعة- humanbeing against nature، حيث حالة العدوانية وتمزيق الرحم الأمومي “الطبيعي” الحاني المعطاء. والعالم الذي هاجر إليه عمر واكتوى بنيران عدوانيته السافرة والمكتومة- وهذه أخطر- هو عالم الذكورة الباطشة حيث الضغينة والفردانية الأنانية وتدمير الذات. وفي أحلك اللحظات في حياة الفرد لا يجد عونا إلا في العودة المباركة إلى فردوس الرحم الأمومي المنعم. وها هو عمر يعود- ناكصا في الواقع- إلى “الغابة” ليعود إنسانا “طبيعيا” في الكينونة الأولى البسيطة العارية. لقد سألته كاثي كيف تأكد أن جورج لن يعود إليه لينتقم منه ، فأجابها بأنه ملأ ما يحيط البقعة التي يسكن فيها بالفخاخ .. وأن جورج قد تعثر بحبل أخفاه تحت العشب والماء.
وعندما أكدت له بأنه سيقتله لأنه قوّاد قاتل لا يتورع عن اقتراف أي جريمة، أجابها، وبصورة غريبة مستسلمة، أن لا مفر للإنسان من قدره، وأنه حتى لو هاجمه جورج يريد قتله وكان معه (= مع عمر) مسدّس فلن يدافع عن نفسه ، وسيترك جورج يقتله (ص 12).
ومن بين نتائج عودته “الطبيعية” هذه أنه صار ملزما ومختارا في الوقت نفسه على أن يجد في خزانة الطبيعة أغلب ما يلزمه حتى في حالات المرض. كانت كاثي تكاد تنهار تحت مطارق ألم ضرسها اللعين. قدم لها عمر حبة قرنفل سوداء، وضعتها على السن المنخورة وأطبقت أسنانها بقوة فخف الألم بدرجة كبيرة جدا. وقد دهشت عندما أراها الخيمة الصغيرة التي أخفاها بين الأغصان المتشابكة ببراعة. كان يشعل بعض الأغصان في علبة من الألمنيوم ليطرد البعوض خوفا من “حمّى غرب النيل” التي مات بسببها ثمانية عشر شخصا في شيكاغو وحدها (وشيكاغو هي الولاية التي تدور فيها وقائع الحكاية).
كما توفر هذه العودة رجوع الإنسان إلى تلقائيته بعد أن تخلص من منافسة وجور الآخر المعادي. إنها استعادة لزمن الطفولة والعفوية الضائع. هو نفسه كان يتصرف بتلقائية عالية جدا، وببساطة أخاذة. حتى كاثي شعرت بتلك الأحاسي :
(مرّت فترة سكون أخرى اضطرتها للإندماج بأصوات المخلوقات الصغيرة نفسها. ها هي تعيد اكتشاف عالم غار في أعماق ذكريات الطفولة، بات شبه ميت، عالم كانت جزءا منه، ثم فارقته حتى لم تعد تظنه موجودا قط. فيما ومضت فوق الحشائش، في غير مكان، شهب الحباحب الطيّارة، مكونة أقواس صغيرة من أنوار خضر لا يلبث أن يبتلعها سواد الظلام- ص 15).
لقد اختار عمر الغابة ملجأ بالرغم من أن السكن فيها محرّم، وذلك لانه باع شقته، وصفّى كل متعلقاته من أجل الإنتقال إلى السويد، للعيش كلاجيء هناك، بعد أن شعر بانه لا يمكن أن يتحمل الحياة في أميركا. إنها حياة للشباب وليس للشيوخ من أمثاله كما كرر أكثر من مرة. لقد أمضى في أميركا ثلاث سنين. وعلى الرغم من أنه سيحصل على الجنسية بعد سنتين إلا أنه قرر مغادرتها إلى السويد بعد أسبوع واحد (لا أريدها . أميركا ليست لي ، للشباب- ص 23). وقد أضافت هي (أميركا صعبة حتى على الشباب – ص 26) . لكنه حاول إقناعها بأن تحمّل الشباب وقوتهم يؤهلهم للصمود. فهو تتجمد أصابع يديه ورجليه إذا انخفضت درجة الحرارة تحت الصفر المئوي. وموسم البرد يمتد لستة اشهر.. بالإضافة إلى معاناته من التمييز العنصري ضد الأجانب .. لكنها تصر يائسة على أنها لا تستطيع. إلا إذا تنازلت عن كرامتها كما حصل مع جورج الذي حوّلها إلى بغي مبتذلة مهانة.
