ماذا يقلق الغرب في "ديموغرافيا" العرب؟

سليمان عبد المنعم أفق - مؤسسة الفكر العربي

لماذا لا يقلق الغرب من الانفجار الديموغرافي في الصين أو الهند لكنه في المقابل يختزن قلقاً هائلاً من الانفجار الديموغرافي في بلاد العرب؟ ثمة حقائق جديرة بالنقاش، وربما بإعادة التفكير بشأنها في هذا الموضوع.

الحقيقة الأولى أن استمرار المعدلات الحالية للنموّ الديموغرافي في العالم الإسلامي-العربي والعالم الغربي يمكن أن تفضي في المائة عام المقبلة إلى صيرورة عدد سكان العالم الغربي أقلية مقارنة بعدد سكان العالم الإسلامي- العربي. وهي نتيجة تبدو معاكسة تماماً لما كان عليه الوضع الديموغرافي منذ مائة عام مضت. فمع المعدلات الحالية للنموّ السكاني يتوقع أن تصل نسبة عدد المسلمين إلى نحو 30% من عدد سكان العالم في الوقت الذي لن يتجاوز فيه عدد سكان العالم الغربي نسبة 10 % أو 11%. يمكننا في ضوء هذه الحقيقة العددية الصمّاء أن ندرك مدى القلق الغربي من الانفجار السكاني في المجتمعات الإسلامية حين نتذكر- مرة أخرى - أن عدد سكان الغرب كان يمثل منذ مائة عام 44% من عدد سكان العالم بينما لم يكن عدد المسلمين يتجاوز نسبة4 %.

ولا شكّ أن قضية الانفجار السكاني الإسلامي تثير مخاوف الغرب لما لها من انعكاسات عدّة من بينها تفاقم ظاهرة الهجرة من المجتمعات الإسلامية إلى البلدان الغربية. وهي الظاهرة التي تحتل بنداً ثابتاً في برامج الأحزاب اليمينية الأوروبية منذ عقود ونجحت العديد من هذه الأحزاب في توظيفها لإثارة مخاوف المواطنين الغربيّين وكسب أصواتهم الانتخابية. فالقرب الجغرافي من أوروبا لمجتمعات الشرق الأوسط الإسلامية مثل تركيا والدول العربية، ورخص الأيدي العاملة في هذه المجتمعات المصدرة للهجرة، إضافة إلى الاحتياجات التنموية الغربية لهذه العمالة الرخيصة في مجالات العمل اليدوي الشاق مثل رصف الطرق وأعمال النظافة والتشييد والبناء.. هذه الاعتبارات وغيرها جعلت من الهجرات المتزايدة إلى الدول الغربية واقعاً تقبله هذه الدول على مضض من دون أن تملك رفاهة الاستغناء عنه.

وهكذا ترتب على ظاهرة الانفجار السكاني في المجتمعات الإسلامية التي تعاني في معظمها من الفقر والبطالة ظاهرة الهجرة إلى الدول الغربية، ثم أفضت ظاهرة الهجرة بدورها إلى نشوء تجمّعات سكانية إسلامية في قلب المجتمعات الغربية، وهي تجمعات استطاب لها العيش في ظروف اقتصادية واجتماعية مريحة مقارنةً بأوضاعها المعيشية السابقة في بلدانها الأم. لكن بدأ الغرب ينتبه إلى أن هذه التجمّعات الإسلامية المهاجرة أتت من بلدانها الأصلية حاملة معها ثقافة مغايرة بدا صعباً بمرور الزمن تكييفها مع مجتمعها الجديد. وسرعان ما ظهرت على السطح مشكلات وصعوبات بطء عملية الاندماج الاجتماعي لهؤلاء المهاجرين المسلمين حتى على صعيد الأجيال الجديدة التالية التي ولدت بعيدة عن موطن الآباء والأجداد. كما أضافت معدلات الإنجاب العالية لدى المهاجرين المسلمين مقارنةً بمثيلاتها لدى الأسر الغربية بعداً إضافياً مثيراً لقلق المجتمعات الجديدة. ومن هنا بدأ الحديث عن أسلمة أوروبا. أسهم هذا كلّه في تأجيج مقولات صراع الهويات. ثم أدّى اكتشاف بعض الخلايا الإرهابية في الغرب، والتي كان من بينها مواطنون غربيّون من أصول إسلامية، إلى النظر للإسلام كحصان طروادة الذي يريد به المسلمون اختراق المجتمعات الغربية.

