شعرية الضوء والعتم

قراءة في ديوان محمد بينيس - 10-29-2011

1/ شعرية الغسق والغلس: 1.1/ يقدم الشاعر محمد بنيس في "نبيذ" تجربة شعرية عميقة تحفر وبدون هوادة بحثا عن مياه جوفية بعيدة الغور، وهل هناك من ماء في القصيدة غير البحث الظامئ ذاته، البحث المكتفي بذاته كمنطلق ومنتهى؟ المتأمل في التجربة الشعرية المغربية لا شك يلفي نفسه أمام شعرية مختلفة لم ترد لنفسها ذلك الاختلاف، ولم ترغب أن تشيد لنفسها صرحا في الغربة والدهشة، لم يكن ذلك نتاج سبق وإصرار من الشاعر المغربي، ربما هي طبيعة الغروب المغربي، المسارب الليلية، الحاجة إلى الوحدة وإلى العزلة الجسدية والرغبة في تفيؤ ظلال الصمت والتأمل في الكون الواسع العميق. الشعرية المغربية محاصرة بالغسق وبالغلس، شعرية غسقية تندرج في الدياجير نحو الغلس، ويمكن هنا أن نستشهد بأكثر من نموذج شعري، ومن مختلف الأجيال من المدونة الشعرية المغربية المعاصرة.

2.1/ العتبات: يقدم الشاعر محمد بنيس في "نبيذ" ثلاث عتبات تقود الباحث والقارئ إلى عوالم شعرية الغسق والغلس.

العتبة الأولى؛ العنوان: لفظ "نبيذ" وقد اتخذ لونا نبيذيا، حمرة مشربة بسواد وموشاة بغلالة رمادية متفجرة كدم حار مسفوح على صفحة ناصعة البياض، هذا الإحساس تتركه الصفحة في النفس وتثير الكثير من الأحاسيس والمشاعر والذكريات. إن للنبيذ كان دائما مرتبطا بدم الآلهة في الأساطير، هل يتصل ذلك بالسحر الخفي الذي تختزنه تلك الدماء القانية، وتفجره نشوة ومتعة مكتسحة كل خلايا الجسد، وكل مسارب الدماغ، تداعب باطن البشرة، تأتيها حارة مدغدغة. إن للنبيذ سحرا يكتسبه من العناية الفائقة التي تحيط به، ومن الهواجس التي يبعثها في النفوس المتهيبة، ومن قدرته على منح الجسد الطاقة الجبارة على السمو والارتقاء إلى مصاف الروح المرح، أقصد طبعا النبيذ في أجلى صوره، عندما يكون رفيقا للعقل، للنظام، رفيقا خفيفا مرحا يداعب الوجود كشاعر مندهش للحياة الصاخبة حوله وداخله، وكطفل مشاكس.

العتبة الثانية؛ أبو نواس: "يا لغة تسجد اللغات لها ألغزها عاشق وعمَّاها".

في هذه العتبة تحديد جوهر اللغة الشعرية حيث تضع لنفسها شرطا يتمثل في الدخول في تجربة العشق، في نوع من الجذبة الشعرية، عندما ينتفي الجسد والروح كمكونين متناقضين، ويتخذان في تجربة موحدة ليصبح الجسد روحا والروح جسدا من فرط الخفة والمرح والإحساس بالأشياء المادية في جانبها الآخر، عندما تصبح ذكرى وإحساسا أو مجرد ذكرى لإحساس قادم من الخارج، من عالم المحسوس، وقادم من تجربة قديمة في زمن غابر متصل بطفولتنا المبكرة أو بطفولة الوجود المترسبة في ذاكرات الجسد ورغبات الروح. في ظل شروط المغامرة العاشقة وحدها يصبح الشعر قريبا إلى الإدراك بعيدا عن الفهم، لأن الفهم متصل بالمعرفة العينية والمعرفة المشروطة بالديداكتيك وبالثقافة وبالإفهام عبر القنوات التربوية التي تعلم وتفسر وتشرح الظواهر، والصور البلاغية، والمعاني المشتركة والعامة، ظواهر اللغة لا ذاكراتها الحية المتحولة عبر حقب وأزمنة سحيقة، ذاكرات هي عبارة عن أحاسيس ملتبسة، نشوة نبيذية لا نسعى إلى فهمها بل نستسلم لخدرها، تتيح لنا فرصة التكلم داخلها، من داخلها، عوض أن نفرض عليها ثقلنا المعرفي (الثقافي والمدرسي).