ومن هنا تنشأ علاقة ذات معاني نفسية واجتماعية وحضارية عميقة بين عمر وكاثي.
لقد عاشت هذه الفتاة حياة هي عبارة عن سلسلة من المصائب والشدائد المدمرة .. لم تر أبويها ولا تدري كم مرة انتقلت من متبن إلى آخر؛ آخر المتبنين حاول اغتصابها فهربت. تعرفت إلى مراهق مدمن هو “توم”. وفي ليلة قضتها معه منتشية ضاحكة بصخب بفعل المخدرات والأفلام الخلاعية، استيقظت لتجد نفسها في قسم الشرطة والدم يلطخ يديها وثيابها. لقد قتل توم من قبل رفاقه. واتهمت هي، وحكم عليها بالسجن خمس سنوات. خرجت تلاحقها لعنة السجن التي وقفت حائلا دون أن تحصل على فرصة عمل. كانت وصمة نهائية. تعرفت إلى جورج الذي أظهر لها الحب والرغبة في الزواج. وعندما أعلنت له رغبتها في العمل كموديل بسبب سحر جسدها وكماله، أبدى استعداده بأن يوفر لها الخمسة آلاف دولار المطلوبة. فرحت .. ولكن عن أي طريق ؟ عن طريق إيجاد زبائن لها من الأغنياء !! فحوّلها إلى عاهرة بعد أن تمكن منها الإدمان على المخدرات فصارت رهن إشارته.
وتثير حالة التفكك العائلي التي تعاني منها “كاثي” معضلة فارقة وحاسمة بين المجتمع الغربي الأميركي تحديدا ، والشرقي ، العربي تحديدا . فهي لا تعرف أبويها ، وليس لها أهل . إن الحالة الاستقلالية المبكرة للأبناء عن الآباء والمدعمة بتشريعات قانونية، والتفككية كنتيجة نهائية، والتي تقوم الولايات المتحدة الأميركية بالترويج لها، وفرضها على المجتمعات الشرقية (لاحظ أن الوفد الأميركي الذي حضر مؤتمر السكان والتنمية الذي عقد في القاهرة سنة 1994 طرح مقترح حق المراهقات في استخدام حبوب منع الحمل، وحق العائلة ذات الجنس الواحد – أي عائلة من رجلين أو امرأتين – … إلخ) هي على النقيض من العائلة التكافلية بنموذجها العربي الذي لا يُلقى الآباء والأمهات في برودة ووحشة بيوت المسنين. وتعبّر كاثي بصورة مؤثرة عن محنتها .. وضياعها .. وتعاون السلوك المؤسساتي الرسمي على تضييعها وعدم تخليصها من محنة الإدمان بالقول :
(لماذا سُجنت؟ لماذا عوقبت؟ كل ما أعرفه أنني كنت سعيدة، يبدو أننا يجب أن ندفع ضريبة سعادة لحظات معدودة بشقاء أبدي .. تُرى لو كان لي أبوان طبيعيان أكنت أعاني ما أعاني ؟ أنا لم أختر الحياة من دون أبوين ؟ فلماذا أعاقب؟ لماذا لا يهمهم إصلاح الضحايا الأبرياء، أو حتى المنحرفين، لو أنشأووا مؤسسات تستخدم هذه الفئات من مغادري السجون “أمثالي” لاختفت نصف الجرائم في أميركا، لكنهم لا يريدون ذلك ،لا أدري لماذا ؟ – ص 47).
