مذكرات تحية عبد الناصر الجزء الثاني

كان رأى جمال فى الاختلاط أنه لا يحبه.. بمعنى أن الضباط والأصدقاء يحضرون ومعهم زوجاتهم وأجلس معهم، بل كان إذا حضر أحد ومعه زوجته يقابله بمفرده ويصافحه ثم يصطحب الزوجة إلى الصالة ويدخل لى فى الحجرة ويقول: توجد سيدة فى الصالة فلتسلمى عليها وتجلسى معها حتى تنتهى زيارة زوجها.
وكنت غالبا لا أسلم على الضيف إذ كان يخرج من باب الصالون وتخرج زوجته وينصرفان.. فإذا أراد جمال أن أزورها يقول لى أن أذهب لزيارتها بمفردى.. فطبعا إذا زارتنى السيدة مرة أخرى تزورنى بمفردها، ولا يتكرر حضور الضيف مع زوجته
كنا فى إجازة طويلة إذ كان جمال يشغل منصب مدرس فى الكلية الحربية.. قال لى إنه سيبدأ المذاكرة فى أول نوفمبر ليحضر لامتحان القبول فى كلية أركان حرب. مكثنا أسبوعين فى القاهرة.. كنا كأى زوجين نخرج ونستقبل الزوار.. أغلبهم من الأقارب يحضرون للتهنئة، ولاحظت أنه يفضل السينما.. وأنا أيضا أفضلها. بعد أسبوعين سافرنا إلى الإسكندرية ومكثنا هناك أسبوعين.
كانت الإسكندرية فى ذلك الوقت مليئة بالإنجليز إذ لم تكن الحرب قد انتهت بعد.. فكانت الأماكن مزدحمة والشوارع تكاد تكون مظلمة بسبب الحرب والغارات، وأذكر مرة وكنا نمشى على الكورنيش وكان مظلما وأنا خائفة وأنا أرى الإنجليز يمشون بكثرة.. فكان يضحك ويقول: كيف تخافين؟
رجعنا للقاهرة وكنا مازلنا فى الإجازة نخرج سويا، وزرنا شقيقاتى، وكانت شقيقتى التى تزوجت قبلى فى المستشفى، حيث وضعت طفلة (ليلى).. بعد عشرين عاما حضر الرئيس والمشير حفلة زواجها، وكانا شاهدى عقد القران.
كانت زياراتى لأخواتى قليلة جدا وهن يسكن الجيزة، ولم يكن سكن أخى بعيدا مثل الجيزة لكن وجوده فى البيت كان قليلا. لم يزرنا أحد من أصدقائه الضباط وقال: إنه أخبرهم بأنه سوف لا يتصل بأحد منهم طول مدة الإجازة، فكل وقته كان يقضيه معى، والصديق.
الذى ذكر اسمه أمامى وقال إنه كان معه فى منقباد هو عبدالحكيم عامر، وقال: إنه الآن فى بلده المنيا مع زوجته يقضى الإجازة، وقد أخبره أيضا ألا يتصل به أو يزوره الا بعد انتهاء الاجازة.
انتهت الاجازة وابتدأت زيارات الضباط.. وحضر عبدالحكيم عامر من المنيا وزار جمال فى البيت.
كان رأى جمال فى الاختلاط أنه لا يحبه.. بمعنى أن الضباط والأصدقاء يحضرون ومعهم زوجاتهم وأجلس معهم، بل كان إذا حضر أحد ومعه زوجته يقابله بمفرده ويصافحه ثم يصطحب الزوجة إلى الصالة ويدخل لى فى الحجرة ويقول: توجد سيدة فى الصالة فلتسلمى عليها وتجلسى معها حتى تنتهى زيارة زوجها. وكنت غالبا لا أسلم على الضيف إذ كان يخرج من باب الصالون وتخرج زوجته وينصرفان.. فإذا أراد جمال أن أزورها يقول لى أن أذهب لزيارتها بمفردى.. فطبعا إذا زارتنى السيدة مرة أخرى تزورنى بمفردها، ولا يتكرر حضور الضيف مع زوجته.
اليوزباشى جمال عبدالناصر مدرس فى الكلية الحربية وله نوبتشية.. أى يبيت مرة فى الأسبوع فى الكلية، وأحيانا مرة فى أكثر من أسبوع حسب نوبات المدرسين. عند ذهابه للكلية فى الصباح أحيانا يخرج مبكرا جدا لدرجة أنه كان يستعمل بطارية صغيرة عند نزوله السلالم ويضعها فى جيبه، ورغم أنه يوجد فى السلالم إضاءة إلا أنه كان يستعمل البطارية، وكان يطلب منى ألا أقوم ولا أجهز شيئا وبإلحاح لدرجة أنى كنت أشعر أنى إذا قمت سأضايقه.. ويقول: سوف أتناول إفطارى فى الكلية، وأحيانا يخرج متأخرا يعنى قبل الثامنة بقليل فالكلية قريبة من منزلنا.

