الثورة العربيّة الكبرى! هل ستغيّر وجه التاريخ ؟

يقول الطبيب/ المفكر الفرنسي غوستاف لوبون “إن ما يجمع الثورات هو الاستياء، فإذا عمَّ وتراكم فإنه يتحول إلى حركة تتحول إلى وثبة وبالتالي ثورة”. ويقول عبد الرحمن الكواكبي صاحب “طبائع الإستبداد”: “خلق الله الإنسان حرّا، قائده العقل.. فكفر.. وأبى إلا أن يكون عبدًا، قائده الجهل!!”. ويقول عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر:” الأمم قد تتسامح بالتفريط في مصالحها، ولكنها لن تتسامح أبدا بجرح شرفها وكبريائها”. وفي “مقدمة” ابن خلدون الشهيرة، فصول متعددة عن الاستبداد وسقوط الزعيم حين انفراده بالمجد، منها” الفصل الثالث عشر:”في أنه إذا تحكمت طبيعة الـمُلك من الانفراد بالمجد وحصول الترف والدعة أقبلت الدولة على الهرم” ويقول”إن طبيعة الـمُلك الترف فتكثر عوائدهم وتزيد نفقاتهم . . .والترف مفسد للخلق بما يحصل في النفس من ألوان الشرّ والسفسفة وعوائدها”.

* * *

الشعب العربي ينتفض، بل يثور ويتفجر، من الخليج إلى المحيط. لم يتوقع أحد هذه الثورة الجارفة. كان الجميع، بمن فيهم المفكرون والمشغولون بالهمّ العربي،[1] شبه يائس، واكثرهم يائس بالفعل من انبثاق مثل هذه الحركة أو الوثبة، فما بالك بهذه الثورة المستعرة التي تزداد تفجرا في كل يوم في جميع أرجاء الوطن العربي. نعم هو يائس، بسبب تمركز سلطة معظم الدول العربية القطرية وتسلطها المباشر او غير المباشر بالقوة والقهر ، على شؤون البلاد والعباد، ودعمها من جانب القوى الكبرى. السادات كان يقول مثلا “جوّعْ الكلب يتبعك”. وهكذا كان ديدن معظم الحُكـّام العرب تقريبا.

هذه ثورة عربية/عالمية، ذلك أن العالم سوف لن يكون بعدها كما كان قبلها. فبالإضافة إلى التغيرات التي ستحدث داخل الوطن العربي، وفي كل قطر من أقطاره، وفيما بين هذه البلدان ، فإن أسس العلاقات بين الوطن العربي وبقية البلدان، ولاسيما الدول الكبرى وإسرائيل ستتغير، على الارجح، مهما كانت نتائج هذه. وهي ليست عربية فقط بل انتقلت بوادر الثورة للمطالبة بالحرية والديمقراطية، في عدد من الأنظمة الأخرى التي تمنع المعارضة من الاحتجاج والتظاهر مثل إيران، كما ذهب شرر الثورة بعيدا فوصل إلى كوريا الشمالية والصين، حيث سمعنا بمحاولات للتظاهر للمطالبة بالحرية والديمقراطية، فقمعت بشدة.

استعراض وتحليل

وسنحاول فيما يلي ان نتعرض باختصار، لأبعاد هذه الثورة وأهميتها وملابساتها، في نقاط :

1- أول ثورة شعبية تلقائية : قد لا نكون مخطئين إذا قلنا ان هذه الثورة تكاد تكون فريدة ليس في التاريخ العربي فحسب، بل ربما في تاريخ العالم، من حيث أنها تلقائية وشعبية وسلمية وبدون قيادة . فباستثناء الثورة الفرنسية، التي كانت في بدايتها شعبية تلقائية، من النادر جدا حصول ثورات شعبية تلقائية سلمية، تـُغيـِّر النظام لاسيما في الوطن العربي، كما حدث في تونس خلال الفترة (17/12/2010-15/1/2011) ، ثم تلتها، مباشرة ثورة الشعب المصري (في 25/1/2011 –11/2/2011) ، الأكثر أهمية وخطرا، فحققت أول مطالبها بإسقاط النظام، الذي كان قائما منذ ثلاثة عقود أو أربعة . وقد شكلت هذه الثورة دافعا رئيسيا لقيام الثورات المشتعلة، قليلا أو كثيرا اليوم. ومنها الليبية واليمنية والبحرينية والسورية والأردنية، وقريبا ربما الجزائرية والمغربية والسعودية والعراقية، وغيرها.

