الضياع والجنس والغربة في ثلاثية شيكاغو

ناطق خلوصي

تشكـّل ثيمات الضياع والجنس والغربة عن الوطن، أعمدة أساسية يقوم عليها معمار أعمال محمود سعيد الروائية، فهي تجد لها حضوراً في مجمل ماصدر له حتي الآن تقريباً ، تسهم في تشكيل أحداث هذه الأعمال أوتتحول إلي دوافع محرّكة لها، وتترك بصماتها، سلباً في الغالب، علي سلوك شخصياتها وتحديد مصائرهذه الشخصيات. لقد كتب محمود سعيد أغلب رواياته وهو بعيد عن العراق مكانياً لكنه ظل لصيقاً به روحياً وابداعياً ، يستمد مادة ما يكتب من خزين ذاكرته الذي يوفر له فيضاً من الصورمشفوعة برؤية دقيقة للواقع العراقي وما يطرأ عليه من تحولات حتي ليبدو لمن يقرأ أعماله انه لم يغادر العراق مع انه كان قد فعل ذلك قبل بضعة عقود من السنين. تذكـّرنا " ثلاثية شيكاغو " الصادرة عن دار آفاق للنشروالتوزيع في القاهرة في عام 2008، بثلاثية نجيب محفوظ مع انها تختلف عنها في مبناها وطبيعة مضمونها. فمثلما ينفرد كل جزء من ثلاثية محفوظ بعنوان خاص به: (بين القصرين والسكرية وقصر الشوق) فإن ثلاثية سعيد تحذو حذوها لتحمل أجزاؤها الثلاثة عناوين: (حافة التيه و أسدورا و زيطة وسعدان). وحيث حرصت ثلاثية محفوظ علي استقراء حقبة زمنية من تاريخ مصر السياسي والاجتماعي وامتدت لتغطي ثلاثة أجيال، فإن ثلاثية سعيد حاولت أن تفعل ذلك لكنها ظلت تدور في مديات زمنية محدودة نسبياً وسعت إلي أن تسجل هي الأخري مقاطع من تاريخ العراق السياسي الحديث. ومع ان الزمن الافتراضي لكل جزء من الثلاثية يتحدد ببضعة أيام، فإنه يتسع من خلال الاسترجاع ليغطي أحداثاً وقعت قبل سنوات. ولعل الفارق الرئيسي بين الثلاثيتين يتمثل في ان ثلاثية سعيد تغرق بتفاصيل مباشرة عن الجنس، وهو ما لم تفعله ثلاثية محفوظ. غير أن محمود سعيد لايمنح الجنس، وهو يوظفه في أعماله، وظيفة الإثارة الحسية وإنما يوظفه كمعادل لإحساس شخصياته بالخيبة والإحباط، فأبطال رواياته الثلاث مسكونون بهذا الإحساس. إنهم عراقيون ضائعون أو مشردون أجبرتهم ظروف قاسية علي الهرب من وطنهم، علي أمل أن يجدوا في الولايات المتحدة (مكان أحداث الثلاثية) الوطن البديل الذي يحقق أحلامهم في الحصول علي ملاذ آمن بعيداً عن قسوة الواقع العراقي الذي أنهكته الحروب وعمّقت جراحه، لكنهم يكتشفون انهم كانوا علي وهم، فينغمسون في الجنس هرباً من خيباتهم المتلاحقة. علي مستوي البناء ' لا يعمد محمود سعيد هنا إلي الإسراف في الوصف السردي أو استخدام جمل تستحيل إلي مقاطع (وهو ما فعله في روايته " بنات يعقوب ")، إنما يعمد إلي الإختزال ويؤثث مبناه السردي بلوحات مرسومة بالكلمات و مفعمة بالتدفق.