وفي مشهد قد يراه القاريء عاديا في نص يتناول طبيعة الحياة “المنفتحة” في المجتمع الأميركي، تتذكر كاثي في تداعياتها عن حياتها المأساوية أمام عمر الكيفية التي حاول فيها أبوها (بالتبني) اغتصابها ذات ليلة، وتكراره ذلك الفعل الذي دفعها إلى الفرار من البيت إلى الأبد خصوصا بعد أن رفضت زوجته تصديقها. أقول لقد عرضت علينا الأخت السيّدة (أوبرا) في برنامجها الشهير حلقة هي من عطايا قناة الحرّة أيام اختيار كونداليسا رايس أحد الصحفيين العراقيين المهاجرين إلى أميركا مديرا لها، عرضت حلقة خاصة عن أب يتزوج ابنته وابن يتزوج أمّه .. وهكذا. وقد كتبنا عن هذه الحلقة وقتها في صحيفة (المدى). إنني لن أكف عن التأكيد على أن هذه الظواهر ليست نتاجا عارضا لخلل في العلاقات الاجتماعية، لكنها نتائج طبيعية للفلسفة الغربية المادية التي تحكم حركة الحياة بأسرها هناك، والتي من المنتظر أن تعمّم قيمها العولمة وأجهزتها الإعلامية كالحرة .. وغيرها.
# حضارتان تتقابلان :
———————-
عبر الموضوعة التي قد تبدو بسيطة، عرض علينا محمود سعيد مسألة بالغة التعقيد وتتمثل في تقابل، بل تصارع حضارتين وموقفين من الوجود والحياة: الأولى يمثلها عمر، والثانية تمثلها كاثي.
فخلال الأسبوع المتبقي لعمر قبل سفره إلى السويد ، بذل جهدا خرافيا في إصلاح و “إعادة تأهيل” كاثي عبر برنامج مكثف ومرهق بالنسبة له ومليء بالتضحيات من جانبه. أولا عمل على أن تستعيد كرامتها كإنسانة لا تشترى وتباع، أي أن لا تفكر على الإطلاق بالعودة إلى السقوط في هاوية الدعارة التي تراودها بين وقت وآخر كطريق “سهل” للعيش. كان يرتعب كلما قالت بلهجة اعتيادية أنها قحبة. ثم عمل بجد وعناء على جعلها تقلع عن المخدرات أو على الأقل تقلل جرعاتها من خلال اختلاق المعاذير المختلفة لتأخير الجرعة ساعتين وأكثر، وهي بالمناسبة طريقة علمية. ولأن سببا رئيسيا من أسباب سقوطها هو بطالتها المفضية إلى العوز والفراغ والضجر والإدمان وسهولة وقوعها في مصيدة الابتزاز فقد منحها فرصة العمل التي كان صديقه “فوزي”قد عرضها عليه أصلا.
إن سلوك عمر هو جزء من التربية على السلوك العائلي التكافلي الذي “تدرب” عليه طويلا ، والذي تحكمه فلسفة روحية عميقة .. في حين أن معاناة كاثي هو نتاج للفلسفة الغربية المادية التي تحكم حركة الحياة في المجتمع الغربي عموما والمجتمع الأميركي خصوصا ، فلسفة بدأت بإعلان موت الله في مرحلة حداثتها ، وانتهت بإعلان موت الإنسان في مرحلة ما بعد حداثتها .
وضمن تربيته التكافلية سعى عمر وبقوة إلى تخليصها من الإدمان عبر تقليل الجرعات ، وإطالة مواعيد تناولها ، ثم العمل بحرص على أن يجد لها عملا ..هو في الواقع العمل الذي خصص له .. صمم لها جدولا زمنيا للحصول على إجازة السوق خلال ثلاثة أيام من الأسبوع المتبقي له في الولايات المتحدة : ( نذهب معا في اليوم الرابع، نأخذ كتيّب تعليمات إشارات المرور، تحفظينها في يوم واحد، وفي اليوم الخامس تؤدين الإمتحان، سأجعلك تنجحين، وفي نفس اليوم تتسلمين رخصة القيادة ، زتقودينسيارتك الخاصة – ص 49).