العتبة الثالثة؛ سكر: إن شعرية الغسق والغلس تقترح على المتلقي أن يغير من إستراتيجية التلقي في المغرب المنجذب نحو غروبه (أفول الشمس في المحيط)، يقتحم الشعر على أداة الاستقبال خدرها ويدعوها إلى الاندماج في تجربة الشاعر بدل التعالي عليها أو مقابلتها بغيرها أو مقارنتها بشعريات أخرى مختلفة، قد تكون نهارية أو نارية. تلقي الشعر المغربي وضمنه شعر محمد بنيس لا يتم إلا في حالات من السكر والانتشاء، في حال من الاستسلام والانصياع (الإنصات)، والسكر هنا ليس بالضرورة صادرا عن الخمر بل السكر حالة استعداد نفسي وذهني لخوض مغامرة الشعر، إنه الطريق المؤدية إلى جوهر الشعر وصميمه الخالص، والمنقَّى من كل الشوائب والقشور، إنه الطريق التي تقود إلى اللغة، حيث اللغة تناغم شعري عار من ثقل المعاني والشروح والتفسير يسبحُ في بياض لا نهائي، حيث الخطاب الشعري عار من سلسلة الخطابات (التخطيبات) التي تتقاذفه يمينا ويسارا، تخطيب غير خالص، تخطيب يتعب وهو يبحث عن الفهم قبل دخول الجذبة الشعرية، محاولة فهم التجربة من الخارج وبالخارج، التجربة العشقية قبل تجربة العشق والاكتواء بناره المطهرة. إن اللغة الطبيعية (العادية) لغة الإفهام (التخاطب والتدريس والتعليم والتقرير السياسي والعلمي، والتحقيق الصحافي...) تحافظ على مستوى التواصل فيها إلى أن يقتحم عليها الشاعر العاشق –حسب أبي نواس- صفاءها فيلغزها ويعمِّها على الفهم السطحي والبسيط والعادي والطبيعي. الشعري حسب الشاعر محمد بنيس، يكمن في الإلغاز والتعمية، وهنا إشارة إلى اختلاف لغة الشعر عن اللغة العادية التواصلية، وعن لغة التدريس والتعليم، إننا أمام مستويات مختلفة للغة بين المستوى الوظيفي والمستوى الشعري.

2/ صراع الضوء والعتمة: ما أطلقنا على "نبيذ" شعرية الغسق والغلس ترفا ولكن لأن الشاعر في انجذابه الخاص، في سكرته الشعرية تجاذبت معجمه كظاهرة لغوية ألفاظ الليل وألفاظ النهار، ظلمة دافئة لا تستكين فتستدعي نورا ساطعا. إن ما يبدد حلكة الليل، سكرة الليل (الغبوق) شمس قانية تلمع في الشرايين، تنسكب لتروي جفافا لا يُروى.

1.2/ "شمسُ نبيذٍ": تحت هذه العبارة تراكب لفظي وتعالق معنوي يجمع الشاعر فيهما بين رمز النور ورمز العتمة، يجمع بين الشمس وبين النبيذ إلا أن الإضافة في التركيب اللغوي تفيد التخصيص وتضيق مساحة تأويل المعنى، فالشمس هنا ليست خارج معنى محتوى النبيذ، إنها تشرق منه، وتلك خالة الغلس، والغلس: ظلمة آخر الليل إذا اختلطت بضوء الصباح، أي أن الغلس يطلق على انبثاق ضوء الصبح الأول من عتمة الليل، من ثم الإشارة السالفة إلى عتبة "العنوان"، حيث الحمرة المشوبة بسواد، انفجار الضوء من عمق العتمة. إن هذه الصورة تجسد أفضل معنى لشعرية الغسق والغلس المهيمنة على الشعر المغربي، أما شعر محمد بنيس فمأخود بتجاذب القطبين في حال التماس، في حال الولادة.

2.2/ "من كأسكَ": "لا تعبثْ من كأسك تنشأ شمسي"

إن الحالة الشعرية والمنطقة الأثيرة لدى الشاعر محمد بنيس تتمثل في الذهاب أبدا إلى الأقصى في محاولة استشراف المجهول، البحث عمّا يوجد في البعيد، وكأني بالشاعر جوَّاب آفاق لا يقنع بالكائن بالمتوفر وبالممنوح، بل يسعى أبدا إلى نقطة الغواية التي تقع هنالك على حد الوجود، حيث العراء الكلي للموجودات، حيث الضوء الباهر، لحظة الموت التي تمتزج فيها الألوان وتمحي وتذوب في سطوع يعمي البصر، ويلغي الأشياء الملموسة المحسوسة، إنها لحظة الاحتضار، لحظات السكر، إنها "السَّكرات" (سكرات الموت)، الذهاب بعيدا والتقدم نحو الأقصى بحثا عن لحظة الانبثاق والسطوع، الذهاب إلى الأصقاع: "ثبتْ أحوالي في أصقاع دبيب". ... ... "انشرني غيما لصديقي الميت غبارا يقصدني ضوء لا ضوءَ سوى نهري."

