الشاعر تميم البرغوثى يبحث عن إجابة صادقة لسؤال جارح

 قالوا لى بتحب مصر؟ قلت مش عارف
جريدة العربي


فى أيام نحيلة وحارقة مثل أيامنا هذه اعتلى شيطان الاستسلام كتفى رجل كان يحكم مصر وقاده إلى كنيسيت بنى صهيون وهناك تنازل حاكم مصر عن الماضى والحاضر والمستقبل وربح التصفيق!
فى اللحظة التى كانت فيها أضواء عدسات المصورين تبيض وجه حاكم مصر كان تميم مريد البرغوثى ابن خمسة أشهر وكانت أمه استاذة الجامعة رضوى عاشور قد علقت على حبل الغسيل، أقمتطه، سقط واحد منها، خرج أبوه لجلبه وهناك رأى ستة مخبرين فى سيارة مباحث أمن الدولة، صاح مريد فى رضوى لقد جاءوا.
فى بوادبست عاصمة المجر التقى الثلاثة: الفلسطينى حامل الهوية الأردنية مريد البرغوثى وابنه الطفل تميم ثلاثة عشر شهرا، وأمه المصرية أستاذة الجامعة رضوى عاشور، نادى تميم أباه عمو ضاحكا هل ضحك فعلا؟ صحح الأب الأمر للابن أنا مش عمو يا تميم أنا بابا.
راح الابن ينادى أباه عمو بابا.
هذا ما كان من أمر تميم ابن الثلاثة عشر شهرا، وحدثنا به أبوه فى كتابه الفرد الفذ رأيت رام الله. ثم دار الزمان دورته وجرت فى النهر مياه عكرة حتى كان يوم اعتلى فيه شيطان الخراب كتفى حاكم أمريكا بوش الصغير وقرر إعادة العراق إلى ما قبل العصر الحجرى.
تميم الذى يعلم عن الخراب والنفى الكثير قرر المشاركة فى مظاهرة جمعها ميدان التحرير بقلب القاهرة احتجاجا وليس أكثر على تدمير أمريكا للعراق، من قلب قلب المظاهرة، هجم عليه الذين سبق لهم الهجوم على أبيه ونفوه إلى الأردن.
كانت سنوات تميم تحبو نحو الثلاثين حاملا على كتفيه قصص المنافى كاملة و روايات الدمار غير منقوصة.
فى عتمة البعد عن الأهل والأصحاب وحضن الأم ومهابة الأب ولد فى قلب تميم السؤال الجارح قالوا لى بتحب مصر؟، ومع السؤال كانت الإجابة الجامعة المانعة الصادقة: قلت مش عارف.
هذا السؤال ومعه إجابته كانا حجر الزاوية للمجموعة الشعرية الثالثة لتميم البرغوثى.
يبدأ تميم قصيدته بقوله قالوا لى بتحب مصر من هم الذين سألوا شاعرنا هل هم أهله، أصحابه، أيامه، لياليه، هواجسه، أحلامه، أشواقه، ذكرياته؟
إنه يترك الأمر بدون تحديد عامدا، فالمهم هو السؤال لا السائل والأكثر أهمية هى إجابة الشاعر، باختصار صادق يجيب شاعرنا قلت مش عارف. هل لا يعرف الرجل لماذا يحب أمه؟
نعم عندما تكون أمه مصر.
أنا لما أشوف مصرع الصفحة بكون خايف/ مايجيش فى بالى هرم مايجيش فى بالى نيل/ مايجيش فى بالى غيطان خضرا وشمس أصيل/ ولا جزوع فلاحين لو يعدلوها تميل/ حكم الليالى ياخدهم فى الحصاد ومحاصيل/ بيلبسوهم فراعنة ساعة التمثيل/ وساعة الجد فيه سُخرة وإسماعيل.
إن كل الصور التى تستدعيها الذاكرة عند ذكر كلمة مصر وبرغم جمالها لا ترد على ذهن تميم، إنه رجل صادق يرفض الصور الجاهزة المعلبة إنه يريد صوره هو وأحاسيسه هو ولذا فلا يرد على باله.
العبور وسفارة إسرائيل/ الحضارة اللى واجعة دماغنا جيل وراجيل/ قالوا لى بتحب مصر أخدنى صمت طويل/ وجت فى بالى ابتسامة وانتهت بعويل.