فأي تضحية هذه .. كانت هي نفسها – وبحكم تربيتها المحكومة بتلك الفلسفة – لا تصدق أن أحدا يقوم بكل هذه الجهود المخلصة من أجلها بلا مقابل. لقد قدّم لها حتى سيارته
# فصل الروح عن الجسد :
————————–
هناك ظاهرة غريبة في أميركا وهي فصل الجسدعن الحب إلى حد تحويل الجسد إلى أداة لـ “العمل”. وحين يقول جورج لكاثي التي تساءلت كيف يسمح لغيره أن يشاركه في جسدها بعد أن عرض عليها العمل في الدعارة : ( نعم أحبك .. لكن الحب شيء .. والمهنة شيء.. القلب للحب والجسد للمهنة. لا علاقة للواحد بالآخر، كلاهما يسيران في خطين متوازيين جنبا إلى جنب، لكنهما لا يتقاطعان ولا يتعارضان – ص 33) .
ولعل هذا الفصل بين الروح والجسد المدعم بروح تبريرية “عمليّة” تسليعية تسحق كل الضوابط هو من سمات الحضارة الغربية الماديّة. فبإمكان “الفنانة” –مثلا- في الغرب أن تذهب إلى الأستوديو لتقوم بمشهد جنسي تُمارس فيه الجنس ثم تعود إلى زوجها وأطفالها بلا أدنى اهتزاز لمعاني حضورها كزوجة وكأم ولعلاقاتها بأطفالها فقد أدت “عملا” وعادت. إن الإباحية المعرفية التي حققتها ما بعد الحداثة، قد استكملت بإباحية أخلاقية وجنسية. ويمكن أن يكون هذا نتاج تربية قرون وملائما لتلك المجتمعات، لكن لماذا يريدوننا أن نكون مثلهم؟
وقفة عند البغاء كنتاج طبيعي للفلسفة المادية الغربية :
—————————————————-
وحين قُدّمت (مدام فلور) في الحادثة الشهيرة، إلى القضاء في بداية هذا القرن لإدارتها بيتا للدعارة ، قالت للقاضي أنها إنما كانت قم بـ “عمل” مثل الأعمال الأخرى في المجتمع. فأعفاها القاضي من التهمة. ثم وضعت “خبرتها” في كتاب حاز انتشارا هائلا. وطلعت علينا الآن معاهد لتعليم الدعارة “العلمية” وصارت العاهرى تُسمّى (sex worker) . وعلى هذا الموقف يعلّق المفكر الالماني والتر بنجامين بالقول :
“When prostitutes call themselves “sex-workers”, work has become a prostitution”
أي : عندما تُطلق العاهرات على انفسهن اسم “عاملات الجنس”، فان مفهوم العمل ذاته يصبح عهراً. ومن جديد فإن هذه الظاهرة ليست وليدة الفقر والحاجة الاقتصادية على الرغم من أهميتها، لكنها نتاج الفلسفة الغربية المادّية التي “تشيّء” الجسد البشري ، وتعامله كسلعة بعد أن نقلت الإنسان من موقعه المقدّس كثغرة إلهية في نظام الطبيعة إلى جزء من مكونات الطبيعة نفسها. ومن نتاج هذا اللسلوك مكا يسمّيه الفلاسفة والباحثون الاجتماعيون بـ “اللحظة التايلاندية” حيث يتشكل الدخل القومي لأمة كاملة من الدعارة!! وهي لحظة مماثلة للحظة السنغافورية حيث الأمة كلها عبارة عن “دكاكين” استهلاكية .. واللحظة النازية حيث الأمة كلها قابلة للحوسلة والتصنيف مراتب من ناحية “المنفعة” الإجتماعية !! (4).