2- أول ثورة سلمية حقيقية : باستثناء ثورتي السودان الشعبيتين السلميتين في عامي 1964و1985، ووثبة العراق السلمية في عام 1948، فإن معظم الحركات العربية الأخرى التي أسقطت الحكومات والأنظمة انطلقت من صفوف الجيش، وقلبت الأنظمة بالقوة، بما فيها حركة الضباط الأحرار في مصر 1952، وما تلاها من الحركات الإنقلابية الثورية في العراق وسورية والسودان وليبيا والجزائر واليمن وتونس، وغيرها من الحركات التي بلغت قرابة ثلاثين انقلابا، تميز بعضها بالعنف والدم. والإستثناء الثاني يتعلق بالانتفاضتين الفلسطينيتين، مع أن انتفاضة الأقصى الأخيرة كانت انتفاضة سلمية ثم تحولت إلى انتفاضة مسلحة..[2]

3- خيبة أمل الشعوب العربية بانقلابات القرن العشرين: تلك الإنقلابات/الثورات التي نالت معظمها رضا معظم الشعوب العربية، في البداية، إذ ْ حررتها من نير الاستعمار أو التبعية، تحولت في نهاية المطاف إلى أنظمة قمعية استبدادية ظالمة وفاسدة، لم تحقق لشعوبها الحد الأدنى من الحياة الكريمة والتقدم المنشود. وهكذا تراكمت المظالم وازدادت الفجوة بين الحكام والمحكومين، وسقطت قطرات في الكأس الـمُترْعة،(مصرع محمد البو عزيزي ) ففاضت وأغرقت بعض الأنظمة التي جاءت إلى الحكم عن طريق الإنقلاب، وتمسكت به عشرات السنين(تونس، مصر ،ليبيا، سورية، العراق واليمن).

يرى المؤرخ/ الفيلسوف البريطاني آرنولد توينبي أن “الأقلية الخلّاقة في المرحلة الاولى تكون قادرة على القيام بالردود الناجحة على سلسلة من التحديات المتجددة ، ولكنها في المرحلة الثانية تبدو عاجزة عن القيام بهذه المهمة لذلك نراها تنقلب إلى أقلية مسيطرة ، تحاول الحفاظ بالقوة على مركز قيادة لم تعد تستحقه، وكنتيجة لهذا الاستكراه على الطاعة يحدث انفصال الأكثرية عن الأقلية ويبدأ زمن الاضطراب ” [3]. وهذا ما حدث فعلا بعد الثورات/الانقلابات في كثير من بلدان الوطن العربي.

4- تأخُر العرب في ميدان الديمقراطية: تأخر العرب كثيرا عن اللحاق بالحركات التحررية والديمقراطية التي حدثت في العالم خلال العقدين السابقين، ولاسيما في أوربا الشرقية وأمريكا الجنوبية. وغالبا ما كانت معظم آراء المحللين تفسر ذلك بالسياسات القمعية الشديدة التي اتبعتها الأنظمة العربية، بتأييد وإسناد مباشر أو غير مباشر من الدول الإمبريالية الكبرى وإسرائيل، حفاظا على مصالحها، مما أدى إلى تأخر هذه الحركات، إلى حدّ كدنا نيأس من انطلاقها. بل بتّ ُ أفسر ذلك في بعض كتاباتي أيضا بأسباب تاريخية تتعلق بخضوع الشعوب العربية لعصور طويلة من السلطة الاستبدادية التي كان يتمتع بها الحاكم بأمره، خلال فترة الـ 14 قرنا الماضية، بل خلال آلاف السنين(حكم الفراعنة) ، وخضوع الرعية المطلق له، وأستشهد أحيانا بقول بعض رجال الدين سابقا ً” من اشتدت شوكته وجبت طاعته”. ولكن هذه الحركة غيرت الموقف بما فيه رأيي، وأعطتني بعضا ً من الأمل الواعد، شريطة ان تكون النتائج بمستوى المقدمات. وذلك بسبب الأخطار الهائلة المحيقة بهذه الثورات الشعبية،سواء من الداخل أومن الخارج.

