البحث عن كافافيس

وليد سليمان - موقع ميراد الثقافي . هذه الحجرات المظلمة، حيث قضيت أياما مريرة، أروح وأجيء بحثا عن النوافذ… كافافيس*

-1-

لم يكن من السهل العثور على متحف “كافافيس”، شاعر الإسكندرية الكبير، في ذلك اليوم القائظ، رغم أن شهرته العالمية قد جعلتني أظن العكس. كنت أتصور أن أيا من المارة أسأله عن المكان، سيدلني عليه بسهولة، ولكني لم أتصور أبدا أن تكون مهمة البحث عن كافافيس، في بلده، الإسكندرية، بتلك الصعوبة. لقد قضيت أكثر من ساعتين وأنا أبحث عن الشارع الذي يوجد فيه المتحف. وهو وقت كان كافيا ليجعلني أشك في وجوده أصلا بعد أن أكد لي أهالي الإسكندرية بيقين مُقنع أنهم لم يسمعوا أبدا بوجود مكان كهذا ولا بوجود شاعر اسمه “كافافيس “.

-2-

ما كنت لأعثر على المكان في نهاية الأمر لولا مساعدة شاب اسكندراني تعرفت عليه صدفة في مطعم شعبي. كان هو أيضا اسمه وليد، وحين عرف أنني أبحث عن المتحف لزيارته، صارحني أنه لم يسمع بوجوده أبدا، ولكنه سيساعدني في العثور عليه. انطلقنا، أنا ووليد، مشيا، في اتجاه “محطة الرمل”- وهو الاسم الشعبي لساحة سعد زغلول- متبعين الكورنيش المحاذي للبحر. وحين وصلنا إلى شارع النبي دانيال (حسب توضيحات الدليل السياحي الذي كان بحوزتي Le Guide du Routard)، بدأنا نسأل المارة وأصحاب الدكاكين وكل من يعترض سبيلنا عن متحف كافافيس، غير أن كل الإجابات كانت تصب في واد واحد : لا أحد قد سمع بكافافيس أو متحفه… حتى أن أحد المارة قد سألني بجدية: - ما الكافافيس؟ هل هي جمع لكافاف؟ وعندما أوضحت له أن “كافافيس” هو اسم أكبر شاعر أنجبته الإسكندرية سألني: - وهل كان يبيع الكافافيس؟ قلت بيني وبين نفسي انه لا فائدة من مواصلة الكلام مع هذا المواطن المهووس بالكافافيس، واستأذنته بحزم بعد أن شكرته على معلوماته المفيدة.

-3-

لا أعرف إن كان يوجد في مصر شيء اسمه “كافاف” أو “كافافيس”، ولكن كان ذلك من الأسباب التي زادت في شكي في وجود المتحف، حتى أني كدت أتوقف عن البحث، لولا أن الدليل السياحي الذي كان معي قد أعطى معلومات دقيقة متعلقة بالمتحف، فضلا عن كوني قد قرأت قبل سنوات، في إحدى الجرائد الاسبانية، مقالة للكاتب البيروفي الشهير ماريو بارغاس يوسا يتحدث فيها عن زيارته للمتحف. وعندما بدأ اليأس يتسلل إلينا، وجدنا أنفسنا بمحض الصدفة في شارع صغير قليل الحركة يوجد في نهايته دكان حلاق. كان صاحب الدكان منهمكا في حلاقة الشعرات القليلة المتبقية في رأس زبون أصلع عندما سألناه إن كان يعرف أين يوجد متحف كافافيس. بدا الاستغراب على وجه الحلاق إلى درجة أنه توقف عن الحلاقة وخرج من دكانه ليدلنا على المكان: “أول دورة على اليمين”. شكرناه كثيرا ونحن نشك في قرارة أنفسنا أننا قد عثرنا على المكان في النهاية بتلك البساطة…

-4-

ما كدنا نمشي قليلا حتى وجدنا أنفسنا أمام بناية صفراء قرأنا في واجهتها بارتياح اسم “كافافيس” على لافتة من رخام تشير إلى وجود متحفه في الطابق الثاني. كان واضحا أن المبنى يلقى عناية خاصة وأنه قد تمت إعادة صيانته بالكامل، وهو ما يتعارض مع الحالة السيئة التي كانت عليها المباني القديمة في الإسكندرية. وكان المدرج، الذي صعدنا درجاته بسرعة ونفاد صبر، شديد النظافة. عندما وصلنا إلى الطابق الثاني ظننا أن المتحف مغلق في بادئ الأمر، لأن الباب الخارجي كان مغلقا ولم يكن هناك أي شيء في الداخل يوحي بوجود أحد. ولكن ما إن ضغطت على الجرس حتى انفتح الباب، ووجدتني في مواجهة شاب أسمر يرتدي بدلة أنيقة وربطة عنق استقبلنا. كان اسمه محمد السيد وهو يشرف على المتحف منذ 15 عاما أي منذ تأسيسه في العام 1992. وعندما وصلنا كان منهمكا في وضع اللمسات الأخيرة لمنحوتة تمثل وجه “كافافيس” صنعت من الصلصال، وكان أحد أصدقائه قد بدأها ثم سلمه إياها لكي يقوم بإتمامها. وعندما عرف المشرف على المتحف أني تونسي وضع المنحوتة جانبا وقرر أني يرافقني في جولة في المتحف ويعطيني معلومات عن المكان. كان أول سؤال خطر ببالي وأنا أتجول في المكان هو ما إذا كان يتذكر زيارة الكاتب البيروفي ماريو بارغاس يوسا. بدا أن محدثي لم يكن متأكدا من الاسم، فعشرات الأشخاص قد مروا بالمكان. غير انه بعد التفكير قليلا، توقف لحظة، وسألني بحماس: “هل يتحدث الاسبانية؟”. قلت: “نعم”. وحينئذ ، طلب مني أن انتظر قليلا. ثم عاد بعد لحظات وهو يحمل دفتر الزوار. وفتح أمامي الدفتر مشيرا إلى توقيع يوسا بفخر وهو يقول: “أذكره جيدا…لقد كان شخصا أنيقا وفي غاية اللطف”.

عندما نظرت في الدفتر كان أكثر ما لفت انتباهي هو أن كل زوار المتحف تقريبا كانوا من الأجانب: اسبان، فرنسيون، يونانيون، ايطاليون… الخ …ولم أكد أجد أثرا لتوقيع بالعربية. إلا أن محدثي أكد لي أن بعض الكتاب العرب الكبار قد زاروا المكان، مثل أدونيس، وسعدي يوسف الذي ترك له نسخة مهداة من ترجمته لأشعار كافافيس، ومحمود درويش الذي أتى مرة برفقة الشاعر أحمد الشهاوي…

-3-

حسب ما ورد في دليل المتحف، تم تدشين المكان في 16 نوفمبر 1992، وهو المنزل الذي عاش فيه الشاعر الخمس وعشرين سنة الأخيرة من حياته. كان الشارع الذي يوجد فيه المبنى يسمى في حياة “كافافيس” Rue Lepsius على اسم مهندس فرنسي شهير، قبل أن يتحول اسمه إلى شارع “شرم الشيخ”. أما الحي الذي يوجد فيه بيت كافافيس فقد كان يشتمل على الكنيسة الأرثوذكسية اليونانية والمستشفى اليوناني ومواخير المدينة. وهذه المعلومة الأخيرة (المواخير)، لم يقلها لي المشرف على المتحف (ربما حياءا)، إلا انه أراني من النافذة المبنى الذي كان في الأصل مستشفى الجالية اليونانية في الإسكندرية.

-4-

رغم التحسينات العديدة التي أدخلت على بيت كافافيس ورغم تغيير بعض الأثاث الذي تم تعويضه بأثاث مشابه للأثاث القديم، إلا أن الزائر يحس في المكان بعبق الماضي وأنفاس كافافيس…

في إحدى الغرف تم الاحتفاظ بمرآة حائط كانت ملكا لـ”كافافيس” تجاوز عمرها المائة عام وتآكلت من كل مكان بفعل الزمن. إلا انه مع أشعة النور الخافتة التي تمر عبر ستائر النافذة يخيل للإنسان انه يرى وجه “كافافيس” فيها وهو يبتسم لزائره مرردا:

دون تقدير، دون رأفة، دون خجل
شيدوا جدارا كبيرا وعاليا حولي.
والآن اجلس هنا يائسا
ولا أفكر في شيء آخر: هذا القدر ينخر ذهني؛
فلي أشياء كثيرة أريد فعلها في الخارج.
آه، لماذا لم انتبه عندما كانوا يشيدون الجدران.
ولكني لم أسمع أي ضجيج أو صوت يصدر عن البنائين.
دون أن أتفطن إلى ذلك عزلوني عن العالم الخارجي.*

الواقع انه رغم أن اغلب أثاث البيت الأصلي قد تم بيعه إلا أن الأجواء الأصلية لبيت الشاعر قد أعيد خلقها بعناية بفضل ما يتذكره أصدقاء الشاعر وبالاستناد إلى بعض الصور الفوتوغرافية القديمة. ويحتوي المكان أيضا، بالإضافة إلى كتب أشعار “كافافيس” المترجمة إلى عديد اللغات والدراسات التي كتبت عنه، على بعض الكتب التي كانت موجودة في مكتبته. كما أضيفت إليه عديد اللوحات والأعمال الفنية التي تخلد ذكر شار الإسكندرية.

-5-

تم تحويل بيت كافافيس اثر موته إلى فندق رخيص، وقد ظل كذلك إلى أن قامت “اللجنة الدولية لكافافيس” - لحسن الحظ - بتأجيره وتحويله إلى متحف بعد أن أضيفت بعض المحتويات القديمة إلى المنزل ومكتبة الشاعر التي احتفظ بها الباحث الأكاديمي جورج سافيدس.

كان من بين الأسباب التي دفعتني لزيارة الإسكندرية هي المكتبة الشهيرة ومتحف كافافيس… والواقع انه حتى وان كانت زيارتي لهذه المدينة المتوسطية الجميلة لمجرد التعرف على هذين المعلمين ، فاني اعتبر ذلك كفاية.

* قصيد “جدران” ترجمة وليد سليمان