التخفــف مــن إرث الألــم

«وراء الفـردوس» روايـة منصـورة عـز الديـن
حاتم حافظ – السفير

على عكس كثير من الكتب التي تنشر هذه الأيام متصدرة أغلفتها الكلمة السحرية «رواية» هذه ليست رواية حقيقية فحسب، إنما رواية جادة أيضا، أو ربما هي رواية حقيقية لأنها ببساطة رواية جادة!. تحت عنوان «وراء الفردوس» نشرت منصورة عز الدين روايتها الجديدة عن دار العين، مستبعدة غضب قارئ ملول يبحث هنا وهناك عن متعة سريعة، أو قارئ مسجون في عالمه يبحث عن مغامرة كاتب شاب في وسط المدينة التي لا يعرفها، أو قارئ محبط ومازوشي يستلذ بقراءة روايات تمرر أيامنا دون داع. ورغم أن رواية «وراء الفردوس»، التي صدرت طبعتها الثانية مؤخرا، تجمع أشتات أشخاص يحاول كل منهم لم شتات نفسه محاولا الفكاك من المأزق الوجودي لحياته، فإن السرد هنا ـ لأنه عميق وجميل وشفيف ـ سوف لا يدفعنا نحو هاوية سوداوية، لكنه سوف ينتشلنا منها لأنه ببساطة «سرد أدبي» أي «جمالي».
لن يكون من السهل تناول هذا العمل، خصوصا وقد تخلصت الكاتبة من ارتباك روايتها الأولى «متاهة مريم». هنا لا ارتباك، هنا التعدد والتداخل بين الحلم والواقع اللذان طرحتهما الرواية الأولى مضافة إليهما خبرة فنية غير مرتبكة، خبرة تعرف أين تضع قدميها في الجملة التالية. يمكن قراءة الرواية في بعدها الاجتماعي باعتبارها تشخيصا للتاريخ الاجتماعي لمصر على مدار ثلاثة أجيال أو على مدار ثلاثة عقود. كما يمكن قراءتها في ضوء تسعينيتها وحينها سوف نمضي خلف توتر شخصية سلمى بين ماضيها ومستقبلها، بين أحلامها عن الماضي وبين الماضي نفسه، وبين أحلامها عن صديقتها وصديقتها نفسها، وبين اضطراب علاقاتها بالأب والأم وأخواتها، وأخيرا أزمتها ككائن تسعيني بامتياز خبر العالم في إعلانات الشمعدان وبرامج القناتين الوحيدتين في التلفزيون فإذا بالعالم يتحول فجأة إلى فضاء افتراضي تخييلي. كما يمكن قراءتها كبحث في ما وراء العقيدة، في عالم تكون فيه التقاليد أقوى من العقيدة، والخرافة أعتى من الدين.
أقل ألما
تبدأ الرواية بافتتاحية درامية شديدة الحساسية، سلمى تهبط درجات سلم بيتهم القديم لتحرق صندوقا يضم أوراق أبيها في الفناء الخلفي الذي يطل عليه ثعبان أسود وفأر رمادي سمين وحرباء مشاكسة (مفردات حُلمية.. كما لو كان الواقع نفسه حلما)، وكما لو كانت «تمارس طقسا وثنيا غامضا» أخذت من مكانها فوق جذع شجرة صفصاف مقطوعة «تراقب الصندوق وهو يتآكل كأن حياتها هي معلقة بفنائه وتآكله.. يتآكل أمامها رشيد، سميح، جابر، رحمة، ثريا، جميلة، هشام، لولا، ويحترقون. تحترق هي معهم كي تبدأ من جديد بروح شابة وذكريات أقل ألما». أما الذكريات الأقل ألما فهي الشيء الذي تبحث عنه سلمى حقيقة، بل إنه الشيء الذي يبدو أن أشخاص الرواية جميعهم يتطلعون إليه، حتى لنبدأ في السؤال كيف نجعل سيرة حياتنا تحتفظ بذكريات أقل ألما، كما لو أن حياتنا ليست إلا جماع ذكرياتنا، لا ليست كما لو أن، إنها كذلك بالفعل، فهذا ما يمكن أن تقنعنا به الرواية في نهاية المطاف، وسوف يكون لديها ـ ولدينا ـ كل الحق. لهذا فإن مفردات المشهد الافتتاحي مكانيا سوف تذكرنا بفضاءات الأشعار الرمزية التي هي بين بين من الأحلام السريالية وحقائق الواقعية، لهذا فإن انتقال السرد بعد ذلك إلى الحلم بفضائه المكاني سوف يحدث بسهولة ولن يكون قفزة مربكة لقارئ الرواية.