5- أهمية الثورة المصرية: ولئن لا نغفل أهمية الثورة التونسية بسبب موقعها الاسترتيجي وقربها من أوربا جغرافيا وثقافيا، فضلا عن فضلها الأكبر في إشعال الفتيل الذي أدى هذا الانفجار الكبير، بيد أن الأهمية المتميزة والعالية للثورة المصرية الشعبية تنبثق من عدة عوامل، منها: موقع مصر الجيوبوليتيكي”: فهي قلب الوطن العربي ورئة العالم الإسلامي، وحجر الزاوية في العالم الأفريقي”كما يقول جمال حمدان في كتابه الشهير “عبقرية المكان”. نضيف إلى ذلك موقعها المجاور لإسرائيل، ومعاهدة الصلح معها التي تضيف بُعدا ًاستراتيجيا خطيرا إلى هذه الحركة، التي ما زالت تراقبها إسرائيل بقلق كبير ، على الرغم من تصريح رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة، الذي يتمتع بالسلطة العليا، بالتزام السلطة بجميع الاتفاقيات والمعاهدات المعقودة مع مصر. فإسرائيل تحسب حساباتها بدقة، لأن أي نظام بديل لذلك النظام المصري البائد – الذي كان يحافظ على مصالح إسرائيل بكل إخلاص وتفان، بصرف النظر عن مصالح بلده وأمته- سيعرض هذه العلاقة “الحميمة” للخطر.

يقول بنيامين نتنياهو: “إن نوايا السلام يمكن ان تتغير غدا نتيجة للظروف أو لاستبدال الحكام في الدول التي وقّـعَتْ على سلام معنا”[4] وهو يحتاط لذلك فيقول: ” إن قوة الردع الإسرائيلية لا تحول دون خروج العرب لمحاربة إسرائيل، فحسب، إنما أيضا دون خرقهم لوضع السلام معها”[5] .

6- ثورة عربية/عالمية: هذه الانتفاضات/الثورات التي تعمّ عددا من البلدان العربية، إذا توسعت وحققت الآمال المعلقة عليها، لاسيما في تحقيق عملية السير نحو الديمقراطية بشروطها وأبعادها المتعددة، يمكن أن تعتبر ثورة عربية /عالمية بكل المقاييس. ذلك لأنها سوف لا تغير فقط الخارطة الجيوبوليتيكية للوطن العربي، بل يمكن أن تغير جميع الأوضاع في الوطن العربي، مما يفضي إلى تغيير جذري للعلاقات القائمة بين العرب من جهة، وجميع الدول الغربية والشرقية الاخرى، ولاسيما أمريكا وإسرائيل. وتحوِّل هذه العلاقة من علاقة قائمة على الخضوع والخنوع والتنفيذ والإذلال، إلى علاقة قائمة على النـِدية والحِرص على مراعاة المصالح الحيوية للبلدان العربية، في المقام الأول. لذلك كرر الرئيس أوباما في اعقاب الثورة المصرية قائلا”إن الأوضاع سوف لن تكون كما كانت”. وهذا من شانه أن يقلب المعادلة، وقد يغير مجرى التاريخ.

7- التلاحم بين الشعوب العربية: هذا التضامن والتجاوب، بل التفاعل والتلاحم بين الشعوب العربية، الذي ظهر في الفترة الأخيرة، منذ أحرق محمد البوعزيزي نفسه في 17/12/2010، فأشعل ثورة تونس الخضراء، التي امتد حريقها إلى مصر وليبيا واليمن والبحرين وسورية وبلدان عربية أخرى؛ قد يشكل بذرة صالحة للاستزراع في تربة هذا الوطن الخصبة، لتصبح نبتة ثم شجرة تحمل ثمرة الوحدة العربية أو الاتحاد العربي المتعاون والمتكامل، على الأقل، في مجتمع مترابط يتوحد في “عقل مجتمعي” سائد، يشترك في عناصر أساسية أهمها اللغة والثقافة والإقليم والتاريخ بما فيه التراث والحضارة ، والهموم المشتركة والتطلعات المستقبلية الواحدة، والمصالح المشتركة، وذلك أسوة بـ”الاتحاد الأوربي” الذي لا تتوفر بين الدول الأعضاء فيه معظم هذه العناصر باستثناء المصالح المشتركة، ومع ذلك تحقق هذا الإتحاد ونجح.