حافة التيه هذه الرواية هي رواية " الضالان " نفسها التي كان الروائي قد نشرها في عام 2003، وقد بررلنا (في رسالة شخصية) إعادة نشرها بكونها تعرضت للحذف في طبعتها الأولي فاختلف مع الناشرين وأوقف نشر الثلاثية، وهو مبرريجد ما يشفع له، يعمّقه كون هذه الرواية تتناغم في مضمونها وأحداثها ومكانها مع النسيج السردي للروايتين الأخريين. وكنا قد مررنا بـ " الضالان " في مقالنا الذي تحدثنا فيه عن ثنائية الجنس والسياسة في الرواية العراقية ونشرته ألف ياء الزمان، ووجدنا من المناسب أن نتوقف عندها بشكل أوسع هذه المرة في ضوء ما استجد فيها عن طبعتها السابقة وصلة ارتباطها بالروايتين الأخريين. تدور أحداث هذه الرواية في شيكاغو وبطلها هو العراقي عمر الذي يقف علي عتبة الشيخوخة وكان قد هرب من العراق إلي الولايات المتحدة بعد أحداث شباط 1963 علي أمل أن يجد فيها مستقراً يوفر له ملاذاً آمناً . وتعود بنا شخصية عمر هنا إلي شخصية سي الشرقي في رواية محمود سعيد الكبيرة " زنقة بن بركة ". ففي الشخصيتين بعض ملامح الروائي نفسه. البطل هنا مثقف، يكتب القصة، مولع بمتابعة الأخبار وبالقراءة حتي وهو في خيمة داخل غابة. في هذه الرواية يرسم محمود سعيد صورة شحصية المنقذ الشهم، وهو نموذج سيتكرر في الروايتين الأخريين، وكأنه يريد أن يؤكد علي يقظة روح الشهامة لدي العراقيين حتي وهم في ظل أقسي الظروف.. لقد ضاقت شيكاغو علي سعتها بعمر بعد أن ضاق وطنه به، فلم يجد مأوي له إلا في غابة (وللغابة دلالتها المعنوية هنا) تنحصر حدود عالمه فيها بسيارة وخيمة صغيرتين مخبأتين تحت أغصان ألأشجار الكثيفة. يقوم المشهد الاستهلالي في الرواية علي المصادفة وتنبني سلسلة من الأحداث اللاحقة عليه. ويتشكل هذا المشهد بظهور شابة تركض علي مشارف الغابة (يتضح فيما بعد انها مومس اسمها كاثي) بحثاً عن منفذ للخلاص يلاحقها سمسار نساء للإمساك بها وإعادتها إلي ماخوره. وتقود المصادفة إلي أن تقترب من المكان الذي يقف فيه عمر علي مشارف عالمه الخاص، فيستفز المشهد روح المنقذ الشهم فيه فيتصدي للسمسار بمسدس أطفال ويوقعة في بركة ماء آسن " يتلطخ بالوحل.. بالمياه العطنة، بل بخزي ابدي لا مثيل له... وعندما نهض، كان الوحل بأشناته الخضر الآسنة يملأ تجاويف وجهه، قضي علي مظهره كله، تمثال من الوحل الآسن المخضر. " (ص 9) والوحل هنا إنما هو وحل مادي ومعنوي معاً . ولم يتوقف دور المنقذ الشهم عند هذا الحد إنما تعداه إلي السعي لإنتشال الفتاة من واقعها القاسي وإنقاذها من الادمان علي المخدرات وإيجاد عمل شريف لها، ليتحول بذلك إلي مصلح اجتماعي وهو الذي يعاني من الضياع والتشرد، وكان قد حل في الولايات المتحدة قبل ثلاث سنوات وهو علي وشك أن يسافر إلي السويد بحثاً عن لجوء سياسي. إنه نموذج العراقي الذي يقع تحت وطأة ظروف قاسية شأنه في ذلك شأن بطلي الروايتين الأخريين، ويراوده حلم الخلاص لكنه يصطدم بواقع أكثرقسوة ومرارةً ، ليتحول إلي قدري، مهزوم يتلبّسه اليأس ويلاحقه القلق ويستبد به الأرق حتي إذا " استيقظ في الليل لا يرجع إلي نومه حالاً مهما فعل، تهجم عليه الأفكار من كل مكان وتظهر الحوادث المؤلمة في حياته الطويلة علي الشاشة، واحدةً بعد أخري " (ص 20) ويري أن لاشيء في الحياة " سوي البرد، الظلام، استقبال الموت. ستبتلعه المطارات، معسكرات اللاجئين، الغربة