كان منظما فى كل شىء، ولا يحب أن يساعده أحد فى لبسه، وكان عند رجوعه البيت يخلع البدلة ويعلقها بنفسه على الشماعة ويضعها فى الدولاب، ودائما فى حجرة النوم الشماعة التى هى قطعة من موبيليا الحجرة ومازالت موجودة فى حجرته، وهى مصممة بحيث يسهل وضع الملابس عليها، وكنت أبدى رغبتى فى مساعدته لكنه كان لا يقبل.
بدأ شهر نوفمبر.. وبالتحديد فى أول يوم منه وبدأ جمال فى المذاكرة.. يرجع من الكلية الساعة الواحدة بعد الظهر أو بعدها بقليل ونتناول الغداء فى الواحدة والنصف، وأيام يرجع للكلية بعد الظهر، وأيام يظل فى البيت حسب نظام التدريس. نظم وقت المذاكرة.. يبتدئ الساعة الثالثة بعد الظهر حتى المغرب أو بعده بقليل، ثم يحضر زوار.. وأغلبهم من الضباط، يقابلهم ويجلس معهم ولا يحضرون كلهم مع بعض.. يعنى واحد يجىء وواحد يذهب، وأحيانا يكون اثنين أو ثلاثة مع بعض، ثم بعد ذلك إما أن يبقى فى البيت أو يخرج.. إما بمفرده أو مع زائر أو اثنين. وابتدأت أميز الأصوات، وعرفت صوت عبدالحكيم عامر إذ كانت له طريقة فى كلامه وضحكه.. ثم يرجع البيت إما مبكرا أو متأخرا لكن لا يتأخر كثيرا.
كانت المذاكرة فى حجرة السفرة.. يضع الدوسيهات والمراجع والأوراق وخرامة الأوراق، إذ كان يعد الدوسيه الذى سيذاكر فيه بنظام وترتيب. ولاحظت أنه يكتب كثيرا فى مذكرته، ويتناول العشاء معى إذا كان فى البيت ولم يخرج أو خرج ورجع مبكرا.
وعندما يقترب موعد الامتحان كان يظل يذاكر حتى الصباح، ويتناول عشاءه ساندويتش أثناء المذاكرة.
قال لى: إن دخول كلية أركان حرب ليس بالسهل، وأصعب شىء فيها هو دخولها إذ العلوم كلها باللغة الإنجليزية والمدرسون إنجليز، وكل سنة يتقدم عدد كبير من الضباط ولا ينجح إلا عدد قليل إذ كان الامتحان على مرتين.. يعنى تصفية. أول امتحان ينجح عدد ثم الثانى ينجح منهم عدد ويرسب عدد، وعلى ذلك فلا يدخل كلية أركان حرب كل سنة إلا عدد قليل، وأول امتحان كان فى شهر مايو يعنى بعد ستة أشهر.
كان يتردد عليه الضباط أحيانا، وهو يذاكر فكنت أراه يسمع خبطة الباب فيفتح الباب من حجرة السفرة، وأراه يدخل الصالة ثم يدخل الصالون ويُدْخِل الضيف من باب الصالون الذى على السلالم، ثم يحضر ضيف آخر يدق الباب فألاحظ أنه يخرج إلى الصالة ويدخل حجرة السفرة ويُدْخِل الضيف الآخر حجرة السفرة من بابها، ويمكث مع أحد الضيفين فترة حتى يذهب وغالبا لا يمكث كثيرا، ثم يذهب للضيف الآخر أى لا يجمع بين الاثنين، ثم بعد ذلك يرجع للمذاكرة.
كان بعض الضباط يحضرون ويمكثون فى حجرة السفرة معه وهو يذاكر، وهم يذاكرون معه أحيانا.
وكان يجهز الدوسيهات الخاصة بكلية أركان حرب من المراجع الكبيرة الكثيرة التى كانت أغلبها باللغة الإنجليزية. وكنت أسمع خرامة الأوراق وهى «تتكتك» لترتيب الدوسيهات، واذا سمعت حديثا ــ وبعضهم يكون صوته عاليا ــ يكون كله عن العلوم، وأكثرهم مذاكرة معه صديقه عبدالحكيم عامر.