8- تراكم الأسباب وتحقيق النتائج: وأرى أننا نبسط الأمور، حينما نحاول أن نعزو أسباب الثورة(أية ثورة، وأضيف أية “ظاهرة إجتماعية”) إلى سبب معين أو أسباب محددة، لأن هذه الأسباب الظاهرة لا تمثل إلا جزءا قليلا من جبل الجليد العائم. أي أن هناك أسبابا متعددة ومتفاعلة أخرى قد تتجاوز تحليلاتنا. وقلت في مناسبة سابقة:” إن الأحداث التاريخية الكبرى، التي قد تغير وجه العالم، أو تــُعَـدِّل المسيرة التاريخية لشعب من الشعوب، في أي زمان ومكان، لن تتحقق من فراغ، بل من تراكم أسباب ونتائج متعددة، قد تعود جذورها إلى عشرات أو مئات السنين، أحيانا. ومن خلال تراكم وتفاعل وتكامل تلك العوامل، يتـشكل ويتبلور تدريجيا ذلك الحدث التاريخي الخطير ثم يتفجر فجأة. ويصدق ذلك على جميع الثورات والانقلابات الشعبية، بما فيها الثورة الفرنسية والثورة الروسية والثورة الإيرانية.”[6]

9- التغيرات الكمية الصغيرة تنتهي بتغير نوعي كبير: ويمكن أن نضيف إلى تلك الثورات، هذه الثورة الشعبية التي بدأت في تونس وتفجرت في مصر. فبناء على “النظرية المادية التاريخية” القائمة على الفكر الماركسي، إن التغيرات الكمية التدريجية الصغيرة، تسفر، في الغالب، عن تغير نوعي كبير ومفاجئ، هائل وصادم أحيانا. فلم يكن يتوقع أحد أن تتفجر الثورة التونسية الشعبية أولاً كشرارة توقد الثورة المصرية التي أشعلت ثورات أخرى تنتشر اليوم في طول الوطن العربي وعرضه.

10- ثورة الاتصالات: يمكن أن نعتبر ثورة الاتصالات، من أهم الأسباب الرئيسية لهذه الثورة إن لم تكن أهمها فعلا . وتشتمل ثورة الاتصالات هذه على عدة جوانب منها الفضائيات العربية المتطورة (التي أفردنا لها فقرة خاصة تلي هذه الفقرة)، والإنترنيت والهاتف الجوال، وخطوط الطيران السريع، كلها حولت العالم إلى قرية صغيرة، ينتقل فيها الخبر آنيا من أقصى الكرة الأرضية إلى أقصاها بلمح البصر، مما يؤدي إلى التواصل والتفاعل والتفاهم. وقد ساهمتْ ثورة الاتصالات هذه على إذكاء الثورة الشعبية الشاملة، على مستويين؛ 1) إحاطة الأفراد والجماهير علما بما يحدث في العالم المتقدم خاصة، من تحولات وتطورات، مما يؤدي إلى زيادة الشعور بمدى تخلف الوطن العربي، والفجوة الكبيرة بينه وبين العالم المتقدم؛ 2) أستخدام وسائل الاتصال هذه للوصول إلى حشد الجماهير للقيام بالتظاهر الذي تحول إلى ثورة.

