القارئ شريك اساسي في اللعبة

شعبان يوسف

رواية تقفز الحواجز العالية برشاقة وتقول اعمق الاشياء ببساطة العالم يمكن هدمه واعادة بناءه .. فلا حقائق مطلقة ولا افكار ثابته والاحداث يمكن رؤيتها من اكثر من زاوية والمكان ليس جغرافيا فقط ولكنه تاريخ ايضا

عندما ينتهي المرء من قراءة رواية " لصوص متقاعدون " لحمدي أبو جليل ، يشعر بأنه خرج من مباراة ساخنة ، و أن الحكم و المتفرجين و اللاعبين جميعهم يلعبون بحماس ، و كأنهم – فعلاً – يؤدون أدواراً ، وأن ثمة تواطئاً ينشأ بين كل هؤلاء بخفة مدروسة ، ومتقنة ، وليست عفوية ، هذه الخفة التي تجعل التأملات والأفكار والمواقف والأحداث الثقيلة تمر بسهولة ويسر ، مهما كانت غلظة هذه العناصر مفردة ، بعبارة واحدة فإن الرواية تستطيع أن تقفز حواجز عالية برشاقة ، وتقول أعمق الأشياء ببساطة وتمرر الصور والمواقف القبيحة في جماليات – جد – عالية 0 وأبرز ما تقوم عليه جماليات الرواية ، أو جماليات السرد في " لصوص متقاعدون " ، هو قيمة الاحتمالات ، أو الفرضيات ، هذه الاحتمالات و الفرضيات تضع كل عناصر الرواية من أحداث وشخصيات وخالات وبدايات ونهايات المواقف في أشكال افتراضية ، يمكن استبدالها في أي وقت ، و تحت أي ظروف ، و تصبح هنا صناعة المتخيل صناعة يشارك فيها المتلقي ، وربما يحاول أن يضع حلولاً متخيلة مع الراوي ، و طالما أن الراوي نفسه يلعب دوراً / شخصية في الرواية ، ويعيش مع الشخصيات المتعددة والمتنوعة في الرواية ، أ ي يأكل ويشرب و يتنفس معهم ، بالإضافة إلى أنه يخلقهم و يعيد خلق نفسه أو إنتاجها كشخصية روائية ، و ربما تكون هذه اللعبة هي الأبرز في الرواية 0

وينبهنا الراوي في الاستهلال المقتبس من الرواية إلى لعبة البدائل والاحتمالات ، و في المفتتح يدخل بقوة في اللعبة الثانية ، و هي أن الراوي سيصير بطلاً و شخصية فاعلة في الرواية 0 يقول الاقتباس : " الموت هو أحد البدائل المطروحة أمام الواحد دائماً كوسيلة سهلة للخلاص من خطر ما , الموت غاية كل خطر , وهو في نفس الوقت ؛ الوسيلة المثلى للتصالح مع الأخطار : أن تدهمك سيارة مثلاً , أو رصاصة طائشة , أو مخدر قوي , فهذا أريح كثيراً من الارتجاف أمام خطر ما " 0 وبقدر ما تكون تقنية الاحتمالات والبدائل لعبة يوسع بها الراوي مجالات الفكرة ومدى الرؤية ، بقدر ما تكون نوعاً من الخلاص ، والحل الذي ينهي موقف الارتباك الذي تعاني منه الشخصية الإنسانية والشخصية الروائية في الوقت نفسه ، وربما يكون هذا الاقتباس شكلاً من أشكال البدائل التي يلعبها الراوي ليستريح من عناء السرد ، فتأتي هذه الفقرة كتعليق على إحدى شخصيات الرواية المحورية ، و هي شخصية " سيف " 0 " سيف " أحد أبناء أربعة لأبي جمال ، و هو لم يكن مجنوناً ، تمرد على اختصار حياته في أداء دور واحد ، تبدلت عليه الأدوار ، أو تقلبت حياته في أدوار عديدة ، أتقن دور الشاعر و حلم بوجاهة شاعر مشهو ر، و جرب دور المطرب عندما انتبه مبكراً على حقيقة أن المطرب أوجه و أشهر من الشاعر ، و أدى دور الكوافير الحريمي ، و بالتالي عن الشعر و الغناء ، ، أيضاً هو آخر العنقود ، لا يوجد شئ تمناه و لم يفعله سوى أمنية بسيطة – كما يقول الراوي : " أن يقضي نزهة مرتدياً جيب فو ق الركبة كان قد اشتراها من سنتر التحرير وبلوزة بدون أكمام وباروكة