طعم الزيتون لسحر توفيق

بقلم :فريد أبوسعدة

أول ما يُلاحظ على سطح النص في رواية (طعم الزيتون) لسحر توفيق هو هذه الجرأة التي تتمثل في القطيعة مع ما وصلت إليه الرواية الآن من تقنيات والعودة إلى التراث، لاختبار إمكان حبك الرواية على طرائق من السرد ألقى بها الجميع خلفهم وهم يلهثون وراء الجديد.سنلاحظ أيضاً أننا أمام واقع مطهّر من التفاصيل، كأنه الخلاء لاتتحرك فيه سوى أقنعة متمايزة، تمت تهيئة الصراع بينها فيما يشبه التراجيديا اليونانية.

هل نحن أمام مطلق ما؟ أعتقد هذا، وأعتقد أن الأب الغائب ـ الحاضر هو هذا المطلق الذي ينبغي له الاحترام والتقدير، ليس لأنه السبب في وجود الجماعة (الأبناء) فقط، بل لأنه منحهم البركة والاحترام بين الآخرين أيضاً.إنها مسألة الخلافة، وما يصاحبها من طقوس كالتوقير الزائد للأب الغائب، استخدام عباءته، التنقيب الدائم في كلماته باعتبارها مقدسة وتأويلها بما يناسب كل حال، ثم اشهارها في وجه الخصوم، بل والمزايدة بها على المتحدثين باسمه أيضاً!

تختار الكاتبة لحظة سيولة في حياة هذه الجماعة، لحظة لايبدو فيها الخليفة ـ وارث العباءة متمكناً بعد وقابضاً على زمام الأمور، لتقدم استعارة لقيام السلطة (أية سلطة) تفضح من خلالها ما يستره الظاهر من تشظي الباطن وتناقضاته. هناك خلل أولي، فالخليفة ـ وارث العباءة لايبدو الناطق الأهم ـ فضلاً عن أن يكون الأوحد ـ باسم الأب، ثم أن حجيته تبدو ناقصة،

فهناك شك في استحواذه على بيت الأب بطريقة مريبة، مما يجعل علاقته ببعض اخوته تقوم على التواطؤ، الأمر الذي يجعلهم في مركز وزراء لا يمكن عزلهم، أو مراكز قوى تتقاسم معه السلطة في السر. تبدأ الأحداث من جملة يقرر فيها الأب ـ الغائب أن القمح أهم من الأرز، وهاهم يتذكرونها في اجتماعهم الأول في مواجهة الأخ الأصغر (شاتل الأرز) وذلك في اختبار واضح للسلطة الناشئة. الأخ الأصغر لديه مزارع واسعة، ولا أبناء له،

وهو دائما مايخرج على الجماعة، ويضرب بتعاليم الأب عرض الحائط، هل يشي به السرد؟! هل يريد أن يقول لنا إن الغنى والنجاح هما ثمرة هذا الخروج أو التمرد. على أى حال ستبدأ المطاردة بغرض استعادة الجماعة هذه الشاة الضالة أو فقدها إلى الأبد، وسيتم ذلك باسم الأب في الحالتين !!

يمضي بنا السرد، قريراً هادئاً، يعرفنا ببعض أبناء الأب ـ الغائب، يحكي لنا عن (أبو البنات) وبناته التسع، عن (اللئيم) و(الساهي) وعن (جاحظ العينين) وابنيه (البنا) و(طالع النخل)، ثم يعرج بنا إلى نوادر العجائز قبل أن يعود إلى مساره مرة أخرى، فيحدثنا عن (الفارع) و(الوراقة) البنت التاسعة لأبي البنات، والسرد إنما يفعل ذلك من أجل تهيئة المسرح للصراع.

هناك تحالف السلطة الذي يقوم على التواطؤ بين رئيس الجماعة/ وارث العباءة وبين وزيريه (اللئيم) و(الساهي) وبمساندة (الفقير) أحياناً. وهناك تحالفات (الصغير) شاتل الأرز مع (الفقير) و(الفارع) و(الوراقة) و(جاحظ العينين)، وهى تحالفات هشة، حالمة أكثر من اللازم، وبينما يواصل الفارع والوراقة الحلم، فإن الروح العملية للصغير تدفعه إلى اختيار طريق السلامة، فيهادن ويدخل في مساومات مع السلطة يتنازل فيها عن بعض أرضه!!

لكن هذه التحالفات المضادة للسلطة، التي تنحاز إليها المعرفة (الوراقة)، تصبح أكثر خطراً حتى أن (الغادر) الذي تستأجره السلطة لقتل الصغير الآبق يدرك خطورة وجود المعرفة في هذه التحالفات، لذا فإنه بعد أن يفشل الجميع في زحزحة «الوراقة» عن موقفها يضرب ضربته المأسوية ملوثاً الوراقة وجاعلاً منها عاراً يتنصل منه الجميع.

تأتي بعد هذا القتل المعنوي للوراقة التصفية الجسدية بفأس أبي البنات، وفي مشهد بالغ التأثير يصبح وارث العباءة نافذاً بحق، ويأمر بنفي جسد الوراقة من البلد فيبقى سابحاً فوق الماء تناديه الشواطيء بلا جدوى، فقد غادرت المعرفة هذا العالم. بداية من الغلاف حتى الصفحة الأخيرة من المتن يضعنا السرد بين طعمين: طعم الزيتون وطعم الموت، وكأنهما قوسان يضمان فيما بينهما هذه الأمثولة الفاجعة،

يقول جاحظ العينين ـ زارع الزيتون ـ لابنيه (البنا) و(طالع النخل): «لا تسمحوا للكراهية أن تدخل قلوبكم كما فعلت بأخوتي، واعلموا أن الاختلاف هو الطبيعة التي يجب أن نتقبلها بلا كراهية، وكما تقبلتم مرارة الزيتون يوماً لأجل والدكم العجوز تقبلوا مرارة الاختلاف لأجل المزيد من المعرفة». (طعم الزيتون) نص له جماله الخاص، جمال تراهن به سحر توفيق على شعرية التجريد لا التفصيل، نص لا تتطلع فيه الذات الكاتبة إلى الغابة بل إلى البذرة التي تحمل في داخلها غابة.