لقد قضى الأمر الذى استفتى تميم قلبه فيه، مصر ابتسامة نهايتها عويل والحال هذه كان لابد وأن يعود تميم إلى تلك اللحظة التى أصبحت فيها الضفة بلدا أجنبيا.
أمى وأبويا التقوا والحر للحرة/ شاعر من الضفة برغوثى واسمه مريد/ قالوا لها ده أجنبى ما يجوز بالمرة/ قالت لهم يا العبيد اللى ملوكها عبيد من أمتى كانت رام الله من بلاد برة.
ثم كان أن تحرر ميدان التحرير ليلة بمظاهرة، وفى قلبها كان الحسين وابنه على بن الحسين وابن شقيقه القاسم بن الحسن وشقيقه العباس بن على وأخته عقيلة بنى هاشم زينب بنت على، كانوا جميعا وعلى رأسهم: أم هاشم بترمى حجارة فى الأزهر/ وشفت أخوها الحسين وابنه على الأكبر/ وشوش فى وسط المظاهرة أو صور بتفوت/ يا إماهم يا إما ناس شبههم موت/ والله والله كانوا بيهتفوا معايا/ أما ضحايا قنابل أو ضحايا سكوت.
أصحاب النفوس الكبيرة كنفس تميم تخترق بصائرهم الحجب وترى الحقيقة فى بهاء عريها، لا يستوقفهم المعارض ولا تعمى القشور أبصارهم ولكل ذلك يكتب تميم عن عسكرى الأمن المركزى وعسكرى الأمن تحت الدرع متبعتر/ حيران وخايف وجاء من البلد أخضر/ محبوس ما بين السما والأرض والظابط/ عاطينى درع وعصاية ولبس مش ضابظ/ والخوذة مايلة وعلى راسها لمقاس واسع/ حاطنيه فى العلبة والظابط عليه رابط/ عايزينه عفريت بخض الخلق فى الشارع/ ابص فى عينه ألاقى ميت ولد تايهين/ أحس لو أبص لى إنى لقيت صاحب ويهرب البسمة تحت الخوذة ويحاسب/ ضابط يشوفه يخلى له النهار أغبر/ ويقول له اضرب فيضرب قبل ما يفكر/ لأنه عارف إذا فكر ها يتدير!.
بعقل أيقظته الجروح يتنقل تميم من الآن مظاهرة التحرير إلى الماضى القريب لقاء أمه وأبيه ومظاهرات الطلاب فى مطلع السبعينيات وقصيدة أمل دنقل الكعكة الحجرية إلى الماضى البعيد يوم كربلاء القائم دائما وأبدا تحت جلودنا، ثم يقفز إلى مستقبل مشوش مفتوح على ألف احتمال واحتمال مقررا مثل عمه الراحل الكبير صلاح عبدالصبور أن الدودة فى أصل الشجرة وعلى منواله ينسج تميم لو السقوف خايخة نسندها بحجارة وطوب/ لكن ده لوح القزاز كُله ضرب تشريخ/ لوالولد حرّف الآية، ها يبقى يتوب/ بس المصيبة إذا الآية اخترعها الشيخ/ يا مصر يا كل ضد وضد مجتمعين/ يا قلعة السجن يا قلعة صلاح الدين/ أنا بقولك وأهلى ع الكلام شاهدين/ لو كنت حرة ما كُناش نبقى مُحتلين.
وكأن الارتحال بين الحاضر والماضى والمستقبل قد أرهق تميمًا فعاد إلى سؤاله الرئيسى قالوا لى بتحب مصر.
وقدم آخر ما عنده من إجابات.
قلت مش عارف/ لا جيتها سايح ولانى أعمى مش شايف/ ولانى هايف أرد بخفة وبسرعة/ وكل من رَدّ يا كذاب يا هايف/ أصل المحبة بسيطة ومصر تركيبة/ ومصر حلوة ومُرة وشِرحة وكئيبة/ ده أنا اختصر منصب الشمس وأقول شمعة/ ولا اختصر مصر وانده مصر يا حبيبة.
انتهت الإجابات ليخرج من رحمها سؤال أشد قسوة لا علاقة له بشعر تميم بل بحياته: هل حصل تميم على الجنسية المصرية، أم أن اسمه مازال على قوائم الترحيل؟