و الوحدة...." (ص 199). إنه يتعاطف مع كاثي لأنها تعاني من قسوة الظروف مثله. فهي لا تعرف أبويها وكانت قد تنقلت من متبن ٍ إلي آخر وحاول آخر المتبنين اغتصابها في غياب زوجته ووقعت أخيراً في شرك الدعارة فصارت تمارس حياتها وسط جو مشحون بالمخدرات والكحول والأشرطة الخلاعية وأصدقاء السوء والقتلة ومروجي المخدرات حتي انها أتهمت ْ باطلاً بقتل صديقها المراهق لتقضي خمس سنوات في السجن. لبطل الرواية فلسفته الخاصة، فهو لم يفكر في الزواج علي الإطلاق. الزواج في نظره جريمة. كان يمتليء إثماً بعد لقاء كل فتاة، ويري ان الجسد مقدس كالحب وينصح كاثي أن لاتمنح جسدها إلا لمن تحب. لكن شخصيةالمصلح التي تلبسته سرعان ما كشفت عن وجه آخر له فإذا به ضعيف أمام المرأة، لايقوي علي مقاومة إغرائها. لقد كان جمال كاثي آسراً (في كل رواية من الروايات الثلاث ثمة شخصية إمرأة علي مستوي عال ٍ من الجمال)، وسحره جمالها وهي التي تصغره بأربعين سنة وحاول أن يقاوم إغراءها ولكنه عجز عن ذلك فاستسلم أخيراً استسلام المهزوم " دفعته إلي الخيمة حيث حرائق الجسد ملونة بفقاعات حلم ورغبة لا تعرف الإنتهاء " (ص 61)، لكنه سرعان ما شعر بتأنيب الضمير، ولعل في ذلك ما جعله يهديها سيارته بعد أن وجد لها عملا. وحيث يصل المطار في انتظار أن تقلع به الطائرة إلي السويد يأتيه أحد أصدقائه ليخبره ان عددا من أصحابه العراقيين يخططون لاستغلال كاثي (في إشارة إلي إدانة الروائي لسلوك بعض المغتربين العراقيين غير السليم) وتظل خاتمة الرواية مفتوحة وإن كنا نظن بأن عمر سيعود علي شيكاغو ليحمي كاثي. إن محمود سعيد يبدو في أغلب أعماله مسكوناً بهاجس اسمه " شباط 63 "، حيث تعرّض شخصياً للملاحقة والاعتقال. بطل هذه الرواية كان قد غادر العراق بعد هذا التاريخ ويشير في حديثه إلي ما حدث في "سجن الحلة حين ساقوا معظم المثقفين الشباب إلي السجون ". وهو لا يخفي قلقه علي العراق في ظل التهديد بالحرب " كم ضحية بريئة ستسقط في العراق بعد ايام. ستعلس ماكنة الحرب الرهيبة مئات الوف الأبرياء " (ص 199). ويتجلي حنينه إلي الوطن من خلال حضوره الآماكن التي تحمل أسماء عراقية وتواجده بين أشخاص عراقيين. ويجد الروائي ما يبررله قسوته علي العراقيين المغتربين حيث لم يظهر علي امتداد زمن الرواية نموذج إيجابي حقيقي بينهم وهم وسط مجتمع يحرص علي تعريته وإدانته.

أسدورا تستمد هذه الرواية عنوانها من اسم أسدورا وهي إحدي شخصياتها. واسدورا هذه هي ابنة العراقي المغترب عدنان من زوجة مكسيكية أصرت علي أن تسمي ابنتها بهذا الإسم لكن الأب أضاف إليه اسم " ضوء " فصارت تعرف بإسمها المركّب " أسدورا ضوء ". تنفتح الرواية بمدخل مثقل بمرارة السخرية يشي بحجم المعاناة التي كان عراقيو الداخل يعيشونها في ظل الحصار حيث تصل رسالة من العراق إلي بطل الرواية ومحور أحداثها العراقي سعدي المقيم في شيكاغو، تنبئه ان ثمة من صار يصيد الذباب ويبيعه. ومن خلال هذا المدخل الافتتاحي نتعرف علي نموذج المنقذ الشهم متمثلاً في شخص سعدي الذي كان يرسل معونات شهرية لعدد من العوائل المحتاجة قبل أن يمنع بوش التحويل بذريعة منع تمويل الإرهاب. وفي صورة للتضاد القاسي، يعقب سعدي بالقول " يموت الناس هنا من التخمة لا من الجوع " الذي يموت به العراقيون. وحين يضع صديقه العراقي اليساري بول، الذي كان قد هرب من وطنه، اللوم علي الحكومة العراقية يعاتبه بالقول " أنت مثقف يساري، لماذا لا تفهم الأمر. هربت وأمثالك وتركتم الشعب من دون توجيه والآن تتهمون السلطة. السلطة فاسدة فمن يقود الشعب بعد هريكم ؟ " (ص7). ولا يتمثل نموذج المنقذ الشهم عند سعدي في هذا الموقف وحده إنما نراه يقف إلي جانب أسدورا ويعمل علي تهريب خطيبها المكسيكي إلي شيكاغو ويتستر علي زواجها منه من وراء ظهرعمتها سعاد التي غضبت منها وطردتها من البيت، فتكفل هو بمساعدتها ووجد لها عملاً أكثر من مرة، وهي التي كانت قد اعتادت علي حياة الترف في بيت أبيها، وأعطاها سيارته لتذهب بها إلي العمل، لكن أصحاب العمل حاولوا إغواءها. ويتكرر هنا موقف عمر مع كاثي في الجزءالأول من الثلاثية مع الفارق الإجتماعي والأخلاقي بين الإثنتين اللتين تتميزان بجمالهما الآسر. لقد تجسدت في الرواية أكثر من صورة من صور الشهامة، وهي شهامة متبادلة في الواقع. فقد وقف سعدي إلي جانب أسدورا رداً لجميل أبيها عدنان وعمتها سعاد عليه. فهما طلبا منه المجيء إليشيكاغو بعد أن أكمل دراسته الثانوية في بغداد ولم يبخلا عليه في شيء. وفعل عدنان وأخته ذلك ردّاً لجميل صلاح الدين أبي سعدي الذي كان قد قدّم نموذجاً للمنقذ الشهم هو الآخر. كان عدنان واخثه الناجيين الوحيدين من اسرتهما التي تعرضت للتصفية الجسدية في الموصل في عام 1961حيث يكشف محموذ سعيد من خلال الاسترجاع المتداخل مع السرد ، عن تلك الواقعة الرهيبة التي أنهت حياة أبي عدنان وأمه وأخته وأخيه الرضيع لمجرد انه انتقد، وهو معلم مثقف، حالة العنف التي اجتاحت المدينة آنذاك. لقد غامر صلاح الدين وآوي عدنان وأخته في بيته، وما لبث أن انتقل بهما إلي بغداد برغم ماجابهه من صعاب، واحتفظ بثمن بيع دار الأسرة المنكوبة وأعطاه إلي عدنان فيما بعد فغامر وسافر إلي الولايات المتحدة وحقق نجاحا تجارياً ً سريعاً هو وأخته التي لحقت به، قبل أن تسقط به طائرة هليوكوبتر في رحلة تجارية سعياً وراء الذهب. لقد استحوذ سعدي علي أوسع فسحة من زمن الأحداث غطت كل صفحات الرواية بدءاً من صفحتها الأولي وانتهاءاً بصفحتها الأخيرة. وشأنه شأن عمرفي " حافة التيه " كان قلقاً ، محبطاً ويائساً أحياناً علي الرغم من أنه لم يواجه حياة قاسية في شيكاغو مثل تلك التي عاشها غيره من العراقيين. كان يحب سعاد بصمت إلي درجة لا يتصورها العقل. يؤلمه غيابها المتكرر في سفرات عمل متلاحقة، وكان " رجوعها إليه يعيد شيئاً من توازن قلما يصادفه في حياة قلقة لاتستقر أبداً ، حياة منفي مكتوبة علي العراقي أن يعيشها رغم أنفه. " (ص37) تلقي سعدي أعنف صدمة حين هريت أسدورا من زوجها تاركة طفليها ليتكفل هو برعايتهما، ربما ليمارس الأبوة التي افتقدها فعلياً ، كشكل من أشكال التعويض. كان هروب أسدورا لغزاً محيراً ظل يشغل بال سعدي وتركه الروائي معلقاً ليترك نهاية الرواية مفتوحة هي الأخري. وزاد من حجم صدمة سعدي ومعاناته حين اكتشف بأن " ابن العم " العربي المهاجر كان وراء هروب أسدورا. رسم الروائي أبشع صورة، جسدياً وأخلاقياً ، لشخصية موسي خليل ابراهيم (ابن العم) الذي كان قد أبدل اسمه ألي " موسس كاليل ابرام " عندما جاء إلي الولايات المتحدة بسبب التمييز العنصري الذي كان سائداً هناك في الستينات. فهو أذكي تاجر مخدرات في شيكاغو، فقد احدي عينيه في معركة مع عصابة منافسة، وكان أنفه يغطي نصف وجهه. ما الذي جعل شابة في غاية الجمال من اسرة مترفة وتزوجت عن حب، تهرب مع رجل مثل ابن العم بما يحمله من مواصفات مقيته ؟ لقد أغواها علي القيام بذلك بعد أن جعلها تدمن علي المخدرات، ليقدم هو وعدد آخر من العراقيين المغتربين هناك نماذج سيئة مثل ذنون حسب الله الذي يعمل في التهريب ووصفه سعدي ساخرا بأنه " دكتوراه شرف دولة بكل أنواع الهرب والتهريب ". للجنس حصته الواضحة في هذا الجزء من الثلاثية أيضا في مشاهد ينفرد سعدي ببطولتها. فعندما جاء إلي شيكاغو " كان الكبت يقتله. محروم من الجنس كأي شرقي. لم يمر بتجربة فريدة مع أي فتاة. يحلم بالسعادة، بالصداقة، بالإرتواء من الجنس، بحرية انتقاء الأنثي في بلد متفتح " (ص30) لكنه ربما لم يحظ بذلك. غير أنه مر بأكثر من تجربة فيما بعد منها تجربته مع ستيسي التي جعلت روحه تتمرد علي جسده وتذكرنا بتجربة عمر وكاثي في " حافة التيه ". يقول عنها، هو أو الروائي من خلاله " حبات عرق متلأليء في جبهتها، في النهر القاتل بين نهديها، ودماء نارية تشتعل في وجنتيها. عينان تشتعلان رغبةً ، ابتسامة شهوة عارمة، وتلك الرائحة المتميزة. رائحة الأنثي التائقة للذوبان في الذكر! انها قتار الغلمة تتحمص كاللحم علي نار الرغبة، فتلوح في الجو عاصفة قاتلة، تجعل دماءك تندفع كإعصار نار لا يهدأ، ولا تطفئه سوي حنايا امرأة تغوص فيها. " (ص 23) ثم تجربته مع أشلي مطلقة ضابط الشرطة السادي التي سببت له الكثير من المتاعب، لتظهر ستيسي في حياته من جديد بعد غياب فيغطي الحديث عن اللقاء المتجدد بينهما أكثر من عشر صفحات. كان واضحاً إن انغماس سعدي في هذا اللقاء مع ستيسي جاء رد فعل علي إحساسه بالخيبة والاحباط وشعوره باليأس إلي الحد الذي جعله يفكر في ترك كل شيء لاسيما بعد أن عجز عن العثور علي اسدورا فضلاً علي موت زوجها وانتزاع طفليها منه وفشله في الانتقام من ابن العم، إلي جانب كون هموم وطنه كانت تلاحقه بعد اشتداد الحملة الاعلامية الممهدة للضربة علي العراق. علي الرغم من ان أحداث هذا الجزء تحركت بمعزل عن أحداث الجزء الأول، مع تشابههما أحياناً ، فإن الروائي حاول أن يزج بصلة ربط من خلال الإشارة إلي أسماء عراقيين مثل عمر بطل الجزء الأول وسعدان الذي سيكون بطل الجزء الثالث، لكن صلة الربط هذه تظل محض اشارة عابرة. ويبدو واضحاً أيضاً ان محمود سعيد أراد أن يؤكد عليعجز المغتربين العراقيين في التأقلم مع جو الغربة في الولايات المتحدة حتي الذين نجحوا منهم هناك. فلم يكن عدنان يستقر في شيكاغو وكان دائم التنقل، وحافظت سعاد علي نقائها فهي لا تتردد علي البارات كالأمريكيات ولا تعمل في شركة مع الأمريكان، متشبثةً بتقاليد المجتمع الذي ولدت فيه. وثمة تأكيد علي ثيمة الحنين إلي الوطن. فإسم العراق يتكرر في لازمة ترد علي لسان ابن اسدورا وهو في الثالثة من عمره: " كفك سعدي عراقي بطل "،ويتذكر سعدي دجلة كلما وقف علي نهر شيكاغو ويتمني العودة إلي بلده " آه لو كان لك أحد لسافرت الآن " (ص121). ورأي نفسه في حلم أو ما يشبه الحلم، وسعاد تقول له " أفتح عينيك. نحن في بغداد. شف. لا ثلج.لا حليد. لا هواء زمهرير يمزق الصدر. لا سخام سيارات يقتل الرئة. سنطير معاً في أجواء بغداد نتمتع بمنظرها الفريد، فوق دجلة. ننافس النوارس " (ص220).فيظل معلقاً بأهداب ذلك الحلم!