وفي وقفة مساندة لهذا التحليل يجعل الروائي الفتاة تعتذر بعد أن عاشرته طويلا ومارست الجنس معه و”صوبن” أدق خصوصيات جسمها العاري، تعتذر له لأنها لم تعرف اسمه ولا هو عرف اسمها. الآن تمد يدها إليه وتقول: كاثي ، وأنت ؟
-عمر .
# العنصرية نتاج موقف فلسفي ثابت وليست رد فعل عابر:
في أكثر من موضع، يحيلنا الروائي من خلال بطله “عمر” إلى الروح العنصرية التي تحكم السلوك الرسمي الأميركي. فالأخير كان ضحية ردود الفعل المؤسساتي بعد أحداث الحادي عشر من ايلول التي سعّرت الموقف العتصري تجاه العرب خصوصا والمسلمين عموما. فقد وجدت الجهات الأمنية الأميركية المختصة جوازات سفر عربية في موقع الإنفجار على الرغم من أن درجة حرارة الإنفجار الناجم عن انفجار الطائرة (أكثر من 80000 ألف درجة مئوية) صهر حتى الأعمدة الفولاذية والإسمنتية في جسد المبنى !! لقد تمّ فصل عمر وكثيرين من زملائه العرب من شركة الحراسة التي كان يعمل فيها. وفوق ذلك تهديده بدفع ثمانية آلاف دولار عن أربعة أيام قضاها في المستشفى. أعطوه دواء لآلام الكتف مزّق معدته، وعندما بدأ ينزف بشدة أدخلوه المشفى للعلاج .. والآن يطالبونه بهذا المبلغ الخيالي.
ومخطيء من يظن أن هذا الموقف العنصري هو وليد ردة فعل ظرفية تجاه واقعة محددة. مثلما هو مخطيء من يعتقد أن النازية قد انبثقت من الهواء أو أنها نتاج المجتمع الألماني، إن النازية هي النتاج الذروة للفلسفة المادية الغربية التي بدأت – كما قلت في أكثر من مناسبة سابقة وأكرر القول للأهمية الحاسمة – مرحلة حداثتها بإعلان موت الله على لسان “نيتشه”، لتفتتح مرحلة ما بعد حداثتها بإعلان موت الإنسان على لسان “فوكو”.
# الدور الإجتماعي للأديب :الحرب على العراق :
————————————————–
ولا يستطيع محمود سعيد الإنجراف مع الموجة “المابعد حداثية” في الرواية التي يتعالى فيها الأدب على الناس وآلامهم وبؤسهم الساحق. في رواية “الغيرة” لألن روب غرييه يصف الراوي صفوف الموز وتناسقها وترتيبها عبر صفحات طويلة في حين لا يقف على آلام الزنوج المقهورين الجالسين في ظلالها. وأؤكد لكم أن لعبة الفن الخالص التي تدعو إليها الدوائر الثقافية الغربية وتروّج لها أبواقها المبهورة الذيلية في الثقافة العربية هي لعبة “انتقائية” أيضا. إنهم يروجون بين كتاب العالم الثالث ن من الضروري أن ينفصل الأدب عن أي حيثيات خارجية، في حين يروجون لنصوص غربية تروّج لأخس الأهداف السياسية والدينية. فرواية مثل “شفرة دافنشي” يضعها الكثير من النقاد ضمن هذا الإطار. وكل النقاد العرب “يستحون” من تناول خاتمتها على الصفحة (435) من الرواية حيث يرمي “دان براون” القفاز في وجوههم بجسارة. على تلك الصفحة يدور الحوار الأخير بين “لانغدون” و “صوفي نوفو” حفيدة “مريم المجدلية” الإلهة الأم والكأس المقدّسة اليهودية، حول الرمز المرسوم على أرض الكنيسة التي يصلانها بعد مطاردات تحبس الأنفاس. يقول لانغدون أنّ رمز الأنوثة هي الكأس أو المثلث الذي قاعدته إلى الأعلى والذي يرسمه لنا الأخ (دان براون) على الشكل التالي:
أمّا رمز الذكورة فهو المثلث الذي قاعدته إلى الأسفل كما يوضح الرسم التخطيطي في الرواية وهو:
والديانة الحقّة التي على البشرية الإيمان بها فهي التي تنتج عن اتحاد الذكورة والأنوثة؛ وهذا الإتحاد الذي سينتج عنه رمز الرموز المقدّس وهو:
.. وهكذا يوصلنا “دان براون” عبر مسيرة لاهثة ومحكمة إلى ما يعتبره (خلاصة الحضارة الإنسانية).. نجمة داوُد.. نجمة الصهيونية السداسيّة!!
