أسمهان كما رواها أمير الصحافة محمد التابعي في أوراق لم تنشر

محمود صلاح - أخبار الأدب - مايو 2007

لم تكن أسمهان مجرد مطربة موهوبة في عصرها فقط . لكنها كانت صوتا ساخرا من القمر وقصة مثيرة علي الأرض . عرفت أسمهان طعم الفقر .. لكنها عاشت حياة الأميرات . كانت صاحبة ضحكة رائعة ..لكن عيناها كانتا بئري أحزان ودموع . كانت حياتها قصيرة . لكنها عاشتها حتي الثمالة .. ولدت في البحر .. ولقيت مصرعها غرقا في ترعة! ولاتزال لأغانيها وستظل تدغدغ القلوب .. ومأساتها تدمي العيون . وليس هناك انسان يستطيع أن يروي قصة حياة اسمهان . أو الأميرة آمال الأطرش أكثر من أمير الصحافة المصرية محمد التابعي . الذي عرفها وأحبها وأحبته . والذي سجل قصة حياتها في حلقات نشرها في مجلة - آخر ساعة - . ثم وضعها في كتابه الوحيد عنها - مذكرات أسمهان - . لكن السيدة هدي التابعي حرم الأستاذ التابعي . كانت قد قدمت لي كنزا من أوراقه التي نشرت . والتي لم تنشر . ومن بين هذه الأدوات عثرت علي سيناريو باللغة الانجليزية . كتب فيه محمد التابعي ملخصا لحياة أسمهان . بعد أن قام بتغيير الأسماء الحقيقية . فأعطي أسمهان اسم - اصفهان - . وسمي نفسه - وهبه - . وهو الاسم الرمزي الذي كانت أسمهان نفسها ترسل عليه خطاباتها إلي محمد التابعي . وقد كتب محمد التابعي مقدمة لقصة حياة أسمهان قال فيها : جميع الأسماء المذكورة هنا تعتبر وهمية . ولكن هذه القصة حقيقية بالفعل فهي في الواقع جزء من التاريخ الخفي للحرب العالمية الثانية في منطقة الشرق الأوسط . أما قصة أسمهان والتي حملت أكثر من اسم مثل - آمال - و - إيملي - فقد كتبها التابعي وقال فيها :

ولدت الأميرة ايملي يوم 25 نوفمبر 1915، وتوفيت غرقا يوم 14 يوليو 1944 لقد كانت جميلة وذات صوت عميق ساحر. وقامت ايملي بأداء دور البطولة في فيلمين .. أولهما -انتصار الشباب - . أما فيلمها الثاني والأخير فقد كان - غرام وانتقام -، الذي انتج عام 1943 وعرض بعد وفاتها . وعندما عرض هذا الفيلم في احدي دور السينما في بغداد .. حدث أن خرج شاب عراقي من السينما بعد انتهاء عرض الفيلم واشتري جريدة مسائية .. وما أن قرأ فيها خبر وفاة ايملي.. حتي أخرج من جيبه مسدسا ، وأطلق الرصاص علي رأسه ! وفي نفس الوقت .. قام شاب سوري آخر في دمشق .. فور سماعه خبر وفاة ايملي بتجرع السم .. لكنهم أسعفوه ونقلوه بسرعة الي المستشفي حيث تمكن الأطباء من انقاذ حياته !


عام 1925 .. اندلعت ثورة الدروز في سوريا ضد الفرنسيين الذين أعلنوا الانتداب علي البلاد .. وضربوا جبل الدروز وقراهم بالقنابل .. وقتها كانت ايملي في العاشرة من عمرها .. كانت جميلة وتتمتع بصوت أخاذ .. لكن غناءها كان حزينا جدا ومليئا بالشجن ، وكأنها كانت وهي طفلة تشعر بأن نهايتها سوف تكون حزينة وعنيفة!

وعندما اندلعت ثورة الدروز .. أخذتها أمها الي بيروت مع شقيقتها .. ومن هناك انتقلوا الي القاهرة ، وعاشوا علي ثمن مصوغات والدتها لمدة شهور ..لكنهم بعد ذلك بدأوا يعانون من الجوع ! كانت الطفلة ايملي مريضة .. وكانت ترتدي شبشبا خفيفا في قدميها ، عندما كانت تمشي في شوارع القاهرة الموحلة بتأثير الأمطار .. وكبرت وهي تحمل رئة ضعيفة . وبدأت الأم تحيك الملابس للجيران .. وبذلك أصبحت الأسرة تكسب نقودا تكفي لشراء ضروريات الحياة .. وكانت الأم -بسيمة- ذات صوت جميل .. واعتادت أن تغني وهي تعمل علي ماكينة الحياكة . وكان يعيش بجوارهم موسيقي وعازف معروف يدعي ديفيد .. وسمع ديفيد غناء الأم فقام بزيارتها ، وسألها ان كانت علي استعداد لتسجيل بعض الأغاني التي سوف يمنحها لها .. وعرض عليها أن تأخذ عشرة جنيهات عن كل اسطوانة . وبالطبع قبلت الأم هذا العرض بكل سرور .. وهكذا استطاعت أن تشتري الملابس لها وللصغيرة ايملي ، التي التحقت باحدي المدارس الفرنسية المنتشرة في القاهرة في ذلك الوقت .

*** وذات يوم زار الموسيقي ديفيد الأسرة .. وكانت الصغيرة ايملي قد عادت من المدرسة ، وكانت تغني وهي تغسل ملابسها في الحمام . ودهش ديفيد لجمال وعمق وحزن صوتها ! وقبل أن يغادر البيت كان قد تعاقد مع الصغيرة ايملي علي تسجيل بعض الأغاني علي اسطوانات .. علي أن تتقاضي عشرة جنيهات عن كل اسطوانة ، وهو نفس المبلغ الذي كانت تتقاضاه أمها ! وسرعان ما ذاع صيت ايملي كمغنية .. وفي أحد الأيام عادت من المدرسة الي البيت وعيناها محمرتان من كثرة البكاء .. وقالت لأمها والدموع تنحدر من عينيها : ان زميلاتها في المدرسة سخرن منها لأنها مغنية محترفة .. وأعلنت وهي تمسح دموعها أنها لن تعود الي المدرسة أبدا !

*** كان ذلك عام 1930 .. وكانت ايملي وقتها في الخامسة عشرة من عمرها . وهكذا تركت المدرسة نهائيا وبقيت في البيت ، وتحسن عقدها مع شركة الاسطوانات ، واصبحت تتقاضي 20 جنيها عن كل تسجيل . وفي عام 1933 .. حضر الي القاهرة ابن عمها الأمير حسن .. وذهب مباشرة الي شركة الاسطوانات .. ومن هناك حصل علي عنوان الأسرة .. وفوجئت الأم بظهور الأمير حسن .. الذي بدا في شدة الغضب .. لكنه طلب يد ايملي للزواج ، ولم تكن الأم ترغب في أن تفقد الدجاجة التي تبيض ذهبا .. فردت عليه بكل رزانة . ان البنت .. ماتزال صغيرة جدا علي الزواج ! لكن الأمير حسن هدد بأنه سوف يعود الي جبل الدروز .. ويبلغ العائلة بأن ايملي احترفت الغناء. وقال للأم : وبالتأكيد .. فانهم سوف يرسلون أحد أفراد العائلة لقتلك .. وقتلها ! وهكذا اضطرت الأم الي الموافقة .. ودفع الأمير حسن لها 500 قطعة ذهبية .. ووعد بان يرسل لها 15 جنيها كل شهر .. وهكذا تزوجت ايملي من ابن عمها الأمير حسن .. الرجل الذي لم تحبه .. ورحلت معه الي جبل الدروز حيث عاشت كأميرة !

***

في العام التالي .. حملت ايملي وأنجبت طفلة أسمتها كريمة .. لكنها بعد شهرين طلبت من زوجها الطلاق .. لكن الأمير حسن رفض لأنه أحبها .. فقالت أنها سوف تنتحر اذا لم يطلقها .. فاضطر للموافقة مرغما عندما تأكد من نيتها .. وعادت ايملي الي القاهرة .. وكانت أمها سعيدة لأنها تستطيع الآن أن تحصل علي المزيد من النقود! أصبحت ايملي تغني في الملاهي الليلية تحت اسم -اصفهان-. وكانت تظهر علي المسرح دائما وهي ترتدي الأسود .. وهو اللون الذي أظهر بياض وجهها .. وكانت عيناها خضراوين لامعتين ذات رموش طويلة . وكثيرا ما حاول أصحاب هذه الملاهي أن يقنعوها بمجالسة زبائنهم الأغنياء ، لكنها كانت دائما ترفض بشدة ، وسرعان ماذاعت شهرتها في القاهرة وأنحاء مصر .. وزاد الطلب علي تسجيلاتها الغنائية وبيعت بآلاف الجنيهات . وفي احدي الليالي تلقت ايملي باقة زهور جميلة ومعها رسالة وكانت هذه الرسالة من صحفي لامع كتب يقول : انه أحب صوتها وانه يحترمها لرفضها مجالسة الرجال .. ولكن هل لها أن تقبل تناول الغداء يوما ما في أي مطعم .. وبامكانها أن تحضر معها صديقة أو اثنتين اذا ارادت .. وأنهي الصحفي رسالته قائلا : -انني ليس لدي أية نية سيئة علي كل الأحوال -!

***

وقبلت ايملي دعوة الصحفي اللامع .. وتناولت معه الغداء مرة ثم مرتين .. وتحول ذلك الي موعد يومي .. وكانت دائما تذهب لمقابلته بمفردها .. لأنها وثقت به .. وبعد مرات قليلة من هذه اللقاءات وقع حبه في قلبها .

وذات مساء .. وأثناء خروجها من الملهي الليلي الذي تغني فيه .. طلبت منه أن يصطحبها الي شقته حيث يمكنها تناول العشاء متأخرا .. وكان هو مسرورا وفي غاية السعادة من ذلك ! وفي شقته سألته ما اذا كان لديه بعض الويسكي أو الشمبانيا. فقال لها متبسما : الاثنين ! وأخبرته أنها ورثت صوتها الجميل عن أمها أما عن والدها الراحل فقد ورثت منه حب شرب الخمر .. وهكذا ظلت تحتسي الكثير من الويسكي . فسألها : لماذا تشربين كثيرا ؟ أجابته ضاحكة : ان قلبي يتحطم عند رؤيتي الكأس فارغا .. ويتحطم عند رؤيتي للكأس مليئة .. لذا علي أن أملأه وأشربه! وقضت أصفهان الليلة في بيته .. وفي اليوم التالي أحضرت ملابسها وأحذيتها لتقيم مع الرجل الذي أحبته . ولم تعترض أمها لأنها كان لها أيضا حبيب .. لم تستطع أن تخفيه عن ابنتها ! وهكذا أصبحت ايملي أو اصفهان حبيبة الكاتب الصحفي .. وللمحافظة علي المظاهر اشتري لها خاتما ذهبيا لبسته .. وأذاعا بين أصدقائهما أنهما مخطوبان وسوف يتزوجان في نهاية العام .

***

حدث ذلك كله في مارس 1939 .. وكان عمر ايملي وقتها 24 عاما .. بينما كان الكاتب الصحفي وهبه في الأربعين من عمره . ثم اندلعت الحرب العالمية الثانية في سبتمبر 1939 واستمرت ايملي أو أصفهان ووهبه في الذهاب الي الحفلات والأندية الليلية .. لكنها لم تعد تغني في هذه الأندية .. وكانت فقط توافقه علي أن تغني في حفلات خاصة في المنازل .. مثل حفلات الزواج وما شابه .

ومضي عام 1940 ..

وقالت ايملي لوهبه انها لا تستطيع الاستمرار في العيش معه كحبيبة فقط .. فقد كانت تنحدر من عائلة كريمة .. وكان العديد من أفراد المجتمع في القاهرة يعرفون عائلتها . وباختصار فقد كانت تشعر بالعار من هذه الحياة ومن نفسها لكن وهبه رفض الزواج منها ، وكانت النتيجة أنهما انفصلا ، رغم أن كلا منهما كان لايزال يحب الآخر !

وفي مساء يوم 20 مايو 1941 .. عاد وهبه الي شقته ليجد ايملي جالسة في حجرة المعيشة وهي تحمل في يدها كأسا من الويسكي .. فقد كانت معها نسخة اضافية من مفتاح الشقة ! وظن وهبه أنها جاءت لتعيش كما كانا من قبل .. لكنه سرعان ما عرف السبب ..فقد جعلته يقسم علي القرآن أن يحفظ سر ما سوف تقوله له .. ثم أخبرته أن السيد فورمان من السفارة البريطانية في القاهرة .. قابلها في حديقة فندق الكونتينينتال .. وطلب منها أن تزوره في مكتبه .. وعندما ذهبت اليه في الصباح .. اصطحبها الي بيته .. وقدمها الي السيد روبرت بلوم .. والذي كان اسمه الحقيقي لورد كليفترن رئيس المخابرات الحربية في الشرق الأوسط. وأبلغها روبرت بلوم أن زوجها السابق الأمير حسن مازال يحبها وسألها ان كانت مستعدة لمساعدة الحلفاء ضد النازيين وحلفائهم حكومة فيشي ؟ أجابته أصفهان : نعم . فقال لها روبرت بلوم ان الأمير حسن والدروز كانوا يساعدون حكومة فيشي في سوريا .. وأن دورها سيكون اقناع الأمير حسن وقادة الدروز بالانقلاب ضد قوات حكومة فيشي والوقوف الي جوار الحلفاء .. الذين كانوا يستعدون لمواجهة قوات فيشي في لبنان وسوريا . وسألها روبرت بلوم : هل بامكانك القيام بذلك ؟ ردت أصفهان : أنا واثقة من قدرتي علي القيام بهذه المهمة ! فأعطاها 500 جنيه لتسدد ديونها في القاهرة .. ولتستقل القطار في اليوم التالي الي القدس .. حيث ستقابل السيد -تويدي- والذي سوف يزودها بكل التعليمات اللازمة .. وكذلك الأموال التي سوف تقدمها للإمير حسن وقادة الدروز . ولهذا جاءت الي شقة وهبه لتحكي له السر الخطير .. وفوجيء وهبه بأنها تحكي له كل شيء . سألها بابتسامة ساخرة : هل تريدين أن تصبحي ماتا هاري الحرب العالمية الثانية ؟ أجابته أصفهان والدموع في عينيها .. بأنه منذ رفض الزواج منها لم يعد امامها أي خيار سوي الرجوع الي زوجها السابق وابنتها .

وقضت تلك الليلة معه .. وفي صباح اليوم التالي ذهب لوداعها في محطة القطار !

***

وصلت اصفهان الي القدس .. وتوجهت مباشرة الي فندق الملك داود .. حيث سألت عن الجناح الملكي وأقامت به .. وسألت عن السيد -تويدي- الذي حضر وقابلها وأنهي كل شيء معها .

وفي صباح اليوم التالي .. استقلت سيارة حربية وكانت تحمل معها 10 آلاف جنيه ذهب .. وتوجهت الي جبل الدروز حيث رحب بها الأمير حسن ، وسألته اذا كان مستعدا لمساعدة الحلفاء ضد قوات فيشي .. فأجابها بأنه مستعد لذلك .. ولكن بشرط واحد هو أن تتزوجه مرة ثانية . فوافقت أصفهان ! لكن مخابرات فيشي علمت بكل ما حدث .. وأسرعوا للقبض عليها .. لكن الأمير تاريس أحد زعماء القبائل في صحراء سوريا سمع بذلك .. فاسرع الي اصفهان وأخبرها بخطورة بقائها وعرض عليها مساعدتها في الهروب والعودة الي القدس .. حيث يمكنها أن تبقي هناك ثم تعود مع قوات الحلفاء .. وهكذا صبغت أصفهان وجهها الأبيض باللون الاسود .. وتنكرت في ملابس عبد صغير ! وبدأت رحلة هروبها .. وامتطت أصفهان صهوة حصان وتبعت حصان الأمير تاريس .. ونجحا في اختراق الجبال عبر دروب سرية غير مطروقة في الصحراء عائدين الي القدس . وفي القدس كان السيد -تويدي- سعيدا بنجاح مهمة أصفهان وبالفعل بعد أسابيع قليلة عادت بصحبة قوات الحلفاء الي جبل الدروز ، وحافظت علي وعدها وتزوجت الأمير حسن ابن عمها ، وكانت قد حصلت في الأصل من المخابرات البريطانية علي 40 ألف جنيه ذهب لتوزعها ..لكنها وزعت فقط 10 آلاف جنيه واحتفظت بالباقي لنفسها !

***

وأقيم حفل شبه اسطوري بمناسبة زواج أصفهان والأمير حسن .. وحضر الحفل كبار الضباط والقادة في قوات الحلفاء .. وأرسلت أصفهان برقية لوهبه في القاهرة .. تخبره فيها أنها تزوجت فقط لتساعد الحلفاء .. ولكن - أنت حبي الأول والأخير وللأبد - . وبعد مرور بضعة أسابيع تلقي وهبه برقية أخري من أصفهان .. تقول فيها أنها مريضة جدا ولابد من اجراء عملية جراحية لها .. وتسأله - هل يمكن أن تحضر الي القدس لتراني قبل وفاتي -؟! هكذا استقل وهبه القطار مباشرة .. ووصل القدس في الصباح وتوجه مباشرة الي فندق الملك داوود .. حيث علم أن أصفهان تقيم في الجناح الملكي بالطابق الثاني .. فركب المصعد وضغط علي زر جرس الجناح .. ليفاجأ بأصفهان نفسها تفتح له الباب ! وعندما شم وهبه رائحتها وجدها مخمورة ! فاستشاط غضبا لأنها خدعته وجعلته يترك عمله في القاهرة . وسألها : هل تشعرين أنك بصحة جيِدة وأنت مخمورة ؟ طوقت أصفهان عنقه بذراعيها وسحبته إلي غرفة الجلوس.. وأغلقت الباب وانهالت عليه بالقبلات .. وقالت له أن تلك كانت الطريقة الوحيدة التي تجعله يأتي إليها! *** كان وهبه مرهقا من طول السفر، لأنه لم يستطع النوم في رحلة القطار .. فأعدت له أصفهان غرفة مجاورة آوي اليها لينام .. واستيقظ في الرابعة بعد الظهر وأخذ حماما وارتدي ملابسه وذهب اليها. وجدها مستلقية علي الأريكة .. وكانت أمامها زجاجة ويسكي وبعض زجاجات البيرة .. وسألها : هل تشربين والشمس مازالت مشرقة ؟ ردت عليه : ولم لا ؟ قال لها: لا يجب علي المرء أن يشرب قبل المساء . نهضت أصفهان من علي الأريكة .. وذهبت الي النافذة وأغلقت الشيش وأنزلت الستائر ثم أغلقت مصابيح الاضاءة . واستدارت لتتدلي له ضاحكة : حبيبي .. اننا الآن بالليل ! وجلس الاثنان يشربان الويسكي ! ثم تناولا طعام العشاء معا في غرفة المعيشة .. وأخبرته أنها أنفقت ما يزيد علي خمسة آلاف جنيه في شهر واحد .. حيث استأجرت منزلا كبيرا مفروشا في بيروت .. لأنها لا تستطيع الحياة في الجبل .. وكان الأمير حسن غاضبا لعدم بقائها في الجبل .. وفي نفس الوقت لا يستطيع البقاء معها في بيروت .. بسبب مسئولياته كأمير وحاكم للدروز . وفجأة قالت أصفهان لوهبه : أعلم أنك مديون .. فهل يكفيك مبلغ الفي جنيه ؟ عندئذ أحمٌر وجه وهبه .. ورد عليها بأنه ليس من هذا النوع من الرجال الذي يقبل أن يأخذ نقودا من امرأة .. وأنه فخور بذلك . اعتذرت له أصفهان .. وبقي معها في القدس أربعة أيام . ثم عاد الي القاهرة .

*** ودارت أحداث الجزء الثاني من القصة. قبل رحيل وهبه إلي القاهرة .. أخذت أصفهان من وهبه وعدا بأن يعود ليحتفل معها بعيد ميلادها يوم 25 نوفمبر بعد ثمانية عشر يوما. وفور سفر وهبه انطلقت إلي بيروت لتعيش حياة اللامبالاة والسهر .. حيث الحفلات ولعب القمار وتناول الخمر .. وسمع وهبه أن أحد عشاقها وكان يعمل في بنك لبناني قد أعطاها آلاف الجنيهات! وعلي الرغم من أن اصفهان عرفت العديد من الرجال .. إلا أنها لم تحب غير وهبه .. كانت تعطي جسدها فقط لمن هو دونه .. أما قلبها فقد ظل معلقا هناك في القاهرة مع وهبه . ويوم 24 نوفمبر .. عاد وهبه إلي القدس .. واتفق مع أصفهان علي أن يقضيا الليلة التالية معا للاحتفال بعيد ميلادها . وفي الموعد المحدد في التاسعة مساء .. ذهب وهبه إليها لكنه لم يجدها ! وعندما سأل الخادم عنها . أجابه : انها أسفل .. وستخرج سعادتها مع بعض الأصدقاء ! امتلأ وهبه بالغضب وشعر أن الدماء تندفع الي رأسه .. هبط السلالم مسرعا ولم ينتظر المصعد . وبالأسفل وجد أصفهان تقف مع ضابطين بريطانيين .. وكان أحدهما يضع البالطو الفرو حول كتفيها .. وما أن شاهدت وهبه حتي اعتراها الخوف .. لأنها كانت تعلم مدي غيرته عليها ! رسمت أصفهان ابتسامة صفراء علي شفتيها .. وقالت لوهبه باللغة العربية : أرجوك .. لا داعي للفضائح هنا ! ثم أضافت باللغة الإنجليزية الركيكة : اسمح لي أن أقدم إليك صديقي العزيزين .. اللورد هاميلتون واللورد دوجلاس ! عندئذ انحني وهبه .. وأمسك بذراعها قائلا للرجلين : الظاهر أن سموها نسيت أننا دعونا بعض الأصدقاء الذين ينتظروننا بأعلي ! وتقبل الرجلان الموقف ببساطة .. وقاما بتوديعها وتوديع وهبه وانصرفا .. وسحبها وهبه من ذراعها إلي المصعد حيث صعدا إلي جناحها .. وعندما دخلا غرفة الجلوس أغلقت الباب بالمفتاح .. ثم التفت إليها وصفعها بكل قوته علي وجهها مرة واثنتين وثلاثة ! وسقطت أصفهان علي السجادة تبكي .. وبعد بضعه دقائق نهضت وهرعت إلي زجاجة ويسكي .. وضعتها علي فمها لتشرب دون أن تخففها بشيء .. فاسرع وهبه ينتزع الزجاجة منها .. وألقي بها علي الأريكة . لكن اصفهان سقطت علي الأرض وأخذت تقبل قدميه وهي ترجوه أن يصفح عنها . سألها : لماذا فعلت ذلك؟ لقد طلبت مني أن آتي للاحتفال بعيد ميلادك .. ولقد تركت عملي وحضرت .. فلماذا ؟ ردت أصفهان : أنا نفسي لا أعرف لماذا أتصرف بهذه الطريقة .. لكن تذكر يا حبيبي أنني يجب أن أكون لطيفة مع هؤلاء الناس .. لا تنسي أنني أعمل معهم .. وأنني معهم في نفس القارب .. وهبه .. أنا لا أحب سواك ! وهكذا تصالحا .. وقضيا الليلة معا .. وفي صباح اليوم التالي غادر وهبه الفندق واستقل سيارة تاكسي متجها الي محطة القطار .. الذي حمله الي القاهرة . *** استيقظت أصفهان لتكتشف أن وهبه غير موجود .. أسرعت تلتقط سماعة التليفون لتسأل عن مكانه .. فأخبروها أنه رحل عائدا الي القاهرة . لكنها في مساء نفس اليوم ذهبت الي سهرة في ملهي ليلي مع لوردين شابين . وفي اليوم التالي استقلت سيارة من القدس الي بيروت .. وفي يوم 23 ديسمبر 1940 .. اتصلت أصفهان بوهبه من فندق الملك داوود .. لأنها علمت أنها مهما أرسلت له من برقيات فلن يحضر الي القدس .. وتوسلت اليه أن يحضر ليقضي معها عيد الكريسماس ورأس السنة .. وأقسمت له أنها لن تتركه وتذهب لغيره . وكان وهبه يحبها فعلا .. ولهذا غادر القاهرة متجها الي القدس .. وفي الفندق وجدها مستلقية علي الفراش مصابة بحمي شديدة .. فاستدعي طبيبا هو البرفيسور زودك .. الذي كشف علي صدرها بأشعة اكس . *** لكن أصفهان عادت للتدخين والشرب .. واحتضنت وهبه بين ذراعيها طوال الليل .. واعترض وهبه في البداية لكن كل اعتراضاته ذهبت أدراج الرياح أمام مشاعرها الحارة .. كان حبهما لبعضهما أقوي من نصيحة أي دكتور . ثم كان علي وهبه أن يرحل عائدا الي القاهرة.. وسافر بعد أن اتفق مع ممرضة أن تعتني بأصفهان .. وفي يوم رحيله وصل الأمير حسن .. ووقف أمام فراش أصفهان ليبلغها أنه أصبح الآن أضحوكة كل الدروز .. الذين سمعوا بقصة غرامها مع الصحفي المصري. وأضاف الأمير حسن قائلا انه رغم ذلك علي استعداد لأن يصفح عنها ويسامحها وينسي كل شيء .. اذا عادت معه الي بيتها في الجبل ! وعندما رفضت أصفهان هددها الأمير حسن بأن يأخذها بالقوة .. فأسرعت تفتح درجا صغيرا بجوار فراشها .. والتقطت منه زجاجة دواء سام وشربتها بالكامل .. فاندفع الأمير يطلب الطبيب لانقاذها .. وبعد دقائق وصل الطبيب وفتح فمها عنوة وأعطاها دواء جعلها تتقيأ السم ! وبعد أن غادر الطبيب المكان .. قال لها الأمير حسن والدموع في عينيه: تكرهينني لدرجة أنك تفضلين الموت علي الحياة معي ؟! أجابته:أنا لا أكرهك .. لكنني لا أحبك وأنت تعلم ذلك جيدا..أرجوك أعطني حريتي..طلقني ! أحني الأمير رأسه نحو الأرض .. وبعد لحظات رفعها . وقال لها : ليكن الأمر كذلك .. سوف أعطيك الطلاق .. لكن أحذرك اذا عدت أبدا الي بيروت أو الي جبل الدروز .. فسوف تلقين حتفك .. وسوف أضع قناصة في جميع الأنحاء في لبنان وسوريا .. وسوف أعطيهم أوامري لقتلك اذا وقعت أعينهم عليك .. انني لا أحب أن أكون مسخة أو أضحوكة أهلي أو غيرهم ! واستدار ليغادر الغرفة .. بعد أن قال لها : الوداع .. ايملي !

*** ومضي أسبوع..

وتماثلت أصفهان للشفاء .. وأصبحت بصحة جيدة .. علي الرغم من أنها كانت ماتزال هزيلة .. ولم تكن تدري ماذا تفعل .. أو الي أي مكان تذهب .. بسبب تهديد الأمير حسن بقتلها . وفي اليوم التالي .. اتصل بها موظف الاستقبال في الفندق .. وأخبرها أن هناك رجلا يسأل عنها . سألته اصفهان : ما اسمه ؟ رد موظف الاستعلامات : انه يقول أنه الرجل الذي قابلته في القطار يوم غادرت القاهرة في مايو 1940 ! لم تتذكر أصفهان أنها قابلت أي شخص في القطار .. لكن لشعورها بالوحدة والقلق طلبت أن يرسلوا لها هذا الرجل .. الذي دخل عليها وانحني وطبع قبلة علي يدها . أشارت اصفهان نحو المقعد لكي يجلس .. ونظرت اليه بدهشة وهي تحدث نفسها بأنها رأت هذا الرجلا بالفعل من قبل لكنها لا تتذكر أين ؟ قال لها الرجل الغامض : لقد رأيتك في القطار الذي حملك من القاهرة الي القدس .. هل تسمحين لي سموك بأن أتحدث معك بحرية ! ردت أصفهان : بالطبع . قال لها : لقد شيع وضاق البريطانيون منك .. لأنك تتحدثين علانية عن عملك معهم .. وتبوحين بأسرار لا يجب أن يعلمها أحد .. ولذلك فانهم يريدون منك التزام الصمت للأبد ! قاطعته أصفهان : ولكن كيف تسني لك أن تعلم كل ذلك؟ أجابها الرجل الغامض بابتسامة : أن عملي أن أكتشف كل ما فيه الإنجليز والفرنسيون .. أو ما يخططون لعمله ! سألته أصفهان بلهفة : من أنت ؟ رد عليها : سوف تعلمين ذلك .. إذا وافقت علي عرضي . قالت : وما هو عرضك ؟ قال : أن تذهبي معي إلي أنقرة ! ثم استطرد قائلا : وهناك سوف تلتقين برؤسائي الذين أعمل لحسابهم .. وسوف يعطونك تفاصيل عملك الجديد وكل ما تطلبينه من أموال ! لكن أصفهان أخبرته أنها لا يمكنها أن تذهب إلي أنقرة ..لأن ذلك يعني ضرورة مرورها عبر لبنان وسوريا .. وقد تقابل أحدا من قناصة الأمير حسن ويقتلونها . قاطعها الرجل الغامض : أنا أعرف كل شئ عن ذلك ..وأستطيع أن أخفيك في سيارتي حتي معبر الحدود اللبنانية .. ثم نستقل القطار ونستقل قطارا آخر إلي أنقرة ! كانت أصفهان تعلم أن البريطانيين يدرسون كل صغيرة وكبيرة .. ولهذا في النهاية فإنها وافقت علي هذه المغامرة ! *** أرسلت اصفهان برقية إلي وهبه في القاهرة .. وأبلغته فيها أنها ذاهبة إلي أنقرة وسوف تقيم بفندق -أنقرة بالاس -. كانت المسكينة قد فقدت أية قدرة علي التفكير الصحيح .. وفي ذلك الوقت كانت هناك رقابة علي البرقيات . وبالطبع تم قراءة برقيتها .. وتركها البريطانيون تبدأ الرحلة إلي أنقرة .. وتبين أن الرجل الغامض ما هو إلا عميل ألماني من الأعداء .. وفي محطة القطار في تريبولي تم القبض علي أصفهان بواسطة رجال المخابرات البريطانية .. كما ألقوا القبض علي العميل الألماني .. وأجبروا أصفهان علي مغادرة القطار ! واقتاد رجال المخابرات البريطانية أصفهان إلي فندق البارون لقضاء الليلة قبل العودة إلي بيروت في الصباح . وفي اسفل الفندق كان هناك ملهي ليلي .. توجهت إليه اصفهان المساء .. وطلبت ويسكي وطلبت من الفرقة الموسيقية أن تعزف لها لحنا معينا .. ووقفت وزجاجة الويسكي في يدها لتغني لرواد الملهي . وعندما انتهت من الغناء .. دوت الأيدي بالتصفيق الحاد .. وفتحت أصفهان حقيبة يدها .. وأخذت 200 جنيه .. أعطتها بقشيشا لأفراد الفرقة الموسيقية ! *** أعيدت أصفهان بالقوة إلي بيروت .. وهناك نزلت في بيتها المفروش تحت حراسة البوليس العسكري .. وبذلك أصبحت آمنة من قناصة الأمير حسن .. كأن لم تكن هذه هي الحياة التي تريدها . فاتصلت بالكولونيل العام للجيش البريطاني .. وتوسلت إليه أن يتركوها تعود إلي القاهرة .. وقالت إن الأمير حسن سوف يكون مقتنعا تماما إذا غادرت البلاد .. وأنها بذلك ستكون بعيدة عن الخطر وآمنة في القاهرة . وأعطي الكولونيل البريطاني أوامره للمخابرات بأن يدفعوا لها مبلغ 500 جنيه لتغطية نفقاتها لبضعة أشهر في القاهرة ، معتقدا أنها بعودتها إلي مصر ستبدأ الغناء وستكسب النقود مرة أخري .. ولكن أصفهان لم تطلب العودة الي القاهرة لتستعيد حياتها القديمة ، لكنها في الواقع كانت تحن لوهبه ! *** كان الوقت صيف 1944 .. وعندما وصلت أصفهان إلي القاهرة اتصلت بوهبه ، فعلمت أنه ذهب إلي مصيف -رأس البر- .. فاستأجرت سيارة صباح اليوم التالي . كان ذلك يوم الجمعة 14 يوليو وأخذت تحث السائق علي الإسراع ، فقد كانت تريد مفاجأة وهبه علي الغداء ، وكانت تعلم أنه يتناول غداءه عادة الساعة الواحدة بعد الظهر. كانت السيارة تسير عبر طريق سريع .. وفجأة انزلقت السيارة . وفتح السائق الباب المجاور وقفز خارج السيارة ، التي انقلبت وسقطت في ترعة ، بينما أصفهان المسكينة حبيسة داخلها ! وصرخ السائق طالبا النجدة .. لكن كان ذلك يوم الجمعة ، وكان الفلاحون قد ذهبوا لأداء صلاة الجمعة . ولم يحضر أحد قبل مرور نصف ساعة .. وسمعوا قصة السائق وهرع أحدهم إلي قرية مجاورة وذهب إلي عمدة القرية ، الذي اتصل بشرطة مدينة طلخا . وحضرت الشرطة .. وطلبت غواصين نزلوا إلي الترعة .. وفتحوا أبواب السيارة الغارقة وأخرجوا أصفهان منها بصعوبة .. لكن روحها كانت قد فارقت الحياة ، وكان جثمانها مغطي بالطين ، واستطاع أحد رجال الشرطة التعرف علي شخصيتها .. إنها المغنية المشهورة أصفهان ! انتشر الخبر بسرعة في القاهرة .. وحضرت صديقاتها قرب المساء وحملن جثتها معهن إلي القاهرة .. وفي اليوم التالي نشرت الصحف الخبر وأذاعه الراديو في المساء ، وسمعه وهبه بينما كان جالسا لتناول العشاء مع بعض أصدقائه . ترك وهبه المنضدة علي الفور .. واتجه ناحية الشرفة .. نفس الشرفة التي طالما جلس فيها مع أصفهان في صيف 1939 و 1940 وفي صباح اليوم التالي عاد إلي القاهرة .. فقد كان الجميع يعلمون بقصة الحب بينهما .. ولم يشأ احتراما لذكراها أن يفعل ذلك . لكنه بعد يومين ذهب إلي المقابر .. وبحث عن مقبرتها .. وضع باقة زهور كبيرة .. ركع أمام المقبرة .. وأحني رأسه . وكان لا يزال يسمعها تغني .. بصوت عميق حزين !