كان يخرج معى يوم فى الأسبوع وغالبا السينما، وكان الموسم قد بدأ بالأفلام الجديدة فى سينما مترو، ريفولى إلى آخره.. فكان يحجز التذاكر من قبل ليختار المكان الذى يفضله، ويطلب أن أكون جاهزة للخروج فى وقت يحدده لى، وذلك بدون أن أطلب منه الخروج معه، بل هو نفسه الذى رتب يوما للخروج معى. استمر الحال على ذلك حتى شهر مايو، ودخل الامتحان ونجح وكان ترتيبه الرابع، وهو كما قال لى امتحان تصفية.

يكره نظام المراسلة
ابتدأت أشعر بحمل فاصطحبنى لدكتور مشهور فقال لى: إنه يجب أن يتابعنى مدة الحمل، فكان جمال يذهب معى كل شهر حسب تعليماته. لم يكن عندنا مراسلة أى العسكرى، الذى يكون مع الضابط فى منزله، إذ كان جمال يكره نظام المراسلة ويقول: إنه نظام خاص بالضابط فقط، لكن البعض ــ وهم الأغلبية ــ يعاملونهم كخدم للأسرة وأكثر، لأنه لا يملك أن يشتكى أو يتظلم إذا ثقل عليه الشغل أو عومل بقسوة أو أن يترك المنزل ويبحث عن شغلة أخرى، وكنت على رأيه، كما كان يعتبر أن فى الطريقة هذه امتهانا لكرامة وعزة الجندى.
كنت أقوم بتجهيز البدلة الرسمية بنفسى.. النجوم والأزرار أعطيها للشغالة تلمعها، وأنا أركبها فى البدلة إذ كانت فى ذلك الوقت تركب بدبل نحاسية. وأذكر أنه مرة كان يزورنى قبل الزفاف وكان يرتدى البدلة العسكرية.. فسألته عن النجوم التى على الأكتاف وكيف هى معلقة.. فأدار الجزء الملحق بكتف البدلة وأرانى فوجدتها دبلا نحاسية تعلق من ثقوب صغيرة بالنجمة التى بها زردية صغيرة وقال: ها هى.. وطبعا ضحكنا.
سافرت الشغالة لبلدها فى الريف، وكان لا بد أن يكون أحد فى المنزل، فأحضر جمال مراسلة وقال لى: إنه خاص به يقوم بلوازمه ويشترى لنا ما يلزمنا فقط، فكنت أنفذ رغبات جمال بدقة وأنا سعيدة ومقتنعة بكل شىء يقوله. وكان المجندون فى ذلك الوقت من أسر فقيرة أو أولاد الفلاحين المعدمين الذين يشتغلون فى أراضى الملاك الأغنياء، ولم يستطيعوا أن يدفعوا عشرين جنيها «البدلية».
استمر جمال فى المذاكرة لدخول الامتحان فى ديسمبر والضباط وغير الضباط يحضرون واحدا بعد الآخر أو اثنين، وأحيانا يجتمع عدد كبير يملأ الصالون ويمكثون وقتا طويلا، وعند حضورهم لا يحضرون فى وقت واحد ولا ينصرفون فى نفس الوقت أيضا. وهذه الاجتماعات كانت على فترات أكثر من أسبوع، فكان فى الأيام الأخيرة قبل الامتحان يذاكر حتى الصباح، وكان عدد من الضباط يحضرون ويدخلون حجرة السفرة، وأكثرهم مذاكرة معه عبدالحكيم عامر، وفى مرة أحضر معه زوجته لتبقى معى وهو يذاكر مع جمال.
وفى الأيام الأخيرة قبل الامتحان حضر ضابط اسمه زكريا محيى الدين.. كان يدخل لجمال وهو يذاكر فى حجرة السفرة، وكنت أسمعه وهو يدقق فى فهم العلوم ويكرر، وقد ميزت صوته أيضا من تدقيقه فى الفهم وترديده الجملة، وقال لى جمال عنه إن والده يملك عزبة وإنه لم يتزوج بعد، وكان يحضر بعربته الخاصة الجديدة.
امتحن المتقدمون لدخول كلية أركان حرب ونجح عدد قليل بالنسبة للمتقدمين، لا أذكر عددهم بالضبط لكنه لم يكن أكثر من ثلاثين.. نجح جمال وعبدالحكيم وزكريا.

مولد هدى
كنت فى آخر أيام الحمل.. وعندما شعرت بأعراض الوضع وكان الوقت ليلا ذهبت مع جمال مستشفى الدكتور المشهور الذى كان يباشر حالتى، وظل فى المستشفى دون أن يخبر أحدا من أخواتى حتى الثامنة صباحا وقت مولد هدى ابنتنا فى 12 يناير سنة 1946. وبعد أن هنأنى قال: سأخبر شقيقتك بالتليفون ثم أذهب للبيت لأنام
دخل جمال كلية أركان حرب وكانت ومدة الدراسة سنتين.. قلت ساعات المذاكرة وازداد حضور الضيوف.. يجيئون فى أى وقت بعد رجوعه من الكلية قبل الغداء وبعد الغداء وفى أثناء تناوله الغداء. وكان يدخلهم الصالون ويترك السفرة ويقول لى: فلتكملى غداءك وسآكل بعد ذلك، فكنت أنتهى من تناول الغداء وبعد خروج الضيف ــ وغالبا لا يمكث الا وقتا قصيرا ــ أسأله فى تناول الغداء ولا يأكل إلا القليل، لكنه أبدا ما أكل مرة ثانية.