إن الهروب إلى البعيد البعيد، نحو الأقصى، إلى الآفاق المجهولة، لحظات البياض الكلي، والصمت المطبق تجعل الجسد ينفطر، يجعل الذات في حالتي سكر وانجذاب خارقين، يشق الجسد شقين (الجسد صديق، ميت) ينتمي إلى لحظات الانطلاق، لحظات دخول المغامرة العاشقة الشعرية، و (جسد هباء، غبار) تتقاذفه أهوال الرحلة، وتنهشه في صورة انتشاء ومرح، انتشاء سكران، انتشاء المحتضر موجات وتيارات المجهول الذي يغري ببريقه، والشعلة التي تقود الروح ويناديها من البعيد القبس النوراني والناري مبدد ظلمة الليل، ومفتت ثقل العالم إلى ضوء ليس إلا ضوء الرحلة، المغامرة، الشعر، (نهري) نهر الشاعر محمد بنيس، إن الشعر تجربة خاصة، وهو شعور وتجربة أفق.

3.2/ حرفٌ كاد أن يختفي": "بيدي أخلق ليلا يغرق في ليل أوقد شمعا ليدي وعلى وجهي يتلألأ من شدة حلوتنا حرف كاد أن يختفي."

هذه المجتزآت من قصيدة "لغة" تبرز بجلاء مدى هيمنة صورة التصارع بين العتمة والنور، وتُبْرِزُ شغف الشاعر باللحظات الحساسة التي يتولد فيها الضوء من العتمة، لحظة انبثاق النقيض من نقيضه، لحظة الخلق؛ تلك هي لحظة الشعر، لأنه خلق ولأنه ابتكار ولأنه توليد للنقيض من النقيض. نكون هنا أمام شاعر يتأمل ويفكر أكثر منه شاعرا يشرح ويفسر، شاعر مندهش لا يقين له، لا يقدِّمُ نصائح لا يعلل ولا يسبح في اتجاه التيار، شاعر يخوض المحاولة، يخوض في ماء المغامرة الشعرية المغربية، العربية، شاعر يبحث في منطق الأشياء؛ ذلك المنطق العفوي الطبيعي، خروج الليل من رحم النهار، وخروج الضوء من عتمة الظلمة، شاعر لا يستكين كلما لاحت حلكة الليل وأطبقت تحفز الشاعر واستيقظ فيه الشغب، المارد الرَّحَّالة، المغامر، الطفل فيمزق السواء بضوء ساطع وإن كان ضوء شمعة خافتا، كلما غرق الليل في الليل؛ أي كلما زاد الليل حلكة واستغرقه الصمت والوحشة إلا كان ذلك إيدانا بانبثاق الضوء، ضوء توقده أنامل الشاعر خوفا على "حرفٍ" من الاختفاء والتلاشي، ولا نجد من مقابل للحرف غير الوجود، إنهما صورة لبعضهما. فماذا بعد تلاشي الحرف غير العودة إلى العدم، ولا وجود إلا مع لحظة انبثاق الحرف. قصيدة "لغة" بحث في الوجود، في الكينونة الخالصة من خلال اللغة، وقصيدة "لغة" قصيدة خلق وابتكار شعريين يتمثلان في وقوف الشاعر عند حدود الانبعاث والانبثاق، عند أفق خروج النقيض من النقيض. أما قصيد "صمت"، والشاعر لا يعرف العناوين: نبيذٌ، سكرٌ، لغةٌ، صمتٌ، ولذلك دلالته اللغوية والشعرية، فإنها لا تزيغ عن معنى الخلق والابتكار، وتشير إلى اللحظة السابقة على الخلق، وعلى التكوُّنِ حيث الصمت يستبد بالأشياء، وسيد اللحظات، وسيدٌ على الوجود، الصمت الذي لم تهدد استقراره وسلطانه غير الكلمة.

3/ إن الصعوبة التي يعرفها الشعر المغربي المعاصر، والغربة التي يقتات منها ينتجان عن تأثير الموقع الجغرافي للمغرب واسمه "المغرب"، وأثرهما على أهله، حيث يصبح الغروب لحظة وجود وطبيعة تسِمُ الكينونة، لا حالة من التعلق الرومانسي الحالم، وهذا من قبيل تأثير البيئة على ساكنتها وانعكاسها على سلوكهم.