زيطة وسعدان في هامش تعريفي علي الصفحة الافتتاحية لرواية " زيطة وسعدان " كتب محمود سعيد " زيطة: طائر حذر صعب الاصطياد يتواجد في العراق فقط، بالغ الرشاقة، أحد أجمل الطيور قاطبة. رشيق. بديع الحركة، يخلب الألباب بتركيبه وانسيابية جسده،يتنازعه لونان يتقاسمان تكوينه بشكل متناسق وكامل: أبيض ناصع، وآخر شديد السواد كالأبنوس ". وفي زعمنا ان التوظيف الرمزي أو الاستعاري لمفردة زيطة لايستوفي شرطه الدلالي. فقد أضفي الروائي هذه التسمية علي الأمريكية نجمة المجتمع الحسناء نيكول التي تربطها بالطائرمحض شبه في اللون فقط يجمع بين بياض بشرتها وسواد ردائها.أما سعدان فهو عراقي مغترب في شيكاغو كان قد شارك في انتفاضة الجنوب عام 1991 ولجأ إلي مخيم رفحاء في السعودية قبل أن تتهيأ له فرصة الذهاب إلي الولايات المتحدة. كان سعدان يعاني من عقدة مزدوجة تجمع بين دمامة وجهه وغرابة اسمه الذي تتحمل أمه المسؤولية عنه، وكانت انجبت خمس بنات قبله ونذرت في حملها السادس أن تطلق علي المولود إن جاء ذكراً إسم " قرد " وتحقق لها ما أرادت لكن أحد الملالي اقترح إطلاق اسم سعدان علي المولود وهو أخف وقعاً من قرد. جمع محمود سعيد النقيضين في إطار واحد: جمال نيكول الخارق ودمامة سعدان، ثراء اسرتها الفاحش وتواضع مستواه المادي، سكنها الراقي وسكنه المتواضع. انها سليلة عائلة علي درجة عالية من الرقي، حسناء لعوب، وهو سائق سيارة أجرة ساذج أقرب إلي الغباء. وكأن الروائي أراد من خلال رسم هذه الصورة أن يقدم نموذجاً مضافاً لفشل وخيبة المهاجرين من بسطاء العراقيين في الولايات المتحدة ممن يتخبطون وسط غابة الضياع والاحباط وقد فصل أغلبهم من أعمالهم بعد أحداث 11 أيلول. كان سعدان يطمح في الاستقرار من خلال الزواج من عراقية وبرر دافعه في ذلك بـالوحدة والجنس " أين أذهب ؟ أخاف من الأيدز ثم انني هنا لا أثق بالفتيات. لا أريد من تتزوجني من أجل الأوراق ثم تهرب بعد ذلك، ولا أريد أن تهرب بولدي، ولا أريد لإبنتي أن تعاشر أحداً أمامي من دون زواج. " (ص88). هذا المبرر نابع من كونه ربيب مجتمع محافظ ومنغلق، لم تستطع سنواته في الولايات المتحدة أن تغير منه شيئاً . كان علي وشك أن يسافر إلي سوريا ليقترن بالعروس التي اختارتها له أمه دون أن يراها أوتراه وجاءت بها إلي دمشق بصحبة أمها وأبيها وكانوا في انتظار وصوله، وقد قبلت الفتاة به برغم دمامته وفارق السن وجمالها الخارق وشهادتها الجامعية. إن " الشيء الوحيد في الحصار انه قلب المفاهيم. لولا ذلك لما حصل عليها حتي لو مات. " (ص11) فالعراقية آنذاك كانت تبحث عن زوج يوفر لها الستر ولقمة العيش ويخفف عن كاهل اسرتها. هكذا توحي الرواية. ينحاز محمود سعيد إلي المرأة العراقية ويتعاطف معها، ذلك ان " كل نساء العالم مرتاحات ما عدا المرأة العراقية. أرجعها الحصار عقوداً عدة " (ًص8)، وهو يشير إلي محنتها في زمن الحرب ويقدم نموذجاً لذلك من خلال مأساة زوجة هشام صديق سعدان الذي استشهد قبل توقف الحرب العراقية ــ الإيرانية بيوم واحد ولم يستمر زواجهما أكثر من شهر وبضعة أيام. لم يشارك سعدان في تلك الحرب التي كانت في أشدها و " التوابيت تتري كل يوم "، فقد ظل مختبئاً في بيت صديقه رياض مثلما فعل في حرب الكويت لكنه شارك في الانتفاضة التي صاحبتها وأصيب وأفلح في الوصول إلي مخيم رفحاء وتهيأ له هناك أن يلتقي بالدكتور واثق الذي عمل علي تثقيفه ومنحه الثقة بنفسه. تلعب المصادفة دوراً في سيرورة الأحداث في هذه الرواية أيضاً .