«الذكريات الأقل ألما» ليست فحسب مقولة الرواية إنما فنيتها أيضا، فالرواية التي سوف نكتشف أنها فصول في رواية تكتبها سلمى من أجل الاستشفاء تبعا لنصيحة طبيبتها بعد إصابتها بانهيار عصبي إثر موت الأب «رشيد» سوف نعرف أيضا أنها نتيجة هلوسات سلمى، وهو ما يفسر سؤال الطبيبة في النهاية بعد أن أفاقت سلمى من إغماءة طويلة. هذه الهلوسات/ الرواية (وهي رواية داخل رواية) تحاول لا تجميع الماضي/الإرث إنما تفكيكه، في محاولة لصنع حياة أقل في ذكرياتها الأليمة، عبر مواجهة هذه الحياة، لا الهروب منها، كما لو أن مواجهة علاقتها بجميلة ـ صديقتها ـ هو الأمر الذي من شأنه محو الألم عن العلاقة. سلمى تعيد تشابكات الذكرى وإعادة بنائها، ليس من أجل ترتيب وقائعها كما في كتابة السيرة الذاتية، وإنما بإعادة صنع الحياة نفسها، كمصل ضد ألم الذكرى وألم الحياة نفسها، ولهذا فإن السرد سوف ينقطع مرة بمقاطع من رواية سلمى، ومرات من الأحلام التي تراودها، فيتشكل السرد الأساسي من سرديات سلمى وسرديات أحلامها معا مكونة العالم السردي، كما لو أن الرواية مجموع روايات.
ورغم أن الذكريات الأليمة في حياة سلمى كثيرة (وهي ليست ذكريات مفجعة فعلى الأقل مضت حياتها بلا أحداث رهيبة) فإن الذكرى الأكثر ألما والتي تجعل منها الذكرى المركزية ـ مجازا فليس من مركز صريح في الرواية ـ هي ذكرى علاقتها بجميلة، صديقتها التي ظنت أنها سرقت قدرها لأنها تسمت بالاسم الذي كان من المقدر لسلمى أن تحمله لولا افتتان الأب بموظفة تسجيل أسماء المواليد وتلبية اقتراحها بتسمية ابنته بسلمى. ولهذا فإن الحلم الذي يراود سلمى والتي ترى فيه نفسها تقتل جميلة، لن يكون له معنى إلا في ضوء قناعتها بأن جميلة سرقت قدرها، لكنها لا تقتلها في الحلم انتقاما، لكن بالأحرى تقتل نفسها لأنها وجميلة على المستوى الفني قرينتان، أو كما يصفهما السرد «كانت جميلة هي الشمس وسلمى القمر». كما لو كانت تقتل نفسها ـ المخبأة خلف نفسها ـ انتقاما من استسلامها لماض جعل منها شابة تخطت الثلاثين محملة بإحساس بالذنب أليم. فالقمر المستقر في وعينا الثقافي كعلامة حسن ليس حسنا بذاته وإنما بانعكاس اشعة الشمس عليه، وربما يكون ذلك ما كان يؤرق سلمى، وجميلة أيضا على نحو ما.
[ [ [
«هم الصيادون كما تطلق عليهم سلمى، أو أحمد وياسين وربيع وكرم كما تناديهم جميلة».. تكشف هذه العبارة الفارق بين سلمى وجميلة، فبينما تُعرّف سلمى أصدقاءها كصيادين فإن جميلة فقط هي القادرة على تسميتهم بأسمائهم، ليست هذه فضيلة جميلة الوحيدة، فهي قادرة أيضا على تسمية الأشياء بأسمائها، لهذا كان إدراكها لحقيقة واقعها أكبر من المعتاد لطفلة، رغم أنها قررت بينها وبين نفسها أن تصبح ما أصبحته فعلا (متخرجة من جامعة أوروبية) فإنها أيضا فهمت مبكرا أن وضعها داخل بيت العائلة (عائلة سلمى) كابنة لزوجة جابر (عم سلمى) بلا جذور، ما يعني أن علاقتها داخل المنزل غير مُؤسّس لها، فليست في تاريخ العائلة إلا ابنة الخادمة التي تحولت لسيدة بلا سبب مقنع لأحد، خصوصا بعد أن مرت بتجربتها العاطفية مع هشام التي انتهت إلى فض بكارتها. فرغم رغبته في الزواج بها فإنها رفضت لأنها لا ترغب في الالتحاق بعائلة كدسيسة.
الجريمة
لهذا تبدو جميلة كشخص يعرف طريقه في حين تبدو سلمى «ضعيفة وهشة أمام مخاوفها الصغيرة واللاعقلانية»، وهي الهشاشة التي جعلتها تقع فريسة الانهيار العصبي بعد موت أبيها، كما لو كانت ورقة معلقة في فرع شجرة. ومع هذا فإنها تدرك مؤخرا أن اليوتوبيا التي تبحث عنها، الفرودس الملون الذي يضم ذكريات أقل ألما، أو ما أسمته «السكينة الحقيقية»، «يجب أن تنبع من داخلها وليس من الواقع المحيط»، ورغم بساطة العبارة الأخيرة، فإن التجربة التي تمر بها سلمى «تجربة الكتابة/الاستشفاء»، وهي تجربة ليست هينة لأنها تفكك بها ماضيها كله، يجعل من بساطة العبارة حكمة مؤكدة، فكما أن الرواية تمضي بلا أحداث مثيرة وبلا أماكن رهيبة وبلا وقائع عنيفة، فإن الحكمة التي تَخبَرها سلمى لن تكون بلُغة معقدة. فلأنه كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة فإنه كلما رحبت الحكمة تخففت من بلاغتها.
أما الجريمة التي ارتكبتها سلمى والتي ظلت تبحث عنها في ذكرياتها دون جدوى، فتبدو أنها هي السبب الحقيقي وراء انهيارها، ولا أعرف حقيقة لماذا أشعر بأن في لاوعي سلمى (أو ربما في لاوعي السرد نفسه) يقينا بأن تاريخها حبيس تطلعات أفراد عائلتها للثراء بتحولهم من الزراعة إلى تجريف الأرض لبناء مصانع الطوب الأحمر في نهاية السبعينيات، لأنه على الأقل يظل الهاجس الاجتماعي مسيطرا طوال الرواية، على الأقل ـ أيضا ـ لأن صابر ـ والد جميلة ـ مات في طاحونة مصنع الطوب الذي تملكه العائلة، عائلة سلمى (القمر والشمس مرة أخرى). حتى أن جميلة نفسها مثقلة بشعور بالذنب لأنها حاولت طوال حياتها التخفف من ذكرى موت الأب، فهي بحسب السرد لم تكن تخجل من مهنة أبيها وإنما كانت تخجل من الطريقة التي مات بها كمعدم وضحية لرغبة آخرين في الثراء.
تلك رواية جميلة حد القسوة، تمضي كشفرة موسى، تشفي أكثر مما تتسبب في الألم، يمكن ألا تكون من الروايات الأكثر مبيعا، لكنها واحدة من أهم الروايات التي كتبت هذه العام، لتجاور رواية إبراهيم فرغلي «أبناء الجبلاوي» ورواية أشرف عبد الشافي «ودع هواك»، وهي الروايات الثلاث التي لا تتشارك فحسب في انتمائها لجيل التسعينيات وإنما أيضا تتشارك في محاولتها التخفف من الألم الذي يتسبب فيه الإرث، فيبدو أن رواية التسعينيات لم تمض في طريق تجاهل التاريخ/الإرث الذي بدأته وإنما بدأت في استعادته مرة أخرى لتفكيكه، حتى أن مقولة منصورة عز الدين في روايتها عن أهل القرية «ما لا يُصرّح به لم يحدث» الذي كان مناسبا لرواية التسعينيين أصبح غير ملائم الآن لأنه آن الأوان بالتصريح بأن الأشياء قد حدثت، وأن أبناء الجبلاوي وأبناء عبد الناصر وأبناء الماضي لم يموتوا بعد.