“إنهم” يريدون الفن خالصا للفن في أي شأن يمس معاناة الإنسان العربي المحطّم بالقهر الأميركي الصهيوني .
يطرح محمود سعيد موضوعة خطيرة وممنوعة أميركيا وهي موضوعة الحرب على العراق. فحين تسأل كاثي عمرا عن موطنه ويخبرها بأنه من العراق تقول له: العراق .. العراق، بن لادن، أكلّ ذلك الحديث في التلفزيون والجرائد والإذاعة عن الحرب المقبلة يتجّه نحو بلدك؟
ابتسم بألم : نعم- ص 76).
في موقف آخر يتحدث عمر عن صديقه (جميل) صاحب ستوديو التصوير وهو يحاول – بلا نتيجة – إقناع زوجة رجل مكسيكي أن الصورة التي يريدانها تسبّب له المشاكل في هذا الوقت الحرج من التحشيد المسعور للعدوان على العراق. لكن ما هي الصورة التي كانت تريدها هذه المرأة؟ كانت تريد تصوير طفلها ذا السنة الواحدة وهو يبول على صورة البيت الأسود. هذا البيت الذي يبول مسؤولوه على رأس العالم كله بقيمه واعتباراته وثوابته كل يوم. النخبة السياسية الأميركية هي امتداد لسيكولوجية القتلة والمجرمين الذين شكلوا طلائع اكتشاف “الأرض الجديدة” وأبادوا (120) مليون هندي أحمر .. وأكرر (120) مليون هندي أحمر والمعلومة ليست مني بل من مؤرخ أميركي ثقة ويهودي!! هو (نعوم تشومسكي). هذه النخبة بلا أخلاق ولا قيم ولا روادع غير قيمة “النجاح” حسب الفلسفة الذرائعية التي يدعو رائدها (وليم جيمس) إلى (السفك الصوفي للدم ) حسب تعبيره. وإذ يشتغل الروائي في بعض الأحوال بالتكنية والتورية والربط غير المباشر الناجح ، فإن هذه النخبة أسو من (لصوص الحلّة)، بل إن الأخيرين أشرف منهم بأشواط طويلة (تذكّر كيف انتفض أحد اللصوص الذين التقاهم في سجن الحلة، سنة 63 حينما ساقوا معظم المثقفين الشباب إلى السجون، انتفض عندما أشار أحدهم إلى لصّ آخر: زميلك
-زميلي! لا ، حقير ، كلب
-لماذا ؟ كلاكما محكوم بالتهمة نفسها
صرخ بكل قوته: لا، أنا “حرامي”، نعم، لا أنكر، لكنني شريف
-عفواً لم أقصد إهانتك، لكن لماذا تحتقره؟
-بدل أن يسرق حاول أن يعتدي على شرف ربّة الدار، أخذت تصرخ. قُبض عليه. هذه نذالة.
علم آنئذ أن لكل فئة مهما انحطت مثلها العليا الخاصّة بها، حتى اللصوص لهم قوانين شرف جعلوها رائدهم في مهنتهم! – ص 82 و83).