كان يدخل حجرة النوم ليستريح بعد الغداء لكنه قلما كان يبقى فى السرير أكثر من دقائق أو ربع ساعة أو نصف ساعة على الأكثر.. ويدق الباب ويدخل زائر الصالون فيقوم ويقابل الضيف، وبعد انصرافه يرجع الحجرة ثم يحضر ضيف آخر وهكذا. أحيانا يخرج بعد تناوله الغداء مباشرة ثم يرجع البيت، ويحضر ضيف ثم يخرج مرة ثانية إما مع الضيف أو بمفرده بعد انصراف الضيف.
للآن، لم ألحظ أى شىء غير عادى أو سرى. وكنت أرى مسدسات يحضرها معه وأضعها بنفسى فى الدولاب، إذ كنت أراها شيئا عاديا وهو ضابط.
فى ليلة قال لى ــ وكانت الساعة العاشرة مساء ــ إنه سيخرج ويرجع عند الفجر، وعندما أدق على الباب تفتحين لى، وقال: سأدق ثلاث دقات هكذا.. ودق بطريقة معينة وحفظتها، وقال: حتى تصح من النوم وتفتح الباب. وقال إنه سيحضر اجتماعا يتحدثون فيه فكنت أنام وأفتح باب الحجرة حتى أسمعه عند حضوره.. وأعرف دقته على الباب وأميزها ولا أخطئها، وطبعا تكرر خروجه ورجوعه فى هذا الوقت عدة مرات.
كنت سعيدة ولم يضايقنى أى شىء.. وأرى فى عينيه الحب والإعزاز، وكان يداعب هدى كثيرا ويحملها ويدخلها للضيوف لدقائق.. وأشعر بسعادة وأتمنى أن أعمل كل ما أستطيع لإراحته.

جمال الإنسان
سنة 1946.. فى آخرها مرض عبدالحميد شقيقى بصدره «درن»، ومكث فى البيت راقدا فى السرير، وأخى الثانى كان يسكن فى بيت آخر بعد رجوعه من الخارج.. يعنى كل بمفرده، وكنت فى حملى الثانى وكانت زياراتنا له قليلة، وبعد مرضه كان جمال يزوره كثيرا ويجلس معه، وكان يقول لى كثيرا عند رجوعه البيت بالحرف: أنا عديت على أخوكى، فكنت أسأله عنه، وطبعا كان يطمئننى ويقول: مكثت معه نتحدث، على عكس أقاربى.. قلت زيارتهم له، وعندما يزورونه يكون ذلك بتحفظ.. يعنى من باب الحجرة. وكان جمال يقول: إزاى واحد يخاف من مريض يعديه بالمرض! أنا عمرى ما خفت ولا فكرت فى عدوى من مريض، إنه شىء غير إنسانى.
دخل أخى المستشفى وأجريت له جراحة فى رئته، وعندما خرج من المستشفى وفى نفس اليوم زاره جمال فى المساء وبقى معه حتى الثالثة صباحا ــ وكنت أوشكت على الوضع وعندما رجع للبيت قال لى: أنا من وقت ما خرجت وأنا جالس مع عبدالحميد إذ وجدت شقيقاتك عنده، وكان تعبا يتنفس بصعوبة، ووجدت أخواتك يرحن واحدة بعد الأخرى وأخاك فى حالة صعبة فقلت: كيف أتركه وهو لا يستطيع التنفس بسهولة..وشقيقاته ذهبن.. سوف أبقى معه.
وكان يطلب منى أن أذهب فقلت له: إنى باق معك، وقبل الثالثة صباحا قال لى: أنا الآن أتنفس بسهولة وأشعر براحة، وطلب منى أن أروح وقال: سأتناول كوب لبن.. فقلت له: سأظل معك حتى تتناوله.. وكان جمال مندهشا من شقيقاتى وكيف أنهن تركنه.
بعد أن تحسنت حالة أخى وخرج من المستشفى زار شقيقاتى وقال لهم: أكثر واحد فى الدنيا أحبه وأقدره هو جمال عبدالناصر.. إنه أكبر إنسان قابلته فى حياتى وأحبه أكثر منكن.