11- ثورة الفضائيات: إن ظهور الفضائيات العربية المتطورة وعلى رأسها قنوات الجزيرة ، التي طورت نوعية البرامج بما فيها الأخبار والتقارير والبرامج السجالية التي تعتمد على الرأي والرأي الآخر، مما فضح سلوكيات الكثير من الحكومات، وفسادها وخضوعها لإملاءات “الآخر “، فضلا عن تقديم صورة واقعية للأحوال المتردية للوضع العربي الراهن بوجه عام ؛ كل ذلك أدى إلى توعية الشعوب العربية وحشدها للثورة على الحكام العرب لاسيما الذين استأثروا بالسلطة وثروات البلاد خلال عدة عقود ماضية.

12- العرب ينشدون الديمقراطية :كانت هناك فكرة سائدة تخدم إسرائيل والدول الغربية التي لها مصالح في المنطقة ولاسيما أمريكا، وهي أن العرب لايقبلون الديمقراطية، بل لا يؤمنون بها، وتستشهد هذه الأوساط باتجاهات الإسلاميين الملتزمين الذين يعتبرونها مخالفة للشريعة. وكنا نحاول الرد على ذلك باجتهادات نظرية مختلفة موجزها ؛ أولا: إن الديمقراطية هي نوع من الشورى المتطورة،[7] “إذ تتغير الاحكام بتغير الازمان”، كما يقول الفقهاء. وثانيا: الشريعة وجدت لمصلحة الأمة، كما يقول الفقيه المصري جلال الدين السيوطي . وقد خالف الخليفة عمر بن الخطاب النصوص في ثلاث حالات،[8] لأنه وجد أن اجتهاده يتفق مع مصالح الأمة بقدر أكبر.

والآن أثبتت هذه الثورة الشعبية السلمية( في تونس ومصر وليبيا واليمن والبحرين ) التي اضطلع بها الشباب، والتي يُرجح أنها لا تنتسب إلى أي تيار سياسي أو عقائدي محدد، والتي ساندتها جميع المنظمات المعارضة؛ أثبتت، إلى حد بعيد ، مدى تطلع العرب إلى الحرية والديمقراطية. علما أن الديمقراطية ليست هدفا محددا ، يمكن تطبيقه بين يوم وليلة، بل هي نظام متنوع ومتدرج كعمليةprocess ، تتكامل خلال فترة، قد تطول او تقصر، وتتطور أو تتجمد، تبعا لمدى تفهم الشعب، أو ممثليه، موجبات هذا النظام، وحماسة ذلك الشعب وعقلانيته في اتباعه( النظام الديمقراطي) أو تطويره وتحسينه، وتجاوز العقبات التي تحول دون ذلك.[9] ويدل الاستفتاء الاخير على تعديل الدستور المصري، بحرية وعزم، وإقبال على التصويت لم يسبق له مثيل، لأول مرة في تاريخ مصر العريق، يدل على مدى عزم هذا الشعب على تحقيق الديمقراطية.

13- العقبات والعثرات :لا شك أن هذه الثورات القائمة أو المتوقعة في الوطن العربي ( ولاسيما الثورة المصرية لأهمية مصر الجيوبولتيكية كما شرحنا آنفا ) ستتعرض لعقبات كثيرة ولمؤامرات متعددة من الداخل والخارج ، وذلك لوجود قوى داخلية وخارجية شديدة البأس، لها مصالح معينة ترتبط بإجهاضها. أو قد تتعرض للاختطاف من بعض الانتهازيين الذين يبتغون الوصول إلى السلطة، أو استعادة الحكم الفردي أو الفئوي، أو القائم على إيديولوجيّة معينة أو عقيدة دينية، ربما بتشجيع أو توجيه او إغراء من “الآخر”، في الداخل،مثل فلول النظام السابق؛ أو في الخارج؛ من مختلف الدول التي كانت تستفيد من بقاء النظام السابق في السلطة، بشكل مباشر او غير مباشر.