وفي لحظة من لحظات كدر الذات وتقريع النفس وهو ينتظر الرحيل بالطائرة إلى السويد، يتساءل عن معنى عذاب الضمير هذا الذي يلاحقه بسياطه بفعل مواقعة كاثي، مادامت الحرب المقبلة على العراق، سوف تبتلع مئات الآلاف من الضحايا العراقيين الأبرياء. مثلما علستهم ماكنة الحرب السابقة. حتى في مطعم أبو نؤاس الذي يتجمع فيه العراقيون الذين يقتلهم الفضول – كالعادة – لمعرفة سرّ العلاقة بينه وبين هذه الفتاة الأميركية الساحرة الأصغر منه كثيرا، من دون أن يلتفت أحد منهم إلى الخارطة الكبيرة للعراق التي حُددت عليها مئات الأهداف العراقية التي سوف تُدمر في الحرب المقبلة. إعتصر قلبه واضطر إلى أن يغير مقعده بحيث يولي ظهره إلى الخارطة. وما يحزّ وجدانه هو أنهم كعراقيين مهاجرين – وكما يقول لحسن صاحب المطعم – لا يستطيعون فعل أي شيء !!
إن هذا العذاب التاريخي المديد والمتطاول المفروض على بلاد عمر تجعله “حيوانا مُذنبا” إذا ساغ هذا الوصف المستقى من مقولة أرسطو (الإنسان حيوان سياسي)، فالعراقي دائما يركبه شعور بالذنب يدفعه إلى محاولات تكفير مستمرة. وهي سمة من سمات الشخصية العراقية. وهذه السمة تجعله شديد الارتباك في سلوكه اليومي.. متوترا .. قلقا .. متقلبا .. مراقبا بلا رقيب. أحد أصحابه يقول له (هؤلاء جماعتنه العراقيين .. كل واحد منهم أمضى في أميركا أكثر من عشر سنوات ومازال يتصرف كما هو الحال في العراق).
# لمسات استعادية جارحة :
—————————–
ليس الخلاص من أميركا وشرورها هو الذي يتحكم بمحاولة عمر الانفلات من المكان الجحيمي هذا بأي ثمن.. هذه قوة طاردة ذات تاثير كبير .. لكن هناك قوة “جاذبة” لا تقل عنها قوة تكون في كثير من ألاحوال سببا مستترا لهذه الحركة التذبذبية المهاجرة. هي صراع التضاد تجاه المكان الأمومي الذي يلاحقه في ملاذه الجديد .. فلا يجده شافيا .. فينتقل إلى آخر .. وقد ينتقل بعد ذلك إلى ثالث .. وهكذا. إن الحالة التكيفية “الحديدية” إذا جاز الوصف مع حياة المنافي هو الإنخلاع الكلي من المكان الأصل. وبتر كل الروابط النفسية وخصوصا الذاكراتية به. وبخلاف ذلك نكون – وحسب التعبير الموفق لرسول حمزاتوف – كمن يعد أم زوجته “أمّه” ويناديها كذلك!!
حين تحدثه كاثي عن تعلقها بطائر الكوكتيل الذي يوقظها في الصباح ، يستدعي فورا بلابل بلاده :
(كان هناك بلبل يحط في حديقة البيت، يوقظني كل صباح في السادسة، ثم يختفي طيلة النهار، ليعود ثانية.. آه ما أجمل تغريده.. لم أسمع تغريدا أجمل من تغريد بلابل بلادي – ص 28) وكأننا أمام تصوير آخر لـ (حتى الظلام هناك أجمل .. ).
وهناك موقف آخر يبدو ن الروائي رسمه للمقارنة الذكية المستترة حين جعل كاثي تصطاد طائرا من طيور الكوكتيل لتذبحه وتأكله. وحين يعترض عمر تهدّده بحدّة: أما أنا أو هو !