الحقيقة الثانية هي أن الانفجار السكاني لدى المسلمين بات ينظر إليه كعنصر قادر على تحييد، أو على الأقل إضعاف، عناصر التفوّق الأخرى في صراع آخر من صراع الهويات وهو الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، ولا سيما على المدى البعيد. ليس سراً أن معدل خصوبة المرأة الفلسطينية التي تنجب في المتوسط سبعة أطفال يمكن أن يفضي خلال أربعة أو خمسة عقود إلى تركيبة سكانية تثير خيالات مفزعة لإسرائيل حين يصبح هناك يهودي واحد في مقابل أربعة فلسطينيّين بدلاً من النسبة الحالية وهي اثنان من اليهود في مقابل فلسطينيّ واحد. هذا وجه آخر من أوجه صراع الهويات لا يمكن التهوين من شأنه.هكذا يبدو الانفجار السكاني في العالم الإسلامي كما لو كان نوعاً جديداً من أنواع اليورانيوم المخصب الكفيل بإحداث دمار شامل في ما لو أضيفت إليه بعض الظروف والمكوّنات الأخرى.

الحقيقة الثالثة أن خصائص التركيبة السكانيّة للمجتمعات الإسلامية، والتي كانت تعاني تقليدياً من الأمية والفقر والتخلف تبدو اليوم في طريقها إلى التحسن، على الأقل في بعض المجتمعات الإسلامية، وهو الأمر الذي يضاعف من الهواجس الغربية في مواجهة العالم الإسلامي. فلم تعد هذه الجحافل من البشر مجرد كم مهمل من الأميين والفقراء والمرضى، بل أخذت معدلات الأمية في الانخفاض ولو نسبياً، كما أدّى اكتشاف النفط إلى ارتفاع مستويات الدخل والمعيشة وزيادة العمر المتوقع للحياة وتحسن الظروف الصحية، وكلها مستجدات تجعل من زيادة عدد السكان قيمة مضافة أحياناً، ولو أن الأمر ما زال يقتصر على بعض المجتمعات الإسلامية دون غيرها. ويعطي صمويل هنتنغتون مثالاً بالغ الدلالة عن هذه التركيبة السكانية التي يصفها بأنها معبأة اجتماعياً قائلاً إنه في سنة 1953 عندما كان القادرون على الكتابة والقراءة من الإيرانيّين لا يزيدون على15% وسكان المدن أقلّ من17 % تمكّنت الاستخبارات الأميركية من قمع انتفاضة الشعب وإعادة الشاه إلى العرش. أما في العام1979 عندما أصبح 50 % من الإيرانيّين يقرأون ويكتبون وارتفعت نسبة من يعيشون في المدن إلى47 % لم تستطع القوة العسكرية أن تبقي الشاه على عرشه أو تحول دون وصول الخميني إلى الحكم.

ما يمكن فهمه من مثال هنتنغتون أن التعليم والتمدين عنصران مخصّبان للتركيبة السكانية في العالم الإسلامي يزيدان من وعي الناس ويطلقان لديهم نوازع التطلع والطموح والرغبة في الاستقلال الوطني والسعي لإثبات الندية في مواجهة الآخر. هذه جميعها محفزات مقلقة للغرب، ولا سيما حين تأتي من ثقافة مختلفة. لكن ما ينبغي استخلاصه أيضاً من قراءة مجمل أوضاع العالم الإسلامي أن معدلات الأمية ومستويات التعليم وواقع المعرفة ليست مرضية ولو في حدّها الأدنى. ربما طرأ تحسن نسبيّ وبدرجات متفاوتة في بعض المجتمعات الإسلامية في تركيا وماليزيا وإيران وأندونيسيا لكن هذه مجرد حالات استثنائية. أما أكثرية مجتمعات العالم الإسلامي فما زالت تعاني من الأمية وتدنّي مستويات التعليم وتراجع قيم التقدّم والمعرفة. فما الذي يعنيه هذا؟

الأمر يعني أن الانفجار السكاني في العالم الإسلامي وتحسن خصائص التركيبة السكانية فيه لا يبرّر بالضرورة ودائماً هذا القلق الغربي المبالغ فيه من الإسلام. فالحقائق التي تعلنها الأرقام لا تخلو أحياناً من بعض الأوهام. وإحدى سمات العقل الغربي أنه مولع بالتعبير الرقمي والإحصائي عن ظواهر اجتماعية وسياسية معقدة. لكن كم تخفي الأرقام أحياناً من أكاذيب وكم يمكن تطويع الإحصاءات لإثبات حقيقة ما من منظور معيّن. فالواقع اليوم أن النموّ السكاني الهائل يمثل لأكثرية العالم الإسلامي نقمة لا نعمة، وعبئاً لا فرصة!! هذا واقع.. لكن كم من الوقائع يمكن أن تتغيّر غداً ؟!