14 – اختلاف خصائص الثورات واتفاقها :نلاحظ أن الثورات القائمة اليوم (أواخر مارس 2011) في الوطن العربي تختلف في خصائصها واحتمالاتها من بلد لآخر. فكل من الثورة التونسية والثورة المصرية انتهت في مرحلتها الأولى، عندما تنحى كل من زين العابدين بن علي بعد 30 يوما، وحسني مبارك بعد 18 يوما، عن السلطة في وقت قصير نسبيا، وذلك لعدة عوامل لعل من أهمها أن هذين البلدين يتميزان بمجتمع متجانس نسبيا. بينما يتعذر التكهن بنتائج الانتفاضات/ الثورات القائمة اليوم، ولاسيما في ليبيا واليمن حيث تطغى على هذين المجتمعين الصفة القبلية؛ والبحرين الذي يتميز باكثرية شيعية تحكمها أقلية سنية، وسوريا التي تحكمها منذ 40 عاما(1971)، أسرة الأسد التي تمثل قيادة حزب البعث العربي الاشتراكي. ومن جهة أخرى، قد تتطور الاوضاع في بعض هذه البلدان إلى حرب أهلية، ( كما يحدث اليوم في ليبيا) يمكن ان تؤدي، إذا طالت وتفاقمت، إلى تقسيمها، وهذا ما لوح به القذافي مؤخرا ، كما أنه يخدم مصالح إسرائيل خصوصا.

ومن جهة أخرى فإن هذه الثورات تتفق، على الأرجح، من حيث أهدافها العامة المتعلقة بإطلاق الحريات والقضاء على الفساد وتطبيق الديمقراطية وحقوق الإنسان والحكم الصالح، والشفافية، والتوزيع العادل لثروات البلاد. وباختصار فإن جميع هذه الثورات تتحدث بلغة واحدة، بمعنى أن أهدافها العامة مشتركة.

15- “الهدمُ سهلٌ والبناءُ عسيرٌ “: يجب أن نلاحظ أن هذه الثورات لا تنتهي بإزاحة النظام وبطانته الفاسدة، بل بالأحرى تبدأ من هذه النقطة. لان أمامها مراحل كثيرة ينبغي اجتيازها بنجاح للحكم عليها. فهدم النظام السابق المتغلغل في شرايين البلد خلال عقود ثم بناء البلد من جديد مهمة شاقة وطويلة، ستواجه عقبات خطيرة وعثرات كثيرة قد يصعب اجتيازها، لاسيما وأن لها أعداءاً كثرا ً ، من الداخل ومن الخارج، كما أسلفنا. كما أن رواد النهضة أنفسهم يمكن أن ياكل بعضهم بعضا، كما حدث في العديد من البلدان العربية بعد الثورات الانقلابية. لذلك نتمنى على جماهير هذه الثورة الشعبية أن تضع برنامجا محددا أو خطة طريق تشرح الخطوط العامة للمطالب فضلا عن آليات تحقيقها، وهذه بحاجة إلى اختيار قيادات كفوءة، وهذه معضلة أخرى مفقودة في هذه الثورة، وهي في الواقع نقطة سلبية وإيجابية في آن، نظرا لأن الثورة تلقائية أصلا ً. لذلك اقترحنا أن يشكل “المشروع النهضوي العربي”، برنامج عمل وخريطة طريق بعد إسقاط الإنظمة العربية القائمة، كما سنشرح في الفقرة التالية.

16- المشروع النهضوي العربي:[10] يمكن أن يعتبر “المشروع النهضوي العربي” خريطة طريق للثورة / الثورات المستعرة في الوطن العربي، بعد أن تنتقل إلى مرحلة تحقيق أهدافها في التشييد والبناء، و لاسيما على صعيد تحقيق “الديمقراطية” و”التنمية المستقلة” و”العدالة الإجتماعية”و” الاستقلال الوطني” و”التجدد الحضاري”، بالإضافة إلى تحقيق “الوحدة العربية”، وهي عين الأركان الستة للمشروع النهضوي العربي. هذا المشروع الذي أصدره مؤخرا “مركز دراسات الوحدة العربية”، أستغرق وضعه في صيغته النهائية أكثر من عقدين من الزمن، بعد أن خضع لدراسات مُعَمَقَة ومسهبة من جانب عشرات المفكرين والمختصين، فضلا عن مراجعتة الشاملة من جانب منظمة “المؤتمر القومي العربي”، الذي يتألف من نخبة من مئات المثقفين والكتاب والمهنيين والسياسيين المخضرمين، الذين يمثلون مختلف الاتجاهات السياسية والفكرية في الوطن العربي، بمن فيهم القوميون والماركسيون والليبراليون والإسلاميون(علما أن كاتب هذه السطور عضو ناشط في هذا المؤتمر، منذ عام 1998).