فقبل سفر سعدان إلي دمشق بيومين صادف أن استأجرت نيكول سيارته ليوصلها إلي أحد الأماكن ومالبثت أن طلبت منه أن يتفرغ لها لثلاثة أيام فسقط تحت سطوة إغرائها سريعاً وشط به الخيال لاسيما بعد أن طلبت إليه أن يحصل علي ملابس حديثة فبدد في شراء الملابس كل مدخراته التي كان يحتفظ بها لإتمام زواجه. وزاد من وهمه انها كانت تأخذه إلي المراقص والنوادي وتراقصه وسمحت له أن يقبّل خدها ، لكنها تركت وهي تفعل ذلك، مسافة بينهما تمليها طبيعة الفارق الجتماعي " حتي وأنا أراقصها كانت تتجنب التلاصق بي. تترك مسافة بيننا. حذرة إلي حد كبير " (ص146). انه اقتراب شكلي يخفي وراءه غاية أخري تكشفت عندما كانت ترقص. تقدم منها رجل أنيق ونقر علي كتفها ففارت الدماء في عروق سعدان وأراد أن يتقمص دور المنقذ الشهم فاندفع نحو الرجل" شق طريقه بين الراقصين بصعوبة. مد يده إلي كتف الرجل ليبعده لكن هناك من سحبه من الخلف وقبل أن يتبين من هو، ما هذا؟ أسنانه تصطك بقوة. ثمة لكمة هائلة. رأي نفسه يندفع إلي الوراء، يلامس الراقصين. يسقط رأسه، يندق علي الأرض وسط ارتفاع الصراخ " (ص215).وزاد من شعوره بالمهانة ان نيكول لامته علي تصرفه " لا عليك. ابق بعيداً ... قالتها بشكل قاطع أحس معها بوطأة الخزي تتضاعف " (ص217).غير انها أخذته إلي شقتها الفارهة فيما بعد فوجد نفسه في عالم خيالي هو غير العالم الذي يعيش فيه، وتمادت في إغرائه وربما تعمدت أن يري نصف جسدها الساحر عارياً ليكتشف في الأخير انها اتخذته قنطرة للعبور إلي غايتها الحقيقية المتمثلة في إثارة غيرة حبيبها من خلاله فخسر هو كل شيء وقرر الرجوع إلي العراق ولكن بعد فوات الأوان. وكان الحنين إلي العراق يساوره قبل ذلك فهو " لم يحب لوناً ما في الطبيعة كما أحب لون المياه اللازوردية في الفرات ودجلة " (ص70) كما ان " أكثر ما افتقد عند تركه الوطن روح المدينة تنطلق مع الأذان. تلك الروح السحرية التي توحد الناس " (ص39). مما يلاحظ في هذه الرواية ان الروائي أسرف في سرد وقائع العلاقة بين سعدان وإمرأة تدعي اولكا من خلال الاسترجاع حتي غطي هذا السرد ما يقرب من خمسين صفحة متتالية . وحاول أن يزج بين العراقيين المغتربين في شيكاغو بنموذج ايجابي يتمثل بشخصية هيثم كمعادل للشخصيات السلبية التي قدمها. إنه يقول لسعدان " نحن العراقيين المشردين في الخارج علينا رسالة وطنية مهمة يجب علينا أن نؤديها. بناء وطننا أهم شيء. مقياس الوطنية الآن جمع أكبر كمية من الفلوس "(ص9)، لتوظيفها في بناء الوطن. أراد الروائي بهذه المباشرة أن يدس بارقة أمل وسط ظلام الغابة الموحشة التي وجد العراقيون أنفسهم فيها. وربما دون قصد، وضع تحت الضوء فضاء الحرية الواسع المفتوح أمامه في الولايات المتحدة إلي الحد الذي جعل شخصياته تلوم وتشتم وتدين، وأن يشرع هو في تشريح جسد المجتمع الأمريكي بمبضع نقد حاد دون أن يخشي أن يحاسبه أحد!