كانت إحدى أدوات صالون الكوافير " ، والبدائل والأدوار كثيرة و متعددة ، والاحتمالات متوفرة ، ولا يتركنا الراوي / الشخصية؛ نستسلم للحكاية والسرد دون أن يتدخل في تفسير هذه الأمور فهو يصنع الرواية أمامنا ، و يدخلنا المطبخ معه ، ويشركنا في التفكير في مصائر شخصياته وأحوالها وأشكالها فيقول : " بشكل ما في أعماق كل منا ممثل مسكين يؤدي دوراً واحداً طوال حياته , دور محدود بظروف العمل والأسرة واللياقة والتقاليد وضمائرنا التي لا ترحم ، دور علينا في سبيل إتقانه أن نعيش كأقنعة ولا نكف عن قمع رغباتنا الحقيقية ، فجمهورنا وهو منا ( فداخلنا الممثل و المشاهد معاً؛ جمهور قاس ) 00 ويضرب الراوي بعض الأمثلة : فلو أن كهلاً تمرد على تمثيل دور الوقار والحكمة وتصابى قليلاً احتقرناه وسخرنا منه 0 و لو أن أطفالنا خاصموا البراءة و السذاجة وتخابثوا بعض الوقت استربنا فيهم .. و هكذا , لذلك يتمرد الراوي أو الرواية . وشخصياتها على تمثيل هذا الدور الواحد , أبو جمال – الأب – يتمرد على دوره كأب فقط , فينازع على زعامة البيت ، وامتلاك ناصية الكلمة العليا فيه 0 و يناضل من أجل الحصول على لقب " الحاج " 0 و جمال – البرنس – والعايق ، وصياد النساء ، والذي كان أديبا مغموراً أو قل فاشلاً ، أو سرياً ، ثم حشاشاً وبياعاً للحشيش ، والذي يحلم بمفهوم الاشتراكية ، وعامر الابن الثالث أيضاً له عدد من الأدوار .. أما الابن الرابع فرغم غيابه ، إلا أن حضوره يمثل نوعاً من البدائل المطروحة ، فتلعب تيمة الحضور / الغياب دوراً في اختيارات متعددة 0 هناك شخصيات أخرى خارج زمام العائلة لها حضور العائلة ذاته ، مثل الأستاذ رمضان ، وعادل القبطي والشيخ حسن ، أما الشخصيات النسائية فهي أيضاً تحاول أن تتبدل وتتغير وتتشكل حسبما تتوجه الرواية وأحداثها . و تتحدد توجهات الرواية بافتراض أولي : " افرض – مثلاً – أنك تعيش حياتك كشخصية في رواية ما ، وتأكد أن هذه الشخصية ماهرة في مداعبة قدراتك على التحايل والكذب .. فلأبطال الروايات ألاعيب عجيبة لا يمكن أن يقوموا بها في كل مكان آخر ... " . يحاول الراوي أن يضعنا معه في لعبة الأدوار ، و في تأمل عملية تقسيمها ، وصناعة أو تخيل المدى والمجالات التي تمارس فيها أفعالها ، دون الاندماج في التعاطف معها أو ضدها ، هي عملية عقلية إلى حد ما ، أو إلى حد كبير ، مثل عملية كسر الإبهام في المسرح ، وعملية تغيير الملابس ، وشرح ما يفعله الممثلون ، بل اختيار بدائل متعددة 0 ألا يكف الكاتب / مبدع النص أو مؤلفه أن يذكرنا بأنه يلعب ، ويدعو شخصياته في هذه اللعبة 0 وأحياناً الشخصية ذاتها تتمرد ، ليس " المهم ما يقال , ولكن المهم كيف يقال ، أو كيف يلعب , وكيف يفن ، حتى تصل بنا الرواية إلى ما يسمى " بالمضمون الفني " في الرواية ، أي اللعبة أو الطريقة هي التي تفرض كيفية وصول الفكرة ، حتى تصير اللعبة هي الفكرة ، لعبة البدائل والاحتمالات والفرضيات التي من خلالها يمكن تجريب الحياة على أكثر من وجه ، وبأكثر من طريقة ، ومع أي ظروف ، وفي أشكال مختلفة . الحياة ذاتها لعبة ، و لعبة طريفة أيضاً ، ومن الممكن أن تكون حياة الإنسان بوصفها رواية يخلق أحداثها و يقلبها كما يحلو له , خاصة لو كان المرء يجلس على مقعد في نهايتها ، و ذكاء الروائي الفني هو الذي يمرر التعقيدات الصعبة فيها ، ويتخيل حلولاً ممكنة ، وربما يشرك المتلقي معه في إيجاد هذه الحلول ، حينما يجد صيغة الحل مرتبكة أو غير ناجزة أو ليست مقنعة. لذلك تتعدد وسائل أبو جليل في وصف شخصياته ، و الوصف هنا ليس كما تعودناه ، بل هو الوصف الذي يضع الشخصية في أكثر من محك ، وفي أوجه متعددة وشخصيات الرواية ليست شريرة بشكل مطلق أو خيرة بشكل مطلق. وليست قبيحة تماماً ، ولكن يختلط هذا القبح ببعض الفتنة وبعض النوادر المقبولة ، قبح فرضته وطأة المنشأ الطبقي والاجتماعي والنفسي والبيئي ، فشخصيات الرواية تقطن في منزل واحد ، أي وحدة المكان ومركزيته ، وفي منطقة تكاد أن تكون منسية ، ومعزولة ، مجرد مستهلك لفضلة خير السادة ، بيئة ليست منبتة الصلة بالتركيبة المجتمعية ، ولكنها غير مسئولة عن القرار الذي يشكل مسارات هذا المجتمع ، فالمنطقة – وبطريقة ساخرة – نشأت بإشارة تاريخية من ذراع عبد الناصر عندما فاجأ العمال و هم مقيمون بشكل دائم في مصانعهم ، فأشار بكف يده و قال للمسئولين – ابنوا لهم مساكن هنا !! . وهكذا نشأت منطقة " منشية ناصر " , وبالطبع قطنها وعاش فيها هؤلاء العمال ، وكان " أبو جمال " البطل الذي يأخذ شكلاً بطريركياً في الرواية ، و على عكس التجليات الفاعلة في الرواية ، فهو يتنازع مع أبنائه على زعامة إصدار القرار .. وخاصة جمال ، الشخص الأكثر حيوية في الرواية ، والأكثر تسييداً لقيم وأخلاق و سلوكيات سليبة في البيت 0 وأما الشخصيات الأخرى ، الأبناء الثلاثة لأبي جمال ، فه�� بقدر ما " متلقون " لأوامر و تعليمات وأشكال قهرية من " أبو جمال " و" جمال " ، وبالتالي تتجلى كل أنواع الفساد : الرشوة ، و الخيانة ، والسرقة ، والانحطاط الخلقي ، والشذوذ ، والتحايل على المعايش ، والبطالة ، والتواكل .. مجتمع لا ينتج إلا هذه الصفات و السلوكيات و الأنماط الحياتية السلبية ، ورغم ذلك تتردد كل هذه العناصر في بساطة رائعة 00 أما الشخصيات الأخرى ، التي تلعب أدوارأ أساسية في الرواية ، فهي موجودة في المكان نفسه ، رغم أن كلا منها أتى من منطقة مغايرة ، أولهم الراوي ذاته الذي تنحدر أصوله من قبيلة بدوية , ولا ينسى الراوي أن يسخر من هذه العرقيات ، و احتفاظها بصفاتها الإثنية / الأيديولوجية ، والتي تتحطم تحت معاول التمدين أو التزييف ، فهذا البطل ذاته مر بالمرحلتين ، فعمل فلاحاً ثم نزح إلى المدينة ليكون أحد أبنائها المهمشين ، و بالتالي فهو يعرض " فضائل " بدويته لسهام سخريته و ينال منها ، و يعتبرها فضائل " متحفية " ، لا تصلح إلا للنذر ، و بطريقة البدائل و الافتراضات التي اعتمدها الراوي في الرواية يكتب عن أبيه " البدوي " الذي تصفه له أمه بأنه : " كان دائماً يرفع يده من على الكسبانة و يضعها على الخسرانة " فهو فشل – حتى – كخفير نظامي ، و فصل ، ثم حلم أن يكون تاجراً فـ: ( التجارة مغامرة ، قد تؤدي إلى المكسب و قد تؤدي إلى الخسارة و هذا سر جمالها ) .. فقرر الأب أن يصير تاجراً و لكن : أين ؟ في الإسماعيلية ؟ ، وذهب الوالدان إلى هناك ، وعاد كل منهما عن طريق مختلف , الوالد عن طريق أقسام الشرطة ، و الأم رجعت كمتسولة حينما تفضل ( أحدهم ) مشكوراً و لم يتركها سوى على مشارف النجع , الأب بعد ذلك قرر أن يكون تاجراً بالتفكير ، و يتاجر في بدائل كثيرة ، وعديدة، يفكر للآخرين في مشاريع تجارية دون أن يكون له أدنى اشتغال بهذه المشاريع 0 الأستاذ رمضان شخصية تعيش – غالباً – على الأحلام ، وعلى الافتراضات ، فهو يفترض أنه شاعر كبير ظلمه المجتمع ، وظلمته تيارات الحداثة ، وأهمله النقاد ، ويعيش على أمجاد قديمة فارغة ، ثم أنه يعيش وهم الجنس و ممارسته بدلاً من الممارسة الحقيقية ، و يموت بشكل درامي دون أن يحقق شيئاً .. عادل القبطي أيضاً شخص نابه و لكنه عاطل ، ويعتبر إبناً روحياً لأبي جمال ، يلعب دور المساعد والحارس والخادم لهذه الشخصية / " المركز " ، و لكنه لا شئ 0 هناك فكرة مركزية في الرواية للشخصيات خارج العائلة ، وهي لكي يقبلها أبو جمال في دولته / منشأته ، لابد أن تنطوي على ضعف ما ، على خطيئة ، على زلة ما ، هذه الخطيئة يظل أبو جمال محتفظاً بها ، ولا يصرح بها إلا حين يأتي وقت الانتقام شخصيات لابد أن يكون شرط وجودها الانسحاق ، فالشيخ حسن زان ، والدكتورة عاهرة ، الراوي تلاعب بشروط العقد ، أما عادل فيكفي أنه قبطي ، شخصيات لم تعرف العدالة الطبيعية ، وأغفلتها بالتالي عدالة المجتمع البطريركي , وكأنها لعبة يديرها الراوي بذكاء وسخرية شديدة الإحكام 0 يكاد الحوار أن يكون غائباً ، وإن وجد فهو متخيل ، وهو مفترض أيضاً ، كأن الشخصية تتحايل على فن السرد ، فهو لا يتابع الشخصيات في غرفها الخاصة ، أو في مآزقها المتفردة ، ولكنه يستكمل دائرة للشخصيات بافتراضات خيالية ، مثال : شخصية " سيف " الذي حاول شقيقه جمال الراوي أن يتخلص منه بإدخاله مستشفى للأمراض العقلية ، فالراوي لا يصاحبه إلى المستشفى و لكنه يتخيل و يقول : " فعبرت عن تعاطفي معه بتخيل منظره في مستشفى المجانين كما رأيته في الأفلام ، و لأني بالفعل شديد التعاطف معه ظهر المشهد كاملاً و دقيقاً 00 سيف بملابس ناصعة البياض ، و شعر لابد أن يكون منكوشاً و سط مجموعة من المجانين ، يأخذ أحدهم سمات المحققين 00 " ، ثم يتخيل حواراً يجري بين المحقق و سيف 0 و هكذا يستخدم الراوي هذه التحايلات التي تتضمنها حوارات عادة ما تكون قصيرة ، حوارات لسد ثغرات النص ، و هذه الحوارات أيضاً تدخل ضمن الافتراضات – اللعبة الأثيرة لدى الراوي ، و أيضاً لكسر فكرة " الراوي الكلي المعرفة " ، بكل التفاصيل ، و ربما يحمل الشخصية وعياً أكبر من تجلياتها ن و أكثر من محتواها المفترض 0 أليست شخصيته افتراضية ؟! لأن الحقائق ليست مطلقة تحل هذه الرواية البدائل محل المطلقات ، و الافتراضات مكان الحقائق ، و الراوي المشارك مكان الراوي الكلي المعرفة ، ونخلص إلى القول : إن العالم يمكن هدمه و بناؤه ، ولا يوجد عالم ثابت ، وحقائق مطلقة0 فالحدث يمكن رؤيته بأكثر ممن زاوية ، والشخصية يمكن توزيعها في أدوار عديدة ، حتى المكان ليس جغرافياً ، بل هو تاريخ أيضاً ، المكان حمال لأيديولوجيته المجسدة في تكونه سياسياً واقتصادياً , والمجتمع تفسره وتحدده سلوكيات شخصياته وتوجهاتها ومساراتها ومصائرها المتعددة ، وليست الفضيلة كامل الخير وليست الرذيلة مستوفية لشروط الشر العالم ليس ثابتاً على شكل معين ، بل هو متغير بتغير وجهات النظر 0 أي أن العالم هو الذي نراه ، وليس العالم هو الموجود / الأنطولوجي ، والمجتمع فكرة متعددة الأوجه تتوزع بين فلسفات ومعتقدات وشروح وتفسيرات ، هناك الأشكال اللانهائية التي يمكن رؤية الحياة من خلالها.