17- الثورة ليست عقائدية : نلاحظ أنه لم نسمع خلال هذه الانتفاضات/ الثورات أصوات او شعارات سلفية من أمثال” “الإسلام هو الحل”. كما لم نلمس أي دور لحركة القاعدة، حتى في اليمن التي من المفروض ان تكون أحد معاقل القاعدة المهمة. بل طالبت جميع هذه الثورات بالديمقراطية والحرية والقضاء على الفساد ومحاسبة السلطة.

18- ثورة المواطنين، كل المواطنين، دون تفريق بين مسلم وقبطي: تميزت هذه الثورة بهذا التضامن والتعاون بل التلاحم بين جميع المواطنين العاديين، من مختلف التوجهات والإيديولوجيات والأديان. وقد شهدنا كيف جرى قداس يوم الأحد في ساحة التحرير، باحتفال جميع المواطنين. كما جرت صلاة الجمعة بنفس الروح الاحتفالية والتضامنية من جانب الأقباط.

19- سيتغير الوطن العربي مهما كانت النتائج: مهما ستكون نتائج هذه الانتفاضات / الثورات، أي حتى إذا فشلت بعضها في تحقيق اهدافها المرجوة، ولاسيما في إسقاط النظام، فإن الأوضاع في الوطن العربي سوف لن تعود إلى مسارها السابق، والذي استمر عدة عقود. بل ستحدث إصلاحات جذرية في أنظمة الحكم وإدارة الدولة، وتغير جذري في العلاقات بين الشعب والقيادات، وفيما بين البلدان العربية نفسها، وبينها وبين امريكا وإسرائيل، لأن هذه الثورة تشكل درسا لجميع القيادات أن لا يستهينوا بالإرادة الشعبية.

20- عود الكبريت الذي أشعل الثورة:

وأخيرا وليس آخرا، يجب أن نشير فقط ولو باختصار إلى أن هناك ثلاثة عوامل مباشرة ومتفاعلة، أو مترابطة، يعود لها الفضل الأكبر في قدح الشرارة الأولى لاندلاع هذه الثورة العربية/العالمية. الأول : إقدام الشهيد محمد البوعزيزي(تونس) على إحراق نفسه، في 17/12/2010، مما أجج الثورة التونسية، التي أشعلت الثورة المصرية، خاصة بعد أن ضحى عدة أبطال بأنفسهم على طريقة البو عزيزي. وحفزت هذه الثورة الشعوب العربية الأخرى على الثورة على أنظمتها الفاسدة لإسقاطها. ثانيا: استشهاد خالد سعيد(الاسكندرية، يونية/حزيران 2010 ) بعد تعرضه للضرب بوحشية من جانب زبانية النظام البائد، وهذا الحدث يرتبط بالعامل الآتي. ثالثا:ظهور البطل “وائل غنيم” على مسرح الحدث المعلوماتي الثوري بتخصيص صفحة تحت عنوان “كلنا خالد سعيد”، على الفيسبوك، وحشد الآلاف من الشباب المشارك في الصفحة وحثهم على الخروج والتظاهر في يوم 25/1/2011. مما أشعل نار الثورة المصرية التي أسقطت النظام المصري، في يوم 11/2/2011. فهذه العوامل الثلاثة تعاونت وتفاعلت لإشعال فتيل قنبلة الثورة العربية/العالمية الكبرى.

* * *

والخلاصة أن هذه ليست فقط ثورة تونسية أو مصرية أو ليبية أو يمنية أو سورية أو أو . . . ، بل هيّ ثورة عربية/ عالمية بكل معنى الكلمة، لأنها، ستغير موازين القوى والعلاقات الدولية في المنطقة، بل جميع قواعد اللعبة التي كانت جارية منذ عقود طويلة، وبذلك يتغير وجه تاريخ المنطقة العربية. فهي ستغير علاقاتنا بالغرب وأمريكا وإسرائيل، كما ستغير العلاقات فيما بين البلدان العربية، وبينها وبين الدول الإسلامية الأخرى وبقية دول العالم . وكل ذلك يزداد شدة وزخما، رهنا بتجاوز العقبات والوقوف في وجه المحاولات الحثيثة الجارية من أجل إفراغ الثورة من محتواها أو تحطيم بنيتها، أو تغيير اتجاهها، و هذه المسألة بحاجة إلى بحث مستقل.

* * *

[1] – ففي “التقرير النهائي لمشروع استشراف مستقبل الوطن العربي”، لم يرد مثل هذا السيناريو ( المشهد ) أي مشهد قيام ثورة شارعية تلقائية سلمية ليس لها قيادة (انظر “مستقبل الامة العربية” ، بإشراف د. خير الدين حسيب، بيروت:مركز دراسات الوحدة العربية، 1988. ومع أن “المشروع النهضوي العربي” ينوه بالحيوية الكامنة لهذه الأمة ، ولكنه لم يتوقع أن هذه الحيوية ستـتـفجر من الشارع . (انظر “المشروع النهضوي العربي”، الناشر نفسه، 2010، ص13-14).

[2] – علاء الدين الأعرجي، “الانتفاضة المسلحة أضرّت بالقضية الفلسطينية: أحدَ عشرَ سبباً” صحيفة النهار، بيروت، 16/10 2004 .و” هيكل والبقال الفيلسوف؛ الانتفاضة في عامها الخامس”، صحيفة القدس العربي، لندن ، 13/10/2004.

[3] – Arnold Toynbee, ، Study of history” “، ج6، حاشية ص279 .

[4] – بنيامين نتنياهو، “مكان تحت الشمس” ص315، الترجمة العربية.

[5] – المرجع السابق، ص312-313.

[6]- الأعرجي، انظر مقالته “من أهم أسباب أحداث 11سبتمبر”، صحيفة القدس العربي، 14/9/2010.

[7] – انظر “الشورى والديمقراطية” في كتاب ” المشروع النهضوي العربي” ص 72 .

[8] – الخليفة عمر خالف الشريعة الصريحة في الحالات التالية: أولا: عندما لم يوزع أراضي السواد في العراق على المحاربين، كجزء من الغنائم، كما ينص عليه القرآن الكريم، وقال”رأيت ان أحبس الأرضين بعلوجها وأضع عليهم الخراج “. لأنه وجد ان ذلك يحقق المصلحة العامة على نحو أفضل؛ ثانيا: نص القرآن على أن ” المؤلفة قلوبهم” يستحقون جزءا من الزكاة، “ولكن عمر رأى أن المصلحة التي كانت في إعطاء المؤلفة قلوبهم لم تعد قائمة، إذ “صار الإسلام قويا في غير حاجة إلى تأليف قلوب أحد”. ثالثا: حين امتنع عن قطع يد السارق في عام المجاعة. (محمد عابد الجابري، الدين والدولة وتطبيق الشريعة، بيروت : مركز دراسات الوحدة العربية، ص 48)

[9] – نشر “مركز دراسات الوحدة العربية” العديد من البحوث في موضوع الديمقراطية. ونشير بوجه خاص إلى كتاب”المسالة الديمقراطية في الوطن العربي”، بقلم مجموعة من الباحثين العرب؛ و”ديمقراطية من دون ديمقراطيين”، تحرير غسان سلامة، وبأقلام عدد من الباحثين الأجانب، وكتاب”إعاقة الديمقراطية” بقلم نعوم شومسكي. كذلك يمكن الرجوع إلى “المشروع النهضوي العربي”، المشار إليه في الفقرة 15 أدناه. هذا المشروع الصادر مؤخرا في كتاب، اورد موضوع “الديمقراطية”، كأحد أركان المشروع الذي يتألف من ستة أركان متكاملة ومتفاعلة،هي : الوحدة العربية، الديمقراطية، التنمية المستقلة، العدالة الاجتماعية، الاستقلال الوطني والقومي، التجدد الحضاري (انظر الفصل الرابع ،ص69).

[10] – “المشروع النهضوي العربي” ، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية.