رواية ( خان زاده ) سرد في ليل طويل

طريف أبو جديع‏
الثلاثاء10/1/2012

( وأخيراً ، أعود إلى المنزل حيث ينتظرني كلبي العجوز وزجاجة من النبيذ ، اثنان يؤنسان وحدتي التي اعتدتها مع مرور الأيام .

الطقوس المتكررة يومياً للسيناريو المعتاد ، أتكور في مقعدي الذي تأقلم مع منحنياتي ، وأطمئن لوجود علبة الدخان والولاعة والمنفضة ، بالإضافة إلى احتياطي لا بأس به من علب الدخان في المكان المخصص للكروزات ) .‏

بهذا المقطع تبدأ الروائية اللبنانية / لينة كريدية / روايتها ( خان زاده ) الصادرة عن / دار الآداب / وتضعنا في داخل المكان مباشرة مع بطلة الرواية واغراضها لنكون كشهود وهي تروي لنا حكايتها وعلاقتها بالآخرين وما تركوا من علامات موشومة فيها وعن مدينة بيروت‏

فهذا العمل الذي نحن بصدد قراءته الأدبية يظهر لنا مقدرة /لينة كريدية / وهي تخوض تجربتها الأولى في عالم الكتابة بعد مشوار طويل في عالم نشر الكتب في ( دار النهضة العربية ) فنضوجها الأدبي صنعته على نار هادئة وبترو وصبر حتى استطاعت أن تفاجىء قارئها وتشده منذ صفحاتها الأولى .‏

فهي تحكي عن عن امرأة قاربت الخمسين من العمر تجلس وحيدة في غرفتها (مع كمية الأجهزة المحيطة بي ، والتي تحاصرني ، جهاز الريموت للتلفزيون ، الدي في دي ، الدش ، والتبريد ، وهاتفي المحمول ، وهاتفي اللاسلكي ، وهاتفي الأرضي ، وحاسوبي المحمول )‏

وكلبها العجوز النائم غالباً ، تستذكر حياتها ، وتاريخها في مونولوج طويل ، وبجلسة ليلية واحدة سهرانة مع ذاتها أمام التلفزيون تستقرىء مدينة بيروت وحربها الأهلية وانكساراتها وانقساماتها وطائفيتها .‏

فقد هربت منها إلى قرية / سوق الغرب / لعلها تنسى وتستريح من ماض مثقل يجثم على صدرها وذاكرتها .‏

حيث الوحدة القاتلة التي لا يكسر رتابتها سوى قدوم صديقتيها (روعة وجيهان ) اللتين تثرثران معها متبادلين الأسرار ، عبر مسح الضباب والغباشة عن مرايا الذات والدوران في فلك الوعي بالجسد وحريته .‏

/ فجيهان / التي بدأت حياتها مناضلة ثورية في الجامعة ، انتهى بها المطاف بعد علاقة عاطفية مع زميلها / سمير / الذي ارتبط بغيرها وتركها تحت وطأة الصدمة تنغلق على نفسها ( عادت روايداً رويداً إلى التعصب والمذهبية ) وأصبح الماضي / سميرها / حيث تستمع لأغاني أم كلثوم وعبد المطلب وناظم الغزالي والاهتمام بالأثاث القديم والتقاليد .‏

إن صراعها الداخلي فرقها بين نقمة على سنوات النضال والكفاح وبين أحساسها بإحباط أحلامها وهي التي تمتلك ثقافة رفيعة وشهادة ماجستير في الصحافة .‏

أما صديقتها / روعة / التي تنتمي لعائلة متسلطة لاتهتم سوى بالمظاهر ، عانت في طفولتها من تحرش جنسي من أصدقاء والدها ترك لديها صدمة نفسية ، وحينما تزوجت / أسامة / الغني والضعيف الشخصية ورضيت بعيشة هشة وحزينة ، نتيجة تدخل حماتها وأخت زوجها في تكوين وتشكيل حياتها التي غدت باهتة لا طعم لها‏

إن الرواية حينما تتذكر معارفها ، فهي تذكر من أصبح له مكانة لديها وترك أثراً فيها ، فهم مرايا لها ترى فيها نفسها أو وجه الشبه‏

( أكتشف فجأة أن ليس لدي في منزلي بسوق الغرب أي صورة لجدتي رئيفة ، أو للعم أسامة أو لعماتي .‏

ليس لدي كذلك صورة لجدي الذي لم أعرفه وعرفه أبي بالكاد .‏

قررت أن أحضر صوراً لهم جميعاً وبالأخص العم أسامة )‏

الذي عاش حياته بالطول والعرض مغرداً خارج السرب بعيداً عن أهله لخمسين سنة متمرداً على التقاليد والموروثات ، وكان وصمة عار في تاريخ العائلة .‏

فهي تحبه وتكن له الكثير من الود لأنها تشبهه في طريقة حياتها ، فهي تعيش وحيدة وبعيدة عن الأهل متمسكة بحريتها واستقلالها وقد عاشت تجربة مع ( نضال ) النسونجي والمريض بملاحقة الفتيات الصغيرات وتحملته لسبع سنوات لعله يشفى من هذه العلة وبقي سؤال بداخلها يأرقها ( ألهذا ظل نضال وجعي غير القابل للشفاء ؟ )‏

بينما علاقتها الثانية عندما أصبحت في الأربعين من العمر كانت مع الشاب (رامي ) الذي اقتحم حياتها كإله إغريقي ، بكل جاذبيته ووسامته الهوليودية ( أتذكر كل حروبنا الصغيرة ما بين عشقه وإعجابه بي ، وعدم استطاعته السيطرة والاستحواذ علي ، مشاعراً الذكورة تتطاحن مع عصريته التي يعيشها ، مع شرقيته المستوطنة في لاوعيه )‏

جعلته يهرب نحو امرأة أخرى ويتزوجها .‏

ولكن ما هي العلاقة بين الرواية و / خان زاده / التي أخذت الرواية اسمها ؟‏

/ فخان زاده / هي امرأة عجوز مضحية وتحاول إسعاد الآخرين وإدخال السرور إليهم دون الشكوى منهم .‏

فهي راضية عن نفسها وقانعة ولا تعرف سوى العطاء ذات قلب كبير ومسامح وأغنية حب تشدو في أسماع الآخرين‏

والإيمان يملىء قلبها / كقديسة / فكان اسمها عنواناً للرواية هو تكريماً للنساء واللواتي يماثلنها في العطاء والتضحية .‏

فالراوية تحب العم أسامة وشقيقته خان زاده ( أما خان زاده فلها صور على الحائط وفي قلبي ) التي كانت السبب في عودته إلى كنف العائلة بعد غيبته الطويلة .‏

ولكن سرطان الثدي قتلها بعد صراع طويل معه ، وقد كانت صابرة على المرض والألم فتواسي نفسها بأن الله يمتحن إيمانها فهي راضية بالقضاء والقدر .‏

اذاً نحن أمام رواية / ذات / تسرد في ليلة واحدة تسلط فيها الروائية الضوء على تفاصيل شخصياته النسوية المأزومة ،لحظاتها الهاربة ومعاناتهم .‏

هم مرايا لنساء آخريات ذهبن أو سيأتين ، فالماضي ليس فردوساً مفقوداً بل أشبه بعملية تقشير البصل ، كلما رفعت قشرة ظهرت تحتها طبقة أخرى‏

وهكذا تفتح لنا الروائية اللبنانية / لينة كريدية / أفق التأمل بشكل بانورامي لشخصياتها وتقدم لنا إبداعاً جمالياً في انكسار الأحلام وكشف الأسرار عبر رسالة صغيرة وعميقة وبدون صراخ حول بعض المسلمات التي يؤمن بها المجتمع‏

فالرواية هي أقرب لجلسة تحليل نفسية هيأتها امرأة مجهولة الأسم ، تشبه الكثيرات ، حكت لنا بصوت خافت أسرارها وغاصت عميقاً في تفاصيلها وجعلتنا كقراء نشاركها كي نخفف عنها وعنا ثقل الواقع وهموم الماضي الجميل ثم ندعها تذهب ( فأنا لارغبة